المشروع الديمقراطي في العراق والأوضاع الراهنة*
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قد يتبادر إلى ذهن البعض أن ما يجري في العراق من مآسي مؤلمة يجعل الحديث عن الديمقراطية نوع من الترف والبطر. ولكن في الحقيقة لو تأملنا الأمر جيداً لعرفنا إن ما يجري ما هو إلا معركة من تلك المعارك المصيرية الكبرى عندما يكون التاريخ في أشد عنفوانه عربدة. إنها معركة بين أنصار الديمقراطية وأعدائها، بين الشعب وأعدائه، بين الحضارة وحقوق الإنسان وحق الشعب في حكم نفسه بنفسه من جهة وبين الهمجية وقوى الإرهاب التي تريد مصادرة هذه الحقوق وفرض حكمها بالنار والحديد. فأي تخل عن الديمقراطية يعني الاستسلام التام للقوى الظلامية الشريرة التي تريد إعادة العراق إلى حكم البعث الجائر، أو إلى إقامة دولة طالبان أخرى لأيتام الزرقاوي. ولن أبالغ إذا قلت أن مستقبل المنطقة كلها يعتمد على ما تفضي إليه نتائج هذه المعركة الحامية الوطيس التي اختار التاريخ العراق ساحة لها.
مستقبل الديمقراطية
لا شك إن محاولة الخوض في المستقبل لا تخلو من مغامرة، خاصة في عصرنا الحاضر، حيث التحولات السريعة، وندرك جيداً أن الإنسان لا يعرف شيئاً مما يسمى بعلم الغيب. ولكن هناك تجارب تاريخية لشعوب مرت بظروف قاهرة مثل ما يمر بها العراق اليوم، يمكن الاعتماد عليها لمعرفة ما يخبئه المستقبل لبلادنا. إذ هناك مقولة تفيد: أن البلدان المتقدمة تمثل مستقبل البلدان المتخلفة، لأن البلدان المتقدمة هي نفسها كانت متخلفة في الماضي. ومعظم الدول الديمقراطية العريقة اليوم قد خاضت حروباً أهلية، دينية وطائفية وعرقية، كما حصل ذلك في أوربا وأمريكا. فمرحلة المخاض العسير لا مناص منها ولا بد أن يمر بها كل شعب وهو يحث الخطى نحو التقدم الحضاري.
الوضع الراهن
لذلك وقبل الخوض عن مستقبل الديمقراطية في العراق، أرى من الضروري أن ألقي بعض الضوء ولو بإيجاز شديد، على الوضع الحالي المأساوي، ولماذا يمر العراق بهذه الفوضى العارمة؟
يقول الفيلسوف الألماني هيغل: "إن ولادة الأشياء العظيمة دائماً مصحوبة بألم". ولا شك أن الديمقراطية هي من أعظم منجزات الحضارة البشرية، لذلك فولادتها في أي مكان من العالم كانت دائماً وأبداً مصحوبة بمخاض عسير، وغالباً ما كانت تحتاج إلى عملية جراحية قيصرية على شكل حروب أهلية وثورات وانتفاضات شعبية مسلحة، والنموذج العراقي ليس استثناءً. في الحقيقة إن النموذج العراقي هو من أصعب الحالات لأسباب عديدة كما هو واضح مما يجري الآن.
إن الصعوبات التي تواجهها ولادة الديمقراطية في العراق ناتجة عن عوامل عدة تتعلق بخصوصية هذا البلد، منها: الموقع الجغرافي حيث تحيط به جيران معادية له وللتحولات السياسية، والتعددية الديموغرافية من اختلاف عرقي وديني وطائفي، والصراعات المكبوتة بين هذه المكونات بواسطة القمع، فانفجرت بعد سقوط النظام القامع، كذلك التاريخ السياسي الدموي المعقد، والأهم من كل ذلك التركة الثقيلة التي ورثها الشعب من نظام البعث الفاشستي الذي حكم العراق بالنار والحديد لـ 35 سنة، الحزب الذي تبنى أسوأ ما في الآيديولوجية النازية والفاشية، وطبقها بأبشع الوسائل الاستالينية القمعية، كما وزج الشعب العراقي بسلسلة متواصلة من الحروب الداخلية والخارجية، ومارس بحقه سياسة الاضطهاد والتجهيل المتعمد، وتفتيت النسيج الاجتماعي وإعادة المجتمع إلى الوراء، إلى ما قبل نشوء الدولة وتكوين الشعوب. كل هذه العوامل أدت إلى تفجير هذه الصراعات الدموية بعد سقوط نظام القمع الموغل في القسوة، خاصة إذا جاءت الديمقراطية بشكل مفاجئ ودون مراحل التمهيد.
