الطفيليون الجُدد.. أضاعوا الخيط والعصفور معاً!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
درسٌ في الديمُقراطية
"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " (عمر بن الخطاب ـ رض ـ)
الطفيليون الجدد.. من هم؟
لا اقصد بالطفيليين الجدد كل الجيل الجديد الذي يختلف بشتى أنواعه عن الجيل الذي سبقه، بل اقصد كل أولئك الذين برزوا في السنوات الأخيرة في حياة العالمين العربي والإسلامي، وهم يقفون حجر عثرة أمام التقدم والتجديد، وهم لا يفقهون معاني التغيير التاريخي الذي هو اكبر منهم، إذ انه سيحصل بالرغم من كل عوائقهم.. إنهم يقفون أمام إرادة التاريخ ليوقفوا عجلة الزمن، وقد نجحوا فعلا ليس في توقيفها، بل في إرجاعها إلى الوراء.. الطفيليون الجدد كل من يريد أن يبقى أسير الشعارات الماكرة والخداع والتضليل والهوس العاطفي.. كل من لا يؤمن بالديمقراطية والحريات كأسلوب متقدم في الحياة.. كل من يحتكر " الإسلام " ويقول بأنه ضد الديمقراطية.. أو أن يلغي الجوانب الحضارية المضيئة في تاريخنا ويقفل نفسه عن العالم.. كلّ من يجعل ينفي الآخر ويقصيه لأسباب تكفيرية أو طائفية أو شوفينية أو مذهبية.. الطفيليون الجدد هم ورثة الطفيليين القدماء الذين كانت لهم مسؤولياتهم في صنع هزائم القرن العشرين. إن القدماء قد استخدموا الديمقراطية ظلما وعدوانا لكي يرثها الجدد.. فاشاعوا كل التعابير المشينة ضد التيارات الفكرية والسياسية من دون أي وازع أخلاقي ديمقراطي يؤمن للآخرين احترام قيمهم وأفكارهم ومعتقداتهم.. حتى وان كان التضاد معهم في أقوى تفاعلاته، ونحن نرى اليوم ما يطلق من شتائم وسباب ضد الليبراليين وغيرهم ـ مثلا ـ وكأنهم رجس من عمل الشيطان!! إن سرعة الأحكام القاذفة وإطلاق التهم الجاهزة ليست من أخلاق الإنسان ولا من حقوقه.. إن الديمقراطيات المزيفة في العالمين العربي والإسلامي بحاجة ماسة إلى أن تعّرى ويكشف عن كل عوراتها.. دعونا نحلل نقديا بعض الرؤى:
التحولات بين الانفتاح والانغلاق
إن كل من يقرأ تحولات التاريخ البشري، سيعلم بأن العرب والمسلمين لم ينتشروا على العالم إلا بعد انفتاحهم على العالم في الشرق والغرب، وان كل حضاراتهم القديمة والوسيطة ما كانت لتزدهر إلا بعد اندماجهم بالمجتمعات الأخرى، والتي تعلموا منها الكثير، بل واستخدموا أساليب جديدة في التواصل والانعكاس الثنائي.. الطفيليون الجدد اليوم قد أضاعوا الماضي والحاضر معا، فلا هم بمدركين تحولاتهم عبر مئات السنين إذ تجدهم يحتشدون في زاوية متراصة واحدة وقد كبلوا أنفسهم عن بقية الزوايا الأخرى.. ولا هم بمشاركين هذا العصر قوته وأسرار تفاعلاته إذ انعزلوا تماما عن الاستجابة لتحدياته! أنهم كانوا وما زالوا غرقى في مؤدلجاتهم ورموزهم، فكيف بهم ينخرطون ليكونوا من الديمقراطيين؟ إن من له انتماء عقائدي سياسي أو شوفيني عرقي أو طائفي ومذهبي.. لا يمكنه أن يكون ديمقراطي حّر أبدا.. وإذا كان المتحزبون الدينيون في كل أحزابهم وجماعاتهم ـ مثلا ـ واضحين في هذا ويعلنوا عدم إيمانهم بالديمقراطية، فان مجرد دخولهم لعبة الديمقراطية هو نسف لها من الجذور! كما هو حال أي عقائديين سياسيين آخرين، يلعبون بالديمقراطية شعارا وتطبيقا، ولكنه لا يؤمن بها أبدا.
