كتَّاب إيلاف

دبلوماسية الرأي العام.. إلى أين؟!!!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

دبلوماسية الرأي العام أو رجل الشارع سوف تختفي لبعض الوقت بعد أن بدأت تنمو وتزدهر لمدة تزيد عن العام في الولايات المتحدة الأمريكية على يد معلم من معلمي السياسة والدبلوماسية في هذا العصر.
كان تركي الفيصل سفير خادم الحرمين الشريفين في واشنطن هو هذا الرجل الذي يؤمن بما يقول ويعمل له مستخدما كل أساليب الحوار والسياسة والدبلوماسية التي تعتمد على البساطة والمصداقية والوصول إلى رجل الشارع قبل السياسي والتأثير على الرأي العام قبل إستئناف لغة المصالح السياسية بين الدول.
في لقاءاته الكثيرة التي حضرتها وتابعتها في مختلف الجامعات التي زارها كان يؤكد بشكل مستمر على أن الطلاب هم السفراء الحقيقيون الذين يدخلون قلب المجتمع ويتعاملون مع أفراده ولذلك فإن عليهم مسؤولية حقيقية تجاه أنفسهم وأوطانهم بأن ينقلوا للآخر أو الرأي العام المستنير الذين هم أعضاء فيه الوجه الحقيقي لبلادهم وأن يحاولوا جاهدين محو الصور الخاطئة المغرضة الذي حاول الإعلام الغربي من خلال قنواته المختلفة التأثير بها على الرأي العام.
وقد إعتمد الأمير تركي الفيصل تقليدا مشهودا له إتبعه في كل رحلاته و جولاته ولقاءاته مع الطلاب المبتعثين فكان بمجرد وصوله يقيم مسرحا أشبه بالمسرح السياسي أو مسرح المناظرات يحضره ممثلو الملحقية الثقافية السعودية في أمريكا وعلى رأسهم الدكتور مزيد المزيد الملحق الثقافي ثم يدعو كل من له مشكلة أن يتقدم إلى الميكرفون وأن يعرض مشكلته على الملأ ولم يكن يفرق في هذا التقليد بين طالب وطالبة بل كان دائم الحديث عن إنجازات المرأة السعودية وما حققته طوال هذه الفترة القصيرة من عمر التطور في المملكة وهو يسعى من وراء ذلك إلى إعداد الشخصية السعودية القيادية القادرة المؤهلة على التواصل مع المجتمع الذي تدرس وتعيش فيه فهو إذن سفير السفراء الذين يرسلهم إلى تلك الولايات بمهام البساطة والصدق والعفوية التي لا تتطلبها بروتوكولات السفراء المعتمدين ولا تقيدها نظرية المصالح بين الدول ليتعاملون مع رجل الشارع وجها لوجه بالحجة والرأي الآخر الذي لا يفسد للود قضية.
إتبع تركي الفيصل أيضا أثناء فترة عمله سفيرا لخادم الحرمين الشريفين في واشنطن أسلوبا في قبول الدعوة لزيارة الجامعات ومنها أن يتقدم رئيس نادي الطلبة السعوديين في الجامعة بطلب لدعوته فكان هو بمثابة همزة الوصل بين السفارة والجامعة التي يدرس فيها وفي نفس الوقت تتويجا له أمام أساتذته ومعلميه وكان عندما يصل سمو السفير إلى الولاية يصر على دعوة رئيس النادي للجلوس إلى جانبه من المطار إلى مقر الجامعة.