هل يمكن استيراد الديمقراطية وفرضها بالقوة؟
يعترض البعض، سواء عن حسن نية أو سوءها، بأنه لا يمكن تصدير الديمقراطية على الدبابات ومقاتلات الفانتوم وفرضها على الشعوب بالقوة، بل يجب أن تنبع من ثقافة الشعب نفسه. هذا الكلام صحيح في الظاهر، ولكنه من نوع "قول حق يراد به باطل". أمريكا لم تفرض الديمقراطية على العراقيين بالقوة، بل كل ما عملته هو إزالة العقبة الكأداء عن طريق الديمقراطية، وفسح المجال للشعب العراقي وقواه الوطنية أن تبناها كما تريد. وهذا الذي حصل. إذ بلغ الوضع العراقي من التعقيد بسبب قسوة قمع النظام البعثي، بحيث صار من المؤكد أنه لم يكن بإمكان الشعب العراقي تحرير نفسه بنفسه من النظام الدموي. وقد حاول الشعب إسقاط الحكم الجائر عدة مرات على شكل انتفاضات شعبية و انقلابات عسكرية، كلها فشلت بسبب شراسة القمع، وانتهت بالمقابر الجماعية. لذلك اضطر الشعب وقواه الوطنية الاستعانة بالمجتمع الدولي لمساعدته في التخلص من النظام الجائر, والشعب العراقي ليس الشعب الوحيد في التاريخ الذي استعان بالأجنبي لتحريره من حكومته الجائرة، إذ هناك شعوب أخرى سبقته في ذلك، مثل تحرير الشعب الألماني من النازية، والإيطالي من الفاشية والفرنسي من الاحتلال النازي والكويتي من الاحتلال البعثي الصدامي وإقاذ شعوب البلقان من الفاشية الصربية...الخ. ففي هذه الحالة لا بد من تدخل المجتمع الدولي لعمل شيء ما. وبعد سقوط الدكتاتورية أقر الشعب العراقي بجميع مكوناته، القومية والدينية والسياسية، النظام الديمقراطي حيث خاض معركة الديمقراطية ومارس انتخابين واستفتاء على الدستور الدائم بنجاح رغم تهديد الإرهاب له.
أيهما أفضل، حكم صدام الدكتاتوري أم الفوضى العارمة الآن؟
ونتيجة لمعاناة شعبنا على أيدي فلول البعث الساقط وحلفائهم الزرقاويين، راح أعداء الديمقراطية يشمتون بشعبنا، فمثلاً يوجه هؤلاء سؤالاً وهو، أيهما أفضل، نظام صدام حسين الديكتاتوري، أم الوضع الدموي الحالي الذي يعيشه العراق منذ إسقاط نظام البعث؟ هذا السؤال طرحه أيضاً الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في خطاب له في صنعاء بعد صدور حكم الإعدام على الطاغية صدام حسين. وقد كتب الأستاذ جلال جرمكة مقالاً بهذا الخصوص وجه فيه سؤال الرئيس اليماني إلى عدد من العراقيين وكنت أحدهم، طالباً منهم الإجابة. وهذا هو جوابي على سؤال الرئيس صالح:
لقد أثبت التاريخ، القديم والحديث، أن أي شعب تعرض إلى الظلم والاضطهاد والتجهيل المتعمد ولمدة طويلة، فلا بد وأن تحصل فيه فوضى عارمة بعد تحرره، ما لم يقم الدكتاتور بنفسه بإجراء التحولات السياسية ويخفف المظالم عن الشعب تدريجياً وصولاً بهم إلى الديمقراطية. وهذا بالنسبة لصدام حسين وأيديولوجيته البعثية الفاشية المعادية للديمقراطية من الأمور المستحيلة. ففي ظل حكم دكتاتوري قمعي كهذا، وذي القبضة الحديدية تتغير سيكولوجية الجماهير التي تصبح ميالة إلى احترام القوة والطاغية، واحتقار الحكم العادل الذي لا يمارس القوة والذي تعتبره ضعيفاً وتحتقره. فكما قال المفكر الفرنسي غوستاف لوبون حول سيكولوجية الجماهير:"إن الاستبداد والتعصب يشكلان بالنسبة للجماهير عواطف واضحة جدا، وهي تحتملها بنفس السهولة التي تمارسها. فهي تحترم القوة ولا تميل إلى احترام الطيبة التي تعتبرها شكلا من أشكال الضعف. وما كانت عواطفها متجهة قط نحو الزعماء الرحيمين والطيبي القلب، وإنما نحو المستبدين الذين سيطروا عليها بقوة وبأس. وهي لا تقيم النصب التذكارية العالية إلا لهم. وإذا كانت تدوس بأقدامها الدكتاتور المخلوع فذلك لأنه قد فقد قوته ودخل بالتالي في خانة الضعفاء المحتقرين وغير المهابين. إن نمط البطل العزيز على قلب الجماهير هو ذلك الذي يتخذ هيئة القيصر. فخيلاؤه تجذبها، وهيبته تفرض نفسها عليها، وسيفه يرهبها". هذه الكلمات تذكرنا بمقولات العلامة الراحل علي الوردي عن طبيعة الشعب العراقي الذي عانى الظلم على مر العصور.
ولكن إلى متى يجب ترك هكذا شعب يعاني من الظلم ويعظِّم الجائر؟ هذا الشعب لا بد من معالجته وإنقاذه من معاناته وأمراضه المزمنة، أي تخليصه من أمراضه المتوارثة عبر الأجيال من أنظمته الجائرة. نؤكد أن ما حصل في العراق ليس بسبب الاحتلال الأمريكي كما يتصور البعض عن حسن نية أو سوئها. فقد حصلت الفوضى في جميع الدول التي تحررت من أنظمة مستبدة مثل دول الكتلة الاشتراكية سابقاً. كما ونذكر بما حصل من حروب أهلية في الصومال دون أن يكون هناك احتلال أجنبي، إذ حصلت الفوضى بعد انقلاب عسكري على الدكتاتور محمد سياد بري**. وذهبت القوات الأمريكية والدولية لحماية الشعب الصومالي ومنع السقوط في الحرب الأهلية، ولكن المعارضة الداخلية والخارجية لوجود القوات الأجنبية، معتقدة خطأ كما هو في الحالة العراقية، أن إذا انسحبت القوات الأجنبية فستهدأ الحالة، مما اضطرت القوات الأمريكية والأجنبية الأخرى على الانسحاب، فحصلت حروب أهلية مدمرة استمرت أكثر من 16 عاماً ولحد الآن.
كما ويجدر القول أن التحولات التاريخية لا تخضع للرغبات والأهواء، ولا لمخططات من يسمونهم بصناع التاريخ، فالزلازل السياسية التي ترافق الإنعطافات التاريخية الحادة والتحولات الاجتماعية الكبرى لا تختلف عن الزلازل الطبيعية إذ تكون دائماً مصحوبة بخسائر مؤسفة في الأرواح والممتلكات.
واليمن السعيد نفسه لم يسلم من هذه الفوضى والحروب الأهلية بعد إسقاط النظام الملكي فيه بالانقلاب العسكري الذي قاده عبدالله السلال عام 1962، ولا بد أن الرئيس علي عبدالله صالح الذي يقف اليوم ضد إسقاط الأنظمة الديكتاتورية كان أحد ضباط الثورة آنذاك. واليمن السعيد هذا مر بحروب أهلية طاحنة بعد إسقاط الملكية ولم تنجو الجمهورية من السقوط إلا بعد أن بعث الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بالجيش المصري لحمايتها من السقوط على أيدي أنصار الملكية. ومازال الشعب اليماني إلى اليوم يعاني من الحروب بين القبائل والقوات الحكومية وكذلك ما تقوم به عصابات منظمة القاعدة كما هو معروف. لذلك نؤكد للرئيس اليمني أن إسقاط الأنظمة المستبدة هو قدر لا راد له في مسار التاريخ، ودائماًً تتبعها هزات عنيفة. كما ونذكره بالحكمة "إذا كان بيتك من زجاج فلا ترم الناس بالحجارة" يا سيادة الرئيس.
شيء عن قوانين حركة التاريخ
لو اطلعنا على التاريخ منذ بداية الحضارة البشرية التي بدأت في وادي الرافدين، مهد الحضارة، أي قبل ما يقارب 7 آلاف سنة، لوجدنا أن مسار الخط البياني للتاريخ هو نحو الأعلى وإلى الأمام، بمعنى أنه مسار تقدمي مع بعض التعرجات والانتكاسات والتراجعات خلال المسيرة، كما حصل في العراق وغيره، ولكن على المدى المتوسط والبعيد لا بد للتاريخ أن يلغي هذه التراجعات ويواصل مساره التقدمي ويعوّض عما فاته.
وهنا يواجهنا سؤال آخر وهو، إذا كانت الشعوب محكومة بالتطور الطبيعي التدريجي السلمي، فلماذا إذن هذه الثورات والانتفاضات، ولماذا التدخل الأجنبي في المسار العراقي دون أن يترك المجال للتطور الطبيعي ليواصل نهجه؟ بعبارة أخرى لماذا هذا التدخل الجراحي دون ترك الوليد الديمقراطي يولد طبيعياً؟
الجواب على ذلك، أن هذا التدخل على شكل حروب وثورات، هو أيضاً جزء من قوانين حركة التاريخ، أشبه بالزلازل الطبيعية التي هي جزء من التطور الطبيعي!! فكما يؤكد الفلاسفة، أن تطور أي بلد ليس خاضعاً لظروفه الموضوعية فحسب، بل مرتبطاً بالضرورة بالظروف الدولية وتطور العالم ككل. فحتى لو تراجع بلد ما عن مواكبة ما يجري في العالم من تحولات بسبب نظام قمعي قوي، فلا بد وأن ينهار هذا النظام في ذلك البلد تحت ضربات مطارق التطور ويسقط النظام الرجعي المقاوم للتطور. وهذا يشبه الولادة العسيرة التي تهدد الوليد والأم معاً إذا لم يتم التدخل الجراحي في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان لإنقاذ حياة الاثنين معاً. ولذلك كان الفيلسوف الألماني هيغل قد رحب باحتلال الجيش الفرنسي لبلاده، وأطلق قوله المشهور "اليوم شاهدت روح التاريخ على ظهر حصان" يقصد نابليون. لأن هيغل كان يؤمن بـ"الروح المطلقة" كقوة محركة للتاريخ، بينما ماركس كان يوعزها إلى قوى مادية، أي وسائل الإنتاج والقوى المنتجة للخيرات. وفعلاً عمل التاريخ عن طريق نابليون بنشر مبادئ الثورة الفرنسية في إيقاظ الشعوب الأوربية، ثم تتابعت عملية التطور إلى أن بلغت أوربا وضعها الحالي.
وما علاقة هذا بمحنتنا العراقية؟
العلاقة هي كما يلي: كل حدث هو نتاج لحدث سابق وسبب لما يأتي بعده، أي أشبه بسلسلة التفاعلات الكيماوية أو التفليق الذري chain reactions. لقد أعاد نظام حكم البعث الشعب العراقي إلى عهد البداوة. والبداوة كما وصفها أرنولد توينبي بأنها (حضارة متجمدة). وهذا يعني أن المجتمع البدوي لا يتطور من تلقاء نفسه. وفي هذه الحالة لا يمكن للشعب العراقي ولا الشعوب العربية المبتلية بالثقافة البدوية الموروثة والأنظمة المستبدة أن تتحرر من تخلفها دون دعم أو تدخل الأجنبي الغربي الأكثر تطوراً. وهذا ما قاله جان بيار شوفينمان للبرلمانيين الفرنسييين: " لن تغسل الشعوب العربية إذلالها الذي عمره قرون، إلا إذا تداركت تأخرها، ولن تتدارك تأخرها إلا إذا ساعدها الغرب بقوة على ذلك." ومن هنا أرى أن تدخل المجتمع الدولي في العراق بقيادة أمريكا، كان أمراً ضرورياً لا بد منه وهو ما يسمى بمكر التاريخ. ولو لم تتدخل أمريكا في إسقاط النظام الجائر وترك الأمر إلى أن يموت صدام موتاً طبيعياً وهو في الحكم أو يتم إسقاطه بطريقة أخرى على يد الشعب العراقي، لحصل بعد ذلك ما هو حاصل الآن من فوضى، وتأجيل إسقاطه على أيدي قوات التحالف كان مجرد تأجيل هذه الفوضى إلى وقت آخر أو جيل آخر، لأن ما يجري في العراق من حوادث عنف مؤلمة هو أمر محكوم على الشعب العراقي أن يمر به في جميع الأحوال.
هل هناك مستقبل للديمقراطية؟
الجواب نعم. لنقرأ تاريخ أوربا الديمقراطية. لقد مرت الدول الأوربية في إرهاصات ومذابح مرعبة خلال الأربعة قرون الماضية وما قبلها. خسرت أوربا 55 مليون نسمة في الحرب العالمية الثانية للقضاء على النازية والفاشية، كما تحولت مدن أوربية إلى خرائب وأنقاض. الديمقراطية لن تأتي بسهولة كما ذكرنا آنفاً، وقد تستغرق مدة طويلة إلى أن تستتب. كما لن تأتي الديمقراطية متكاملة، بل على شكل جرعات خفيفة تعتمد على نمو وعي الجماهير ونضالها من أجل المزيد من الحقوق. فقد بدأت في بريطانيا بإصدار الميثاق العظيم Magna Carta عام 1212 عندما أجبر النبلاء الملك جون بعد هزيمته في حربه مع فرنسا أنهم لن يدفعوا الضرائب ما لم يشاركهم في صنع القرارات السياسية. فوافق وتم إصدار الميثاق ومنذ ذلك اليوم تشكل مجلس اللوردات. هذه الحقوق المذكورة في ذلك الميثاق لا تعتبر حقوقاً ديمقراطية بمقاييس اليوم، ولكن بمقاييس ذلك الزمان كانت ثورة حقوقية. وهكذا بدأ الشعب البريطاني بالمطالبة بالمزيد من الحقوق إلى أن بلغت مستواها اليوم.
إن بعض العراقيين وأصدقائهم يشعرون بالخيبة لأنهم كانوا يتوقعون أكثر من الممكن high expectation، أنه ما أن يسقط نظام البعث حتى ويتحول العراق إلى واحة للديمقراطية ينافس أوربا الغربية. هذا خطأ لأنه لا يمكن لشعب عانى من كل هذا الظلم والاضطهاد أن يتحول بين عشية وضحاها إلى مستوى الشعوب المتطورة في ممارسة الديمقراطية وروح التسامح خاصة وهو يواجه مخلفات أبشع نظام فاشي متحالف مع إرهاب شرس. فالعملية تستغرق وقتاً.
المعوقات والمقومات
نعم توجد الآن معوقات كثيرة أمام الديمقراطية، منها التركة الثقيلة التي ورثها الشعب من النظام الفاشي الساقط، من جهل وتخلف ونزعات عدوانية في بعض الناس، كذلك الصراعات العرقية والطائفية، خاصة وقد نجح البعثيون بما لديهم من خبرة متراكمة خلال حكمهم الطويل في تدمير المجتمع العراقي والاستفادة من مورثه الاجتماعي المدمر وتفعيله في صالحهم، إضافة إلى الاستفادة من الإرهاب الإسلامي ومواقف إيران وسوريا المناهضة للديمقراطية في العراق.
ولكن هذه الأمراض السياسية- الاجتماعية المعوقة للديمقراطية والاستقرار اليوم، هي ذاتها ستتحول من معوقات للديمقراطية إلى مقومات لها. لأن معظم أبناء الشعب العراقي هم ضد هذه النزعات الضارة وفعلاً بدأت الغالبية بالشعور بالسخط والاستياء منها، وصاروا يدركون أنها مصدر معاناتهم. كما ونعلم إن الشعب العراقي، كأي شعب آخر، يمنح دعمه لأية فئة سياسية على أمل أن تقوم هذه الفئة بتحسين أحوالها وظروفها المعيشية، وإذا فشلت فإنه سيسحب هذا الدعم ويلفظ تلك الفئة لفظ النواة.
والعملية أشبه بإصابة الإنسان بمرض الحصبة والجدري، إذ كما قال نيتشة "ما لم يقتلني يجعلني أقوى!". فإذا أصيب الإنسان بهذه الأمراض المعدية الفتاكة وسلم منها، فإنه يحصل على المناعة الدائمة منها. وهذا يعني أن شعبنا العراقي المصاب الآن بأمراض الطائفية والعرقية وعدم احترام حكم القانون لا بد وأنه سيشفى من هذه الأمراض ويكتسب مناعة دائمة ضدها. والقادة السياسيون الذين يعتاشون اليوم على هذه الأمراض سوف يختفون من الساحة في المستقبل القريب، وبتشجيعهم لهذه الأمراض فإنهم يعجلون بزوالهم.
نعم العملية تأخذ وقتاً، ولكني واثق كل الثقة أن العراق سوف لن يرجع إلى عهد الديكتاتورية بأي شكل كان، سواءً دكتاتورية الجنرالات أو ديكتاتورية العمائم، إذ ليس هناك أي خيار آخر غير نجاح الديمقراطية في العراق، لأن التراجع عنها أو أي بديل آخر سيكون وبالاً ليس على العراق وشعبه بل على دول المنطقة والعالم. البديل عن الديمقراطية سيكون إقامة دولة طالبان في العراق وشن حروب إرهابية دينية واسعة النطاق على العالم، مما سيضطر أمريكا ومعها حلفاؤها العودة إلى العراق ثانية وإسقاط دولة طالبان وبتكاليف أكبر. لذلك ليس هناك أي بديل غير نجاح الديمقراطية في العراق. المهم أن العراق يسير على سكة الديمقراطية وبدأ الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل.
هوامش:
* ألقيت هذه المادة بإيجاز حسب الوقت المتاح لكل محاضر في الندوة الثقافية التي نظمتها جمعية الأكاديميين العراقيين في فيينا مساء السبت المصادف 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2006.
**- بعد إلقاء المحاضرين مداخلاتهم، فسح المجال للجمهور بالتعقيب وطرح الأسئلة، فكان نقاشاً غنياً وممتعاً، مكملاً لما طرحه المحاضرون. ولكن لضيق الوقت لم استطع التعقيب على مداخلة الصديق وداد فاخر الذي اعترض على تشبيه ما حصل في العراق والصومال بعد سقوط نظام الجور في البلدين، قائلاً لا يمكن مقارنة العراق بالصومال لأن العراق صاحب ماض حضاري عريق. لذا أرى من المفيد توضيح الأمر الآن وذلك تعميماً للفائدة:
جوابي على اعتراض الصديق هو أن رد فعل أي شعب على الظلم لا علاقة له بكونه صاحب حضارة في العصور الغابرة أم لا. فردود الأفعال على المظالم لها علاقة مباشرة بالطبيعة البشرية وسايكولوجية الإنسان، سواء كان الشعب صاحب حضارة أو بدونها. المهم أن كون العراق صاحب حضارة عريقة لم يمنعه من السقوط في حالة فوضى واقتتال طائفي مقيت يندى له الجبين، بعد سقوط النظام الجائر. ومعظم الضحايا في العراق هم ضحايا المفخخات والتفجيرات الانتحارية. بينما في الصومال الذي يرفض الصديق حتى المقارنة معه، هناك حروب بين لوردات ومليشيات فقط، ولم نسمع عن مفخخات وتفجيرات انتحارية في صفوف الجماهير وفي الأماكن المزدحمة كالأسواق ودور العبادة كما يحصل في العراق، بلد الحضارات العريقة. فالخلاصة أن الفوضى بعد انهيار النظام الجائر لا علاقة لها بتاريخ ذلك الشعب بل بسيكولوجية الإنسان ودرجة تعرضه للظلم.