لقد أضاع كل من العالمين العربي والإسلامي الفرص السانحة التي مرت على شعوبهما منذ قرنين من الزمن.. ولم يفشل الطفيليون الجدد سياسيا في صنع القرارات المصيرية والإستراتيجية حسب، بل خسروا أيضا كل مقومات الدفع الحضاري وأسباب التسارع التاريخي.. واستطيع القول أن مجتمعات إسلامية أخرى في هذا العالم تجد في العزلة كالتي يثوى العرب فيها، أسلوب خلاص من هذا العالم المعاصر الذي وصف في القرن العشرين بـ " الجاهلية "، وإذا كان هذا " التوصيف " قد مّر عليه قرابة نصف قرن، فماذا سيكون توصيف القرن الواحد والعشرين بكل ما حظي به العالم المعاصر اليوم من انفتاحات وقوى وهيمنة وامتدادات واختراقات؟؟ ومع كل الأسف بالرغم من كل ما يستخدمه الجميع من آخر مبتكرات تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات المتطورة.. لم نزل نسمع بمن يتخّوف من الغزو الثقافي.. وكأن مرئيات العالم كله لم يدخل ابدا إلى حجرات بيوتنا ومخادع نومنا؟؟
مشكلة الجيل الجديد
لقد بات الملايين من العرب والمسلمين في عالميهم الواسعين.. لا ينتجون وهم يستهلكون.. ينامون ولا يستيقظون.. يتراجعون ولا يتقدمون لأن اغلبهم من الأميين.. ( الأرقام التي سأعرضها في محاضرتي السنوية عن حصيلة 2006 والرؤية الى العام 2007 في منتدى دراسات المستقبل هذا الشهر هي مذهلة لا يمكن تخيلها عن مدى الضعف والتراجع الذي وصل اليه العرب ونسب الأمية في أوطانهم ).. ولم يعد ينفع لا الخطاب ولا النقد لا على مستوى الدول وأنظمة الحكم ولا على مستوى المجتمعات وقواها المحلية في كل التكوينات التي نعرفها في عالمينا. ان مشكلة الجيل الجديد الذي سيتسّلم مقاليد الحياة بعد سنوات قريبة من اليوم انه قد ترّبى في واقع منسحق مليء بالتناقضات والأوهام والشعارات والأكاذيب، وقد نال نصيبا هائلا من تأثير الاستبداد والتخّلف وضياع الزمن..
إن الجيل الجديد في المجتمعات العربية والإسلامية، مشلول الحركة كونه يصارع على جبهتين اثنتين: جبهة داخلية متوقفة عن النمو تماما ـ إذا حق لي استعارة تعبير المؤرخ البريطاني الراحل ارنولد توينبي ـ وجبهة خارجية تتقدم بشكل مذهل لا يمكن تخيّله في كل دقيقة تمر! انه جيل متقهقر فكريا ونفسيا يقع بين أغلبية من الطفيليين الجدد بأرواح متهرئة قديمة لا حياة فيها وهي مسيطرة تماما على كل الأنفاس والعقول إعلاميا وتربويا وسياسيا بأساليب ماكرة.. وبين أقلية من صفوة النخب المثقفة الخائفة اللائذة بالستر والدفع بالتي هي أحسن في عالم متوحش يغيب عنه يوما بعد اليوم القانون والتنظيم والحرية والتفكير! مشكلتنا اليوم مع أناس طوباويين يتوهمون المستقبل لهم ويتخيلون العظمة لهم، ولكنهم لا يعرفون ماذا يريدون لا اليوم ولا في قابل الأيام.. إنهم يعيشون ضياع الفكر وتشتت التفكير وانعدام البرامج وتهافت المناهج واغتراب السياسة وتناقض المفاهيم وزئبقية المواقف وصدام الطوائف والملل..
الطفيليون الجدد لا يدركون أين تكمن مصالحهم الأساسية لأنهم يتوزعون على نحو غير فاعل بين الدين والدنيا، فلا هم يعرفون الوسطية الحقيقية، ولا الحيادية والتحييد، ولا تأسيس العلاقة بين الماضي والحاضر، وحتى إن نجحوا في مسك العصا من الوسط، فلقد تشتتوا في أحزاب وشيع وجماعات وقوى وتكتلات تتراوح نسبة ضياعها من التكفيرية والممانعة والعصيان والتمرد والتعصّب والوثنية السياسية والحدود والاتهامات والقتل بمختلف الطرق.. بل ووصل الأمر إلى أقصى درجات الإجرام بالذبح على الاسم والهوية.. إن مجتمعاتنا سيزحف عليها كلها هذا الوباء القاتل ليجعلها تعيش أقصى درجات القهر الاجتماعي بوسائل وأدوات " دينية " أو طائفية أو مذهبية او وثنية سياسية.. ان المشكلات اكبر بكثير من حجم من يعالجها، وحتى أولئك الذين تجدهم يحملون فكرا ثنائيا دينيا ومدنيا ويدافعون عن حقوق الإنسان تراهم يتشبثون بمرجعياتهم الاجتماعية الغارقة في التخلف والمأساة!
الديمقراطية.. منهج حياة وتفكير مجتمع منّظم
الديمقراطية، كما يعرفها كل العالم اليوم، هي أسلوب يعمل من تلقاء ذاته ضمن ميكانزمات تطورت على مراحل من التغيير، أما التجارب الديمقراطية في المجتمعات المتخلفة فتبقى تعيش بين فشل ونجاح لازمان غير منظورة. والمشكلة ليست في الديمقراطية كمنهج حياة وأداة سياسة وأسلوب تفكير وانطلاق إرادة تجسد جميعها معاني الحريات بأسمى معانيها، بل المشكلة في الذهنيات المركبة والعقليات الثخينة والغباء المفرط والمطلقات التي لا تحدها حدود والنسبية المعدومة وبقايا السكونيات ودوامة التناقضات واختلاط الثنائيات واغترابات التجديد.. الديمقراطية لا تبنى في يوم وليلة كما يريدها البعض وكأنها بيض مسلوق لا يعرفون تقشيره! إنها مفهوم صعب وتطبيق تاريخي في آن واحد، وهي ديناميكية متجددة يتربى عليها الإنسان طوال حياته، وأنها تنظيمية اجتماعية وليست تقاليد مستنسخة ضمن عمليات سياسية سريعة..
كل التاريخ الماضي يبرهن على أن الديمقراطية المنجزة في بلدان ومجتمعات معروفة لم تكن إلا مرحلة متقدمة أو تجسيدا مرحليا لها تلتها مراحل أخرى متتالية تعلم منها الإنسان الدروس تلو الدروس.. ولكن أي إنسان؟ الإنسان المؤمن بالحريات والإنسان الذي يفكر ضمن نسبية الأشياء.. والإنسان الذي يتقّبل الآخرين بالرغم من الاختلاف معهم.. والإنسان الذي لا يجعل نفسه فوق العالم.. والإنسان الذي يريد الخير للجميع.. إنها ليست صفات سياسية أو مجرد شعارات للاستهلاك، بل أنها طريقة لتنظيم الروابط الاجتماعية وإطلاق الرؤى وممارسة الحرية. وعليه، فهي قيمة تاريخية لا تقدر بثمن.. إنها تعني الخروج عن طور التقديس إلى طور الاحترام.. والتحّول من نزق العواطف الى تحكيم العقل.. والانتقال من ربقة المؤدلجات والرومانسيات إلى اعتماد المصالح والبراغماتيات..