في كل لقاء يقوم به تركي الفيصل كانت تصحبه تظاهرة ثقافية تظهر فيها إبداعات الطلاب وأنشطتهم ومعارضهم ومطبوعاتهم وخيمتهم العربية والتمر والقهوة العربية والعقال والغطرة السعودية.. كل هذه الرموز ترحل معهم من الوطن إلى المكان الذي يدرسون فيه وتعيش في وجدانهم طوال فترة إبتعاثهم لا يفجرها إلا حدث مثل زيارة سفيرهم لهم والإهتمام بهم وبأوضاعهم فيؤكدون بهذه التظاهرة على عشقهم لهذا الوطن وعلى إنتمائهم له.. وكان هو أيضا على مستوى الحدث متجاوبا مع طموحاتهم الصغيرة عفويا في التفاعل مع أفراحهم ورقصاتهم الشعبية المعروفة وكان أيضا بما لديه من إطلاع واسع وثقافة كبيرة في مختلف الشؤون يتابع هذا الحدث ويضيف إليه بالشرح والتعليق لكل من كان يرافقه في هذه الزيارة من رؤساء الجامعات التي زارها فكان مصدر إعجاب كل رؤساء الجامعات الذين حرصوا على ترتيبات إستقباله بما يليق به ورفعوا له قبعاتهم تعبيرا عن الإحترام والتقدير.. لم يكن تركي الفيصل سفيرا عاديا إنما هو سفير فوق العادة.. يتعامل مع الجميع ومن كل الطبقات وكان صريحا للغاية لا يكذب في السياسة على الرغم من أن السياسة تحتمل الكذب ولا يقبل غير الصراحة على الرغم من أن الصراحة في بعض الأوقات لا تفيد لكنه كان قادرا في كل وقت من وسيلة إقناعه التي حباه الله بها متمكنا منها فكان يصل من أقصر الطرق إلى قلب وعقل الحضور.
في كل زيارة من هذه الزيارات حرص تركي الفيصل أن يلقي محاضرته على الطلاب الأمريكيين وحرص الطلاب الأمريكيون على لقاء سموه فأمتلأت المدرجات وانهالت الأسئلة.. وكانت إجاباته واضحة لا تقبل التأويل.. حاسمة لا تحتمل الجدل تتناول الكثير من قضايا المنطقة من الإرهاب والحرب عليه إلى القضية الفلسطينية وسبل حلها وإلى إسرائيل وكيفية الإعتراف بها وإلى حرب العراق والنزاع القائم في السودان وإلى قضايا غسيل الأموال وعلاقتها بالأعمال الخيرية أو بالإرهاب وإلى النفط وقضاياه والأقتصاد ومشاكله حول العالم.. قضايا كثيرة ومتعددة وحرجة في بعض الوقت تطرح بالمواجهة ويجاب عليها بالشفافية وحسن القول.. لم تخل محاضرة من المحاضرات عن أسئلة تدور محورها حول المرأة السعودية ودورها في المجتمع ومدى ما وصلت إليه.. كان يقرن الرأي بالحجة ويطرح الأرقام والإحصاءات.. لم اره يتهرب من سؤال أو يلف عليه.. تحدث سمو السفير عن إختلافات الإنظمة وعن أن النظام الأمريكي لابد حتما أن يختلف عن النظام الإنجليزي وكذلك الحال بالنسبة للنظام السعودي وأكد في كثير من أقواله على أن هذه الأنظمة تتغير من تلقاء نفسها وفق تجاربها ومعتقداتها وتقاليدها وفلسفة الحياة فيها ومن ثم فإن حلولها تأتي دائما من الداخل ولا تفرض عليها من الخارج.. في كل مرة أقيس درجة حرارة السؤال الذي يطرح عليه أجده يجيب عليه بلغة أكثر حرارة وموضوعية وصدقا وشفافية.
كتبت له ذات يوم إهداء لكتاب لي بعنوان رحلة في عقل رجل ميت وقلت أن رحلاته المتكررة لمواقع الطلاب وللجامعات التي يدرسون فيها علمتني أن الإعلام إذا كان بسيطا وصادقا وموضوعيا يمكن أن يكون نافذة لدبلوماسية نظيفة والآن نحن سنفتقد هذه النافذة الإعلامية التي حرص سموه على النفاذ منها من خلال سفرائه إلى داخل المجتمع.. متجاوزا كل القيود التي يفرضها الإعلام للتعبير عن الآخر.. وربما بعض البروتوكلات التي تسمح للسفير فقط بممارسة مهامه الدبلوماسية في إطار البرج العاجي الذي لا يصل إليه إلا أمثاله السفراء والدبلوماسيون ورجال السياسة.
شاهدت تركي الفيصل في معظم رحلاته للطلاب.. تابعته في منهاتن بولاية كانساس وفي ريتشموند في ولاية فرجينيا وفي ووترلو بولاية آيوا وفي لونج بيتش بولاية كاليفورنيا وفي فلاديلفيا بولاية بنسلفانيا وشاهدت بأم عيني كيف ينشأ الحوار وكيف يدور الحديث وماذا يحدث للمتلقي.. رأيت ردود الفعل الإيجابية تطرح على الطلاب من أساتذتهم تعليقا على كلمة سمو السفير في وقت دأبت فيه وسائل الإعلام الغربية التهجم علي نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وفي وقت نحن أحوج فيه إلى لغة الحوار الهادئ المستنير الذي تأتي ردوده على ألسنة المثقفين والأكاديميين وأساتذة الجامعات والطلاب أيضا.. سمعت رئيس جامعة كانساس منهاتن الحكومية الذي ابدى أعجابه وإنبهاره بمحاضرة السفير وهو يقول للطلاب الأمريكيين بأن المسلمين ليسوا هم كل العرب بل معظمهم ينحدرون من دول مثل أندونيسيا و الهند والباكستان ومن كافة أرجاء العالم ورأيته يؤكد على أن المملكة العربية السعودية هي المفتاح لفهم الإسلام.. فهي حارسة الحرمين الشريفين في مكة والمدينة وهما أقدس المساجد في أقدس الأماكن وأقربها لقلوب المسلمين ولذلك فإن لدى المملكة مسؤولية خاصة للعناية بهذين الحرمين ولرعاية نحو 1.3 بليون مسلم يمارسون الإسلام في العالم الآن (في عام 2006) وأكد أنه حينما إستمع لكلمة سمو السفير تذكر كل هذا وأورد في حديثه أمثلة عن سماحة الإسلام وشفافيته وابتعاده عن صفة العنف والإرهاب وأستند في ذلك إلى أحاديث نبوية صحيحة وأنهى كلمته بقوله : عندما أنظر إليك سيدي السفير أفكر في هذه العبارات التي جاءت من الرسول صلى الله عليه وسلم.
لا أكتب هنا عن تركي الفيصل على سبيل المديح أو حتى بمناسبة تركه المفاجئ للسفارة وإنما أكتب عن سفير له رؤيته السياسية الخاصة وربما نظريته التي تعتمد بشكل خاص على مخاطبة الرأي العام المستنير في المجتمع الذي يمثل بلاده فيه ولا تنفصل هذه النظرية مطلقا عن وضعيته كسفير معتمد للمملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة الأمريكية عليه أيضا مخاطبة زملائه من رجال الساسة والدبلوماسيين وصناع القرار.. ولا أريد الخوض في تكهنات حول هذا السفر المفاجئ ولا عن أسبابه ولكنني أؤكد فقط أن تركي الفيصل قد مهد الطريق لفلسفة جديدة في الدبلوماسية العربية تعتمد إعتمادا حقيقيا على مخاطبة الرأي العام قبل مخاطبة السياسي وعلى إستغلال العنصر البشري في خلق كوادر دبلوماسية تتعامل بشكل مباشر مع رجل الشارع وكان بهذا الأسلوب قد أرسى برصانته وحكمته الخطوط العريضة لنظرية دبلوماسية جديدة يمكن أن تلقى صدى فيمن سيأتي من بعده من السفراء الذين تحسن المملكة دائما اختيارهم في هذه المواقع الهامة.

كاتب وصحفي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف