الديموقراطية... فن الاقناع يا عرب!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ليست في العالم مدرسة للحرب الاهلية والديموقراطية السياسية والفكرية والانسانية الكامنة فيها مثل الحرب الاهلية الاميركية قبل نحو 140 سنة (1861 - 1865)، لا في دمويتها ولا في نتائجها. فقد حصدت تلك الحرب ارواح 600 ألف اميركي، في واحدة من اكثر الحروب التي شهدها التاريخ دموية وعنفاً.
وفي هذا كتب البروفيسور آلين غويلزو، الباحث والخبير في قضايا تلك الحرب، يقول: "ان الحكومة الشعبية ليس موضوعها ما نريد او ما نطالب به لأنفسنا، بل هو حول ما لا نريد او ما لا نطالب به من الآخرين. فالديموقراطية نظام انضباطي لتطبيق ضبط النفس، لان المرء لا يستطيع ان يخرج منها بحجة الحرية عندما تجري الرياح السياسية بعكس اتجاهه".
ويضيف البروفيسور غويلزو: "لقد تصور الانفصاليون الجنوبيون انهم يصونون حريتهم بالانفصال عن الاتحاد، لكنهم كانوا على العكس من ذلك ينقضونها. فالانفصاليون، في رأي الرئيس الاميركي ابراهام لينكولن التي جرت الحرب الاهلية في زمن ولايته، "هم جوهر الفوضى، لا الحرية، لأن الحرية الوحيدة في ذهن الانفصاليين هي حرية ان يفعلوا ما يشاءون من غير قيود او ضوابط تجاه اناس لا يعتبرونهم مساوين لهم".
ويخلص الرئيس لينكولن الى القول: "ازاء ذلك لا بد للديموقراطية من ان ترفع السيف، والا بطلت ان تكون ديموقراطية على الاطلاق".
فقد اقنع لينكولن الشعب الاميركي بأن هناك ضعفين اساسيين ينخران اميركا: الاول هو قبولها للعبودية، مما قطع خط المساواة بخط العنصرية، والثاني هو مسألة السلطة المرجعية في الديموقراطية. ففي مجتمع تحمل فيه آراء المواطنين وزناً متساوياً، لا بد من ان يتخذ القرار حسب حكم الاغلبية.
وهذا، اي حكم الاغلبية والمساواة، يعني في رأي البروفيسور غويلزو: "انك لا تستطيع ان تلقي على كاهل الآخرين اعباء لا ترغب في ان تلقى على كاهلك انت. فالعبودية كانت بغيضة على مفهوم المساواة، لا لأنها عاملت افراد جنس آخر على اساس عدم المساواة، بل لأنها سمحت لجنس معين ان يستغل جنساً آخر بغير ضوابط".
وشرح الرئيس لينكولن افكاره للاميركيين حول هذا الموضوع في عام 1858 بقوله: "طالما أنني لا اريد ان اكون عبداً، فأنا لا اريد ان اكون سيداً".
ان هذا الكلام هو اوضح تعبير عن الفكرة الحقيقية التي تدور عليها الديموقراطية.
لكن على الرغم من الدمار والحرب استطاع الرئيس لينكولن ان يقنع الاميركيين بأنه كان على حق في سياسته، فأعادوا انتخابه لولاية ثانية. فبأي منطق استطاع لينكولن ان يقنع الشعب الاميركي باعادة انتخابه وتبني سياسته؟
انه لأمر مذهل حقاً ان يأخذ رئيس لبلد منقسم على نفسه مثل هذا الحيز الفكري المتفوق، وهو ليس بطلاً وطنياً، حيث وجد نفسه وسط وابل من النيران تنهمر عليه من كل جانب، يحيط به المنتقدون له من كل جانب، ومن حوله تراشق لا ينقطع بين رجال الكونغرس، وحكام الولايات، وجنرالات الجيش، والساعين الى المناصب، والمواطنين العاديين ايضاً.
كلهم كانوا غاضبين، ومنهم من كان يعتقد مخلصاً بأن الرئيس المنعدم الكفاءة يقود البلاد على طريق الدمار. لكن افكاره المعلنة في بعض خطاباته التي كتبها بنفسه، حيث برهن انه موهوب من هذه الناحية، والمسبوكة في صيغ ومواقف لم تكن ذات شعبية في حينه، هي التي أدت الى الاعتراف به تالياً كقائد سياسي ووطني وديموقراطي حقاً.
وعلى الرغم من كل ما تعرض له من انتقادات واهانات وسط تقاطع النيران بين الاميركيين، فقد ظل لينكولن مؤمناً بالرأي العام. بل ان ايمانه بالرأي العام هو الذي قاده الى الفوز في انتخاب عام 1858، ضد خصمه ستيفن دوغلاس الذي تغطى بالآباء المؤسسين للدفاع عن نظام العبودية، مثبتاً ان هذا التغطي يؤدي بصاحبه الى التعرية. فقد قال في ذلك النقاش مع منافسه: "لا شيء يخفق مع المشاعر العامة. فبدونها لا يفلح شيء. وبالتالي فان الذي يصوغ ويجسد المشاعر العامة، يذهب اعمق من الذي يسن القوانين، او ينطق بالقرارات. فهو قد يجعل القوانين والقرارات ممكنة او غير ممكنة التنفيذ. هذا ما يجب ان يؤخذ بالاعتبار، بالاضافة الى كون القاضي دوغلاس رجلاً واسع النفوذ، بل ان نفوذه واسع الى درجة يحمل كثيرين على الاعتقاد بما يعتقده".
لكن الاعتقاد على اساس النفوذ ليس كالاعتقاد على اساس الاقناع. فالذي يقود الناس بالنفوذ يخسر، والذي يقود الناس بالاقناع يفوز باتخاذهم اصدقاء. وقد اوضح لينكولن ذلك بشفافية في مستهل حياته السياسية، حيث قال: "اذا اردت ان تكسب شخصاً الى قضيتك، فيجب ان تقنعه اولاً بأنك صديق مخلص له".
ومما لا شك فيه ان لينكولن في مسألة الاقناع قد تأثر بأفكار الفيلسوف الاغريقي أرسطو القائل بأن الاحكام التي نطلقها ونحن في حالة من البهجة والود، غير الاحكام التي نطلقها ونحن في حالة من الضيم والعداوة.
ومن ذلك تحديداً ما قاله ارسطو في كتابه "فن الكلام": "يتحقق الاقناع من خلال شخصية المتكلم بحيث يحملنا خطابه على الاعتقاد بأنه صادق وموثوق. ونحن نصدق الاشخاص الصالحين الطيبين اكثر مما نصدق غيرهم. وهذا صحيح عموماً بصرف النظر عن المسألة المطروحة للنقاش. وهو صحيح بالمطلق حيث يتعذر اليقين التام وتنقسم الآراء".
وعندما القى لينكولن اول خطاب سياسي في مستهل حياته السياسية، في مطلع اربعينات القرن التاسع عشر، قالت تقارير صحافية عنه: "انه كخطيب يتميز بالاخلاص، والجرأة، والصراحة، والامانة التي تشد انتباه المستمع وتكسب ثقته".
وفي الرئاسة استمر لينكولن على هذا المنوال. إذ بدلاً من محاولة اقناع الآخرين بتغيير مفاهيمهم المسبقة، صب اهتمامه على جعلهم ينظرون اليه بأنه مخلص وموثوق اياً كانت اخطاؤه ومعايبه.
وعندما اصدر الكونغرس قانون المصادرة الثاني الذي يقضي بمصادرة ممتلكات الجنوبيين بما فيها العبيد، وتردد الرئيس لينكولن في تطبيقه، كتب رئيس تحرير جريدة "نيويورك تريبيون" التي كان يراسلها من الجزائر في ذلك الوقت المفكر العالمي كارل ماركس، ويدعى هوراس غريلي الذي كان زميلاً له في الكونغرس، يقول منتقداً تردد الرئيس: "نطلب منك، بصفتك الخادم الاول للجمهورية، مؤتمناً على هذا الواجب خصيصاً وبصفة دائمة، ان تطبق هذه القوانين المقررة اخيراً. اننا نشدد في مطالبتنا على قيامك بتنفيذها كاملة، وان تقوم علناً وبصورة حاسمة باصدار تعليمات الى مرؤوسيك بأن هذه القوانين قائمة، وانها ملزمة لجميع الموظفين والمسؤولين والمواطنين، وان عليهم طاعتها بكل تفاصيلها، لأنه من المفترض انها تجسد الارادة الراهنة للجمهورية وتمليها احتياجاتها القائمة".
ومع ذلك، فقد لخص كاتب هذا المقال الافتتاحي في جريدة "نيويورك تريبيون" شخصية لينكولن بقوله: "ان قوة لينكولن ليست في حضوره او في خطابه، بل هي في اخلاص الرجل وأمانته المجيدة والمنعشة".
وقد انبرى الرئيس لينكولن للرد بقلمه على رئيس تحرير الجريدة المذكورة بمقال تاريخي اعتبر فيه "صلاة" رئيس التحرير غطاء لهجوم شديد مقنع ضده، وبعد معاتبة رقيقة له كصديق قديم كان يفترض دائماً صدق نواياه، يصل الى لب الموضوع في دفاعه عن الجمهورية والاتحاد بقوله: "سوف انقذ الاتحاد. سوف انقذه بأقصر الطرق التي يتيحها الدستور. وكلما اسرعنا في استرداد السلطة الوطنية كلما اقتربنا من اعادة الاتحاد الى ما كان عليه. واذا كان هناك من لا يريد انقاذ الاتحاد الا بانقاذ نظام العبودية، فانني لا اتفق معهم. واذا كان هناك من لا يريد انقاذ الاتحاد الا بتحطيم نظام العبودية في الوقت ذاته، فانني لا اتفق معهم. ان هدفي الاعلى في هذا الصراع هو انقاذ الاتحاد، وليس انقاذ او تحطيم نظام العبودية. فاذا امكنني انقاذ الاتحاد من غير ان اعتق عبداً واحداً فانني افعل ذلك. واذا كان بمقدوري ان انقذ الاتحاد باعتاق جميع العبيد فانني افعل ذلك. واذا كان بمقدوري ان انقذه باعتاق بعض العبيد وترك الآخرين يرزحون في العبودية، فانني افعل ذلك. ان ما افعله بالنسبة الى نظام العبودية والعرق الملوّن انما افعله لاعتقادي بأنه يساعد على انقاذ الاتحاد. وما اتغاضى عنه يدفعني اليه اعتقادي بأنه لا يسعف في انقاذ الاتحاد. انني افعل اقل مما يجب كلما شعرت بأن ما افعله قد يؤذي القضية ويضر بها، وافعل اكثر مما يجب عندما اعتقد بأن عمل المزيد يسعف القضية. احاول تصحيح الاخطاء اذا ثبت لي انها اخطاء، وأتبنى الآراء الجديدة بالسرعة التي تظهر معها بأنها آراء صحيحة وحقيقية. لقد اعلنت هنا هدفي بما يمليه علي واجبي الرسمي. لكنني لا انوي تعديل رغباتي الشخصية التي طالما عبرت عنها، ومؤداها ان بامكان جميع الناس ان يكونوا احراراً".
ومع ان هناك من اعتبر هذه المساجلة الصحافية، بين رئيس الدولة ورئيس تحرير احدى الصحف المؤثرة، سابقة غير مألوفة في عالم السياسة في ذلك الوقت، فان النظرة اليها لاحقاً اعتبرتها ارفع ما وصل اليه فن الاقناع في الدولة الديموقراطية لتشكيل الرأي العام من خلال تثقيفه وتنويره بالمنطق والعقل في المنعطفات المصيرية الخطرة على كيان البلاد ووجود دولة القانون. وقد اعتبر بعض المعاصرين لمرحلة لينكولن ان تلك المساجلة كانت طريقة عبقرية في تحضير البلاد لانعطاف سياسي غير منتظر. بل ان غريلي، رئيس تحرير جريدة "نيويورك تريبيون" نفسه، كان يعتقد بأن الرئيس لينكولن لم يكتب رسالته المشار اليها كرد على افتتاحيته، بل كان قد كتبها قبل ظهور افتتاحيته، لكنه اتخذ من تلك الافتتاحية مناسبة او ذريعة للافصاح عن آرائه المتبلورة لديه في الظروف المستجدة التي تملي مواقف اكثر اعتدالاً.
والى جانب الاجماع في الاعجاب بمهارة لينكولن وقوته في التعبير عن مواقفه وتحديد اتجاه سياسته، فان لينكولن نفسه كان يضع الرأي العام نصب عينيه في المقام الاول، من خلال الواقعية المتمثلة بمستوى ثقافة الجمهور، ومن خلال امكانية التنفيذ في الظروف السائدة. ولذلك نسب اليه قوله بعد تلك المساجلة الصحافية بفترة: "انني كنت اعلن من خلال رسالتي هذه انني مستعد للاعلان عن اعتاق العبيد حالما أتيقن ان ذلك يمكن تطبيقه بشكل فعال، وحالما اشعر بان الشعب يقف معي في ذلك".
اما الآن والبلاد العربية تمر في ظروف مصيرية تنذر بحروب اهلية، فانه يخطر للمرء ان يسأل: "هل هناك لينكولن ما في بعض البلدان العربية المضطربة اهلياً"؟
فكلما اشتد الصراع الاهلي في العراق، ولبنان، وفلسطين، والصومال، والسودان، يتبادر الى الذهن دور الرئيس لينكولن في الحرب الاهلية الاميركية، ويبدو له ان هذه البلدان بحاجة الى قيادات سياسية تاريخية من هذا النوع، لكن في اطار نظام سياسي يكفل عدم استئثار اي فريق عرقي او ديني بالسلطة، ليلقي على كاهل الآخرين، ما لا يريد ان يُلقى على كاهله.
فهل في الافق قيادات تأخذنا بالاقناع، ولا تسوقنا بالغرائز؟
هذا هو السؤال!
الكاتب باحث سياسي واقتصادي في شؤون العالم العربي، مقيم في واشنطن، وتنشر "ايلاف" المقال بالاتفاق مع تقرير "الديبلوماسي" الذي يصدره ويحرره من لندن ريمون عطا الله