من الفجائع التي ابتليت بها مجتمعاتنا، تسويغ الطفيليون للديمقراطية حسب مقاساتهم، الم تراقبوا معي ما يحدث في كل سنة من السنين ومنذ قرابة عشر سنوات، إن هناك تفجير مشكلة تافهة تأخذ حيزا كبيرا من الاهتمام والتفكير وكلها تتطرق إلى أمور ثقافية واجتماعية وسياسية لا يمكن أن تحدد مشكلتها بالحسم.. مرة بتكفير كاتب على نص قديم، ومرة بتهجير مفكر على اجتهاد علمي، ومرة بالحكم على طبيبة كاتبة يسارية، ومرة بالتهجم على روائي كبير لحّز رقبته، ومرة بتكفير مطربة شبهّت نفسها بالقداسة.. ومرة بإدانة رواية أدبية عادية، ومرة باتهام احدهم بالاتصال مع جهة أجنبية، ومرة بتهديد ووعيد يتلقاه كاتب ومفكر حتى يتوقف عن الكتابة ثم يهاجر.. ومرة بتجريم وزير ثقافة اثر تصريح عادي عن زي من الأزياء قاله من دون أن يفكر بأبعاده.. الخ انه استغلال باسم الديمقراطية لمحاكمة او تجريم أو إقصاء أو فصل بين الأزواج أو نفي أو قتل.. الخ فإذا كنتم قد امتلكتم نفوذكم باسم الديمقراطية فلماذا لا تكونوا من الديمقراطيين؟
الاستبداد يتغلغل في كل المفاصل
يقول ايان شابيرو في كتابه عن النظرية الديمقراطية بأن " الأحادية تخلق الاستبداد، والاستبداد نقيض الديمقراطية.. " وإذا ما عرفنا بأن مجتمعاتنا مرادفة ليس لأي استبداد، بل للاستبداد الشرقي منذ الطفولة حتى الموت مجتمعاتنا القوي فيها يأكل الضعيف.. ومجتمعاتنا ذكورية تسحق فيها حقوق المرأة، بل ومن المؤسف ان تصبح المرأة مدافعة في بعض الأحيان عن الظلم الواقع عليها.. ومجتمعاتنا لا تعرف اية ضمانات للمسحوقين.. ومجتمعاتنا اغلبياتها تنتهك حقوق اقلياتها حتى بتسفيه المعاني والرموز والتواريخ وحتى المعابد.. مجتمعاتنا تزداد ضياعا مذ خرجت من مرحلة نصف قرن سحقت فيها الحريات وتربت اجيال على الرعب والخوف والحروب الأهلية والإقليمية والاحتلالات الأجنبية والإعلاميات البليدة.. مجتمعاتنا لا تعرف الديمقراطية لا في البيوت ولا في المدارس ولا في الجامعات ولا في الشوارع ولا في الأزقة ولا في الحارات ولا في المؤسسات ولا في الدوائر ولا في أكثر وسائل الإعلام انفتاحا ولا حتى تحت قباب البرلمانات.. فالبرلمانات العربية يعشش فيها أناس جهلة لا يفقهون ابسط معاني الحياة المدنية ومبادئ المعرفة العامة.
لماذا نضحك على أنفسنا ونتشدق بالديمقراطية ومجتمعاتنا لا تفقه معاني الحرية ولا تفهم خصب قبول الآخر ولا تحترم الرأي الآخر.. إن مجتمعاتنا لم تختزل الزمن منذ البدء بأكذوبة النهضة او أكذوبة الثورة أو أكذوبة الوحدة او أكذوبة الحرية او أكذوبة التقدمية او أكذوبة الاشتراكية او أكذوبة الطليعية او أكذوبة الحياة الجديدة.. الخ مجتمعاتنا عاشت ولما تزل على مجموعة " أكاذيب " هي شعارات رنانة، ومفبركات طنانة.. تخرّج من تحت عباءتها ملايين من البشر لا يفقهون كيف يتصرّفون ولا كيف يتقبّلون المجابهات ولا كيف يتعلّمون من الآخرين.. إنهم كانوا وما زالوا يتشدقون بـ " الديمقراطية " التي لا يدركون فلسفتها ومعانيها.. إن من يتمثّلها ينبغي أن يتقّبل كل الآراء من دون ان يهمّش هذا او يقصي ذاك.. من دون ان يكره هذا او يمقت ذاك.. من دون ان يكفّر هذا ويحلل قتل ذاك.. من دون ان يحارب هذا برزقه او ينفى هذا لرأيه.. من دون أن يكره العالم ويمتلئ غيظا وحقدا على الدنيا ولا يعرف العالم كنه مشكلاتنا وقضايانا!
على من يؤمن بالديمقراطية الإيمان بالاختلاف مهما كان حجمه ثقيلا عليه.. ان من يؤمن بالديمقراطية عليه أن يحترم من يخالفه الرأي والتفكير معا.. ان من يؤمن بالديمقراطية عليه إن لا يجعل رأيه بمثابة المقدس وينفي عن الناس رأي الآخرين.. ولكن اذا كان الآخرون يؤمنون بالديمقراطية ويعملون بمبادئها، فعليهم تقّبل كل الأضداد.. إن من يؤمن بالديمقراطية عليه أن يعترف بالتعددية ويتسامح ويقتنع بالسبل النافذة.. إن من يؤمن بالديمقراطية عليه أن يعترف بمفاهيمها في الإنتاج والاستهلاكية وفي استقلالية الفرد وانفتاح المجتمعات وشفافية الرأي وحرية المعتقد واحترام المعرفة.. إن من يؤمن بالديمقراطية عليه أن يعمل على توليف الأضداد..
المجتمعات تخلق حالاتها
نعم، إن " المجتمعات تخلق حالاتها " ـ على حد رأي ماكس فيبر ـ وان القوة لا تستطيع وحدها ان تخلق ديمقراطية والديمقراطية لا تخلق بين عشية وضحاها في بلدان لا تعرف أبدا الديمقراطية في تاريخها.. على الإنسان أن يرفع من دماغه مثاليات الأشياء وكأن ما يؤمن به هو الصواب دوما.. إن مجتمعاتنا إما أن تؤله قادتها وأما أن تسحقهم.. وقادة هذه المجتمعات لا يختلفون عن مجتمعاتهم في شيء من الأشياء! مجتمعاتنا لا تفّرق بين المعاني والأشياء.. مجتمعاتنا لا تمّيز في التعامل بين الشخوص على أساس الإنسان، بل تصنّف الشخص على أساس قبيلته أو عائلته أو إقطاعيته أو جهويته أو دينه أو مذهبه أو طائفته أو ملّته.. بل الأتعس من كل هذا وذاك يؤخذ الأب بجريرة ابنه والبنت بجريرة أمها والزوجة بجريرة زوجها.. وهكذا، فالأمور مختلطة وفوضوية الى الدرجة التي لا يمكن التدقيق فيها على درجة من اللقانة والوضوح.
انه حالة محرجة جدا يجد من يؤمن حقا بالديمقراطية نفسه فيها، او من يضعه الناس فيها في الحقيقة! ان من يؤمن بالديمقراطية ينبغي ان يركن عواطفه في قوالب ثلج.. وان يؤجل ذخيرته الإيديولوجية في الأدراج البعيدة، حتى يتخّلص من آثارها القاتلة.. وان يتصّرف بما يؤهله عقله وثقافته ومعرفته، وبما تمليه عليه إرادة التقدم والصالح العام كما يراها من هو أفضل منه، إذ لابد أن يواجه من يختلف عنه بالفكرة لا بالعاطفة وبالحجة مقابل الحجة لا بالشتائم والتقليل من شأن الآخر، إذ أن من لم يحسن الوقوف والمواجهة والمجادلة بالتي هي احسن، فعليه ان لا يسب ولا يشتم ولا يسّفه رأي الآخر الا بأسلحة مماثلة.. إن العرب إذا ما اختلفوا مع من يخالفهم الرأي يسبونه ويشتمونه انهم يستحضرون نزعة الهجاء المترسخة لديهم في جيناتهم وكروموسوماتهم منذ آلاف السنين! انه النضوب والعجز والبلادة.. انه الوشل والتعصب والكراهية او انه يسفّه الرأي الآخر من دون ان يأتي بالبديل.. هناك من يقدم الإحكام على الأشياء ويقوّم الأمور نظرا لما لديه من خبرة او قياس ولكن ليس شرطا ان يكون الرأي مقبولا من الجميع في الحياة الديمقراطية..
الم تشبعوا من الكلام الفضفاض.. ومن المواعظ والتلقينات؟
إن حياتنا العربية غدت ذات مشاهد مخزية في كل جنباتها بعد أن تيبّست الضمائر وبعد أن بقي جيل الأمس يسيطر على روح الحياة.. إن الجيل الجديد ليس له أي متنفس للتقدم وهو بالتأكيد أفضل من الأجيال السابقة، ولكنه يبدو على أسوأ ما يكون لأنه يبدو مريضا كسيحا لا يقوى على الحياة إزاء هذه الوحوش الكاسرة.. انه منشغل بما يلبس وبما يلعب وبما يهذي وبما يسمع.. انه منشغل بتفاهات الأمور التي يفرضها عليه سدنة التقاليد المميتة! وجدت شابا رائعا يقول: " لم يعد بمقدوري ان استوعب هذه الحياة العربية التي لا أجد شيئا يخلب الألباب فيها.. لست حرا في أوطان تكّبل تفكيري وإرادتي ومصيري.. لقد شبعنا من مدونات الكتّاب البليدة ومن مواعظ الواعظين التافهة وخطابات السياسيين الممجوجة "، لقد تشرب هذا الجيل بكل ما تشرّب به الجيل السابق من الشعارات الزائفة والمواعظ الخطيرة التي تركت آثارها في كل العقول!! وعلينا بناء سلطة القول والصورة في أعماقنا، وهذه حكمة التقطتها من مارك اوجيه.. فكيف نفسّر ذلك؟
الديمقراطية: بناء سلطة القول والصورة
انه أمل رائع أن نصل في يوم من الأيام الى تحقيقي هذا المعنى من خلال الديمقراطية.. ولكن علينا أن نفكّر أولا في مشكلاتنا المستحكمة في الدواخل كي يمكننا إقامة الأسس الحقيقية للتحولات التاريخية. ثمة نماذج من مشكلاتنا في سيرورة التحولات.. المشكلة في استبداد الزعامات.. واستعراض المفاخر والعضلات.. المشكلة في الحراشف والزعانف والأعوان واللجان والضياع في التفريعات.. المشكلة في المكابرة والتسلط ومواريث التقاليد البالية.. المشكلة في إضاعة الزمن وخلق المعاذير والتبريرات.. المشكلة في الرموز لعلاقات النفوذ وقوة الخصوصيات ـ كالتي شرحها بورديو ـ، المشكلة في ما يكتب من مدونات وما يلقى من مواعظ وما يجري من تلقينات.. انها من مخلفات جيل سيرحل عاجلا ام آجلا، ولكن ليبقي مواريثه وبقاياه عند ورثة النصف الثاني من القرن العشرين.. والنماذج لا تحصى فهي كثيرة، فمثلا مشكلة حقيقية في وسيلة إعلامية يصفونها بالمحترفة وهي تجذب الملايين تروج أكاذيب صحفي قديم بمنتهى الفضيحة، ولا احد يلتفت ليوقف هذيانه على الناس.. المشكلة في كل من يدّعي انه ليبرالي حر وهو لم يزل يدافع عن عهر ما قام به حزبه في الماضي من نضالات! المشكلة أن يتطّفل الآخرون عليك وهم لا دراية لهم في قراءاتك وتخصصك فيستعرضون أنفسهم في ما يكتبون! المشكلة ان يغّلب الأيديولوجي دوما على المعرفي وخصوصا في الحكم على الأشياء والأبطال والشخوص والوقائع لنرى تزويرات تاريخية لا تعد ولا تحصى!! المشكلة في انعدام التقييم بين من هو مؤهل للكلام وبين من هو مؤهل للفعل.. المشكلة في كل من يبقى ضّيق الرؤية ويحكم على الأشياء الصغيرة ويغفل عن الجملة الكلية للأشياء الكبيرة! المشكلة لم تزل حتى اليوم في عبادة الأبطال والقادة بكل ايجابياتهم وسلبياتهم من دون أي حيادية ولا أي موضوعية في تقييم تاريخ مضى كانوا في موقع المسؤولية عنه! المشكلة في مجتمع متراجع جدا وثقافة متهالكة، إذ يجد احدهم نفسه كاتبا ومفكرا ليدعو في مقال له إلى حكم دكتاتور متوحش لا إلى عدالة اجتماعية!! المشكلة في مجتمعات مخترقة سياسيا وإعلاميا من قبل أناس يعيشون هوس الماضي القريب وهم يتقلدون صنع القرار! المشكلة في عدم وضوح الرؤية وتشوشها للفصل بين المعلومة والواقعة من طرف وبين الرأي ووجهة النظر من طرف آخر! المشكلة في حصول تناقضات مفجعة ليس على مستوى أفراد أو جماعات، بل على مستوى كيانات وسياسات دول!! المشكلة اليوم أكثر تعقيدا لأن الجيل الجديد لم يعد يركن لما تعتمده الدولة وسياساتها من برامج ومناهج.. بل استطاع الإنسان أن يتلقى كل الموبقات عن الآخرين من وراء الحدود او من وراء البحار؟؟
ماذا يمكننا أن نفعل؟
إن الديمقراطية مشروع حياة ووجود ومستقبل توفر للإنسان كل ما يريد ولا تنفي عنه كل ما يحب ويهوى.. إنها ليست ضد الإنسان، وليست ضد القيم والمبادئ ولا ضد الأديان والعقائد.. إنها الوسيلة الحقيقية للإنسان كي تجعله إنسانا، بل توفر له كل حرياته وتضمن له كل قيمه وموجوداته ومعتقداته وآرائه وأفكاره.. إنها توفر حرياته الدينية والشخصية والاجتماعية والفكرية والسياسية.. إنها لا تدّمر نظام البراءة والسجايا ـ اذا حق لي استعارة تعبير الصديق الفيلسوف باتريك شارودو في كتابه الجديد عن الخطاب السياسي ـ.. إنها النظام والقانون والفصل بين السلطات.. إنها ليست الفوضى لا المبدعة ولا القاتلة.. إنها ليست مشروعا لقتل الناس وتدمير حياتهم وسحق مجتمعهم.. إنها ليست مجالا للتسييس والادلجة.. إنها ليست قابلة للترويج لأفكار يسارية دون أفكار يمينية.. ولا آراء إباحية على حساب معتقدات دينية.. إنها لا تبيح لأي نظام سياسي او اجتماعي غاشم أن يؤذي الأقليات والملل.. إنها في الضد من الشوفينية القاتلة وضد عبودية التفكير الأحادي وضد عبادة الأشخاص.. إنها تخلق الروعة الوطنية بأسمى معانيها.. إنها لا تخلق العصاة والمتمردين بل تنضج المبدعين وأصحاب الكفاءات وتعتني بالنوادر منهم.. إنها توفر مساحات للنقد لا النقل، إنها تعطي للإنسان قيمته في مجتمعه وعلى أرضه وترابه.. إنها الوسيلة الوحيدة التي يمكننا بها معالجة حاضرنا وبناء مستقبلنا.. وعلى قاعدة مكينة رائعة انطلقت منذ أزمان طوال تقول: " وجادلهم بالتي هي أحسن "! وهل من بناء علاقة نظيفة ومتينة بين الحاكم والمحكوم؟ وهل من تجسير حقيقي بين الزعيم والمثقفين؟ أو بين شرائح الناس العاديين وبين الصفوة العليا من المتنفذين؟
" وجادلهم بالتي هي أحسن"
إن المجتمعات العربية والإسلامية معا تعاني من أوجاع كبيرة ستصل يوما إلى حد الدمار الشامل.. أي أنها ستدمر نفسها بنفسها خصوصا إن كبر هذا النزق واتسع الخرق على الراتق.. وغدا هذا الحلم الكريه الذي يصورنا أحسن تصوير أمام العالم ونحن على العكس من ذلك! هل يمكننا أن نستخدم العقل أداة حقيقية لمجتمعاتنا بديلا عن السكين؟ هل يمكننا أن نخلق فكرة مدنية رائعة بدل سماع الخطابات الرنانة؟ هل يمكننا أن نسمح للطيور تحلق في السماوات الصافية بدل البقاء في الزنازين العفنة؟ هل يمكننا أن نعلن الحقيقة والرأي الجاد أمام الحكام بدل التملق والعبودية؟ هل باستطاعتنا أن نجعل المرأة إنسانا موازيا للرجل يحترمها ويحميها.. لها ما له وعليها ما عليه بحيث تأخذ حقوقها كاملة ونخلق منها مجدلية رائعة بلا نقص في مجتمعاتنا الظالمة؟ هل باستطاعتنا أن نخّلص ثقافتنا وسايكلوجياتنا من انسحاقات الهزائم وتبعية النسّاخ وغرائب الأوهام وجرائم الإعلام؟
هل باستطاعة مثقفينا وساستنا وقادتنا ان يكونوا أسوياء بحيث يعترفون بأخطائهم علنا، فالإنسان خطّاء " وخير الخطائين هم التوابون "؟؟ هل باستطاعتنا أن نرّبي أولادنا على أسلوب المكاشفة والصراحة والشفافية من دون أي مخادعة أو أكاذيب او تزويرات أو أوهام أو حكايا تخيفهم رعبا وتسحق نفسياتهم منذ الصغر؟ هل باستطاعتنا أن نخرج مجتمعاتنا من ثقافة الممانعة والدم وأوهام التصوف والسحر والتشّفي والأحقاد والكراهية والإرهاب؟
وأخيرا: ماذا أتساءل؟ ماذا اقول؟
هل باستطاعتنا أن نبني ذاكرة حقيقية غير مزيفة عن تاريخنا وعن مجتمعنا وعن شخوصنا وعن كل نسيج ثقافتنا في ماضينا وحاضرنا؟ هل باستطاعتنا أن نتخلص من الجلود الملونة كي نتحصّن بجلود بيضاء نقية من أي أوساخ او أي اسوداد او أي دماء؟ علينا أن لا نفرط في السفاهة والاستهتار والتوحش باسم الديمقراطية.. فنحن إن تكلمنا بهذه اللغة، فنحن إذن في بداية طريق طويل جدا.. سيكون مليئا بالأشواك والشجون والهموم.. فالقروح لا تعالج إلا بمبضع طبيب والجروح لا تندمل من دون الآم! اخلص في نهاية المطاف بأن حياتنا إن بقيت رهينة الانغلاق والاستبداد والسطوة والتكفير والإرهاب، وان بقيت يعبث بها الطفيليون الجدد كما يشاءون، وهم الذين أضاعوا الخيط والعصفور.. فإنها ستضمر فاعليتها ليفترسها الأقوياء.. أملي أن تكون هذه " الرسالة " قد وصلت إلى الأذهان والعقول والضمائر وكل الوجدان من اجل حياة جديدة ومستقبل جديد وتاريخ جديد لا يصنعه الطفيليون بل الملتزمون. إنني اذ اكتب في هذا " الموضوع "، فثمة أشياء أخرى بحاجة إلى إفصاح ونقد وتأسيس.. أتمنى الرجوع كرة أخرى لكم لمعالجتها في قابل الأيام بعون الله.