كتَّاب إيلاف

عندما يبلغ الوعي الاجتماعي درجة الصفر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


دروس الحرب الأهلية الأسبانية

أثناء قراءتي لمذكرات المخرج السينمائي الشهير لويس بونويل( شاهدنا له في بغداد "حسناء النهار" بطولة الفرنسية كاترين دينوف، في سينما غرناطة أواسط السبعينات)، توقفت عند الصفحات التي يتذكر فيها الحرب الأهلية الأسبانية في بلده، خصوصا تلك الصفحات التي يشير فيها إلى حالة العماء الشامل التي بلغها المجتمع وبلوغ التفاهم السياسي الاجتماعي بين قواه الفاعلة درجة الصفر، إلى الحد الذي تُطلق فيه النار على سائق سيارة أخرج ذراعه من النافذة ليؤشر إلى الاتجاه المقصود، لأن الطرف الآخر المسلح حَسبَه يؤدي التحية النازية!
وقرأت قبل أيام خبرا يقول أن مسلحين متطرفين في العراق قتلوا بائعا للثلج باعتبار أن لم يكن ثمة ثلج أيام النبي محمد، والسؤال الفكاهي المقابل هو: هل استخدم المسلمون الأوائل بقيادة النبي محمد السيارات المفخخة ضد المشركين وأعداء الدين الجديد؟
ماهي الحرب الأهلية تعريفا،كيف بدأت، ماهي الأسباب؟
هذه الأسئلة تولدت لدي بعد أن أنهيت الكتاب المذكور، فشرعت ببحث سريع لما بين يدي من مصادر محدودة، لأخرج ببعض الأفكار والملاحظات، وسط مزاج عراقي سوداوي محبط جراء ما يجري في بلدنا، من أوضاع تضع البلد على شفا الحرب الأهلية، إن لم تكن هذه الحرب قد اندلعت فعلا، أو إنها بصدد ترتيب صفحاتها المسلحة ومقدماتها السياسية والسيكولوجية والتربوية. لكني لن أجري أية مقارنات بالعمق، إنما أترك ذلك للقارئ.
الحرب الأهلية هي صراع سياسي مسلح بين فريقين، أو مجموعة فرقاء، على كل طرف، وغالبا ما يكون المتحاربان متكافئين من حيث العدد والعدة، وقد تطلق صفة "الحرب الأهلية" على تمرادات انفصالية ضد الدولة وهو من الأخطاء السياسية الشائعة.
إن ما جرى يوم 9 نيسان/أبريل 2003 يوما عراقيا مشهودا إذ أطاحت القوات المتعددة الجنسية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بالرموز العيانية لسلطة الدكتاتورية الصدامية واستبشرنا خيرا، مع غالبية العراقيين أصحاب المصلحة الحقيقية بالتغيير، حيث انعدمت، طيلة أكثر من ثلاثين سنة من احتلال فاشي محلي بقيادة الصداميين، أي إمكانية وطنية داخلية لإسقاطه، وتصورنا دخول قوات التحالف بقيادة واشنطن أشبه بدخولهم باريس وبرلين وسائر العواصم التي رزحت تحت نير الاحتلال النازي بعد تحريرها من القوات النازية الألمانية، وخروج الناس إلى الشوارع ليضربوا صور صدام بالنعال، ولينقلب العراق رأسا على عقب، من كانوا تحت الأرض أصبحوا فوقها، لكن ما أعقب ذلك لم يكن بالحسبان، بالنسبة لي، أو لأمثالي، على الأقل.
إن للاحتلال غريزة أيضا. إنه يبحث عن مكان وزمان يحتلهما، ولا يفوت أي فرصة لتعزيز خططه وقواته لتحقيق أهدافه ومصالحه الخاصة. العراقيون، مقاومون أو إرهابيون، وفروا فرصا عديدة لدوام الاحتلال وتكريسه، والأمثلة عديدة إذ نرى الاحتلال يعزز قواته ويستقدم المزيد من الجنود كلما تصاعد العنف والمقاومة والإرهاب، وهكذا بدلا من محاصرة المحتل بما يبديه بعض المسلحين من هجمات ودفعه إلى المأزق على أمل الرحيل، نرى الاحتلال يمعن بمحاصرة العراقيين وتوسيع رقعة حركته وفعالياته، بتناسب طردي كلما تصاعد العنف.
لنستمع إلى ما يقوله لويس بونويل وكأنه يشهد الأيام الأولى لسقوط صدام حسين: "... بعد خمسة عشر يوما، قدم المؤرخ الفني، إيلي فور، الذي كان يدافع بحرارة عن المسألة الجمهورية، لتمضية أيام عدة في مدريد. ذهبت لزيارته ذات صباح في فندقه، وما زلت أتصوره بسرواله الداخلي المربوط عند كاحليه، وهو يتأمل المظاهرات التي تطوف الشوارع وقد تحولت إلى ظاهرة يومية. كان يبكي بانفعال وهو يرى الشعب وقد أخذ يحمل السلاح. في مرة أخرى شاهدنا حوالى مئة فلاح وقد انتظموا في صفوف بعد أن تسلحوا "على بركة الله" بعضهم ببندقية صيد ومسدسات وآخرون بمنجل أو مذراة، وهم يبذلون جهدا واضحا في تحقيق الانضباط، محاولين أن يسيروا بخطوات موحدة. أعتقد أننا بكينا نحن الإثنين.
لا شيء يبدو قادرا على قهر هذه القوة الشعبية الحقيقية، إلا أن هذا الفرح الغامر، هذه الحماسة الثورية في الأيام الأولى، سرعان ما حل محلها إحساس مؤسف بالانقسام وبالفوضى وعدم الأمان. هذا الإحساس الذي استمر حتى تشرين الثاني نوفمبر 1936، عندما بدأ الجمهوريون عندما بدأ الجمهوريون في تطبيق انضباط حقيقي وعدالة فعالة. لا أزعم بأنني أكتب تاريخ هذا الانشقاق الذي مزق أسبانيا، لست مؤرخا ولست متأكدا من أنني سأكون محايدا. أحاول فقط أن أروي ما رأيته، ما أتذكره".
يقول السيناتور الأميركي (الديمقراطيون): إذا القيت نظرة على خلفيات الحالة العراقية فستجد أن العراق يسير إلى ما يشبه الحرب الأهلية الأسبانية (1).
لكن، إذا كانت الديمقراطيات الغربية هي تسببت بالحرب العالمية الثانية لأنها فشلت في الدفاع عن الجمهورية الأسبانية، كما يذهب سوارتشز في مقال له بعنوان " لماذا تتماثل حالتا العراق وأسبانيا في الحرب الأهلية"(2) فهل يستعيد التاريخ نفسه عندما تفشل هذه الديمقراطيات في الدفاع عن العراق الجديد ودعمه في التسبب بحرب عالمية رابعة وأن اقتصرت على النطاق الإقليمي: العراق، إيران، لبنان، سورية؟
سبقت الحرب الأهلية الأسبانية (17 يوليو/تموز 1936 إلى 1 أبريل/ نيسان 1939) ، منذ أوائل ثلاثينات القرن العشرين، مجموعة من الانتفاضات والتظاهرات ضد سلطة الإقطاع ورجال الدين (كان عددهم في أسبانيا يفوق عدد المواطنين المتعلمين مئات المرات!)، وإذ لامجال لاستعراض الوقائع تلك هنا، فقد فازت "الجبهة الشعبية" بالانتخابات وشكلت الحكومة التي لم يجد فيها فقراء أسبانيا وقواها الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني، على ضعفها، مايلبي طموحاتهم الكبيرة، مما جعل المنتفضين يقتحمون السجون والكنائس ومصادرة ممتلكات كبار ملاكي الأرض، وبالمقابل انتظم اليمين البرجوازي الإكليركي في جبهة مضادة، تضم الفاشية المحلية المتمثلة بالجنرالات والشرطة والجنود لقلب نظام الحكم الجمهوري، بقيادة الجبهة الشعبية، وتم التنسيق مع الدكتاتوريات والفاشيات بدءا بدكتاتور البرتغال سالازار وصولا إلى موسوليني إيطاليا وهتلر ألمانيا.
أما الحكومة، من جانبها، ورغم علمها بما يجري من جهود حثيثة لقلب نظام الجكم فإنها لم تحرك ساكنا ووقفت عاجزة عن اتخاذ أي قرار حاسم في الإنحياز إلى الجماهير المنتفضة والمطالبة بوقف الزحف الفاشي من شمال أسبانيا بقيادة الجنرال مولا ومن الجنوب بقيادة الجنرال فرانكو بكتائبه المغربية وفي الأندلس الجنرال كيبو دي يانو وعشرات الجنرالات الآخرين من مدريد وخارجها، وهكذا كان الحراك السياسي المتفجر منذ ما قبل الحرب الأهلية، والإصطفافات الطبقية والدينية التي رافقته وأعقبته، الأرضية المناسبة لبلوغ المجتمع حالة الانقسام النهائي: "الجبهة القومية" بقيادة الفاشيين والفالانج (أو الفالانخ) وأسبانيا الجمهورية بقيادة "الجبة الشعبية" المكونة من الجمهوريين والفوضويين والاشتراكيين والشيوعيين (طالت الصدامات المسلحة حتى أطراف هذا التحالف أثناء الحرب).
بينما تلقى القوميون العسكر وحلفاؤهم من اليمين واليمين المتطرف الدعم من موسوليني وهتلر، كان الجمهوريون يتلقون دعمهم من الاتحاد السوفيتي والقوى الديمقراطية واليسارية من مختلف أنحاء العالم، والجسر الأممي الشهير الذي كان فيه كتاب ومثقفو وفنانو العالم المشهورون في القلب منه أمثال أرنست همنغواي ولويس أراغون وبابلو نيرودا وأندريه مالرو والكثيرون غيرهم ومن جميع البلدان.
المجتمع في لحظة انهيار. بعد عقود من التخلف وتمسك حفنة صغيرة من الضباط والضباط المزيفين بالسلطة والاستحواذ على كل شيء بدءا بالسلطة العليا وانتهاء بأكاديمية الفنون الجميلة واللجنة الأولمبية وسائر مرافق الدولة من أعلى مؤسساتها إلى أدناها، وإفقار الغالبية العظمى من الناس على مختلف الصعد الحياتية والثقافية والفنية، إلى جانب عمليات مركزية لغسيل الدماغ بأشكال متعددة ومدروسة، والقضاء التام على أي مظهر من مظاهر التفكير المستقل والمختلف، يصبح الجميع رهن العزلة والاختطاف والخوف ولم يعد ثمة أي حراك مدني للتعبير عن الذات مكفولا بالشعور بالمسؤولية الوطنية ومبادرات الضمير اليقظ، بعد ذلك كله ماذا سيتبقى في الحياة العامة من قوى مدنية وشعبية تحرص على السلوك المدني وتسهر على قيم الاحترام والتسامح والانتماء للعالم والحفاظ على أفضل ما حققه الناس عبر صراعهم الطويل من أجل التقدم الاجتماعي والازدهار الروحي؟
المجتمع عند لحظة الصفر هو الحالة النموذجية لتوقع الانفجار الشامل بعد عقود من القمع والكبت والتزوير والكذب، وليس من المستغرب أن ينطوي الانفجار على كل ما كان حبيسا من رغبات وشعارات وأحلام وأوهام منفلتة تدعي بأحقيتها بالوجود والتحقق والحصول على مكاسب ملحة فقدتها طيلة أيام الكابوس الدكتاتوري. فللفراغ المتولد، بغياب السلطة، غريزة أن يمتلئ.

بظهور مراكز قوى جديدة، خليط من تيارات متناقضة، فكل يدعي الحقيقة المطلقة، الفاشيون وحلفاؤهم المستفيدون من قيم التعصب والإنكفاء والعيش على أمجاد الماضي بأشع صوره المتخلفة ، رجال الدين وكفاحهم من أجل امتيازاتهم المفقودة، العلمانيون المدنيون، بشتى أصنافهم القوموية واليسارية والمستقلة الذين سيحاربون بعضهم البعض عند اشتداد التناقضات بنوعيها، الرئيسي والثانوي، وعدم وجود مخرج، في لحظة تبلغ فيها الأفكار والأيديولوجيات والعقائد أشكالها المقدسة غير القابلة للجدل والحوار والتفاهم، يصبح المجتمع في أسوأ حالات الانقسام والتخندق المظلم.
وبقية الناس، العزل، ضحايا حرب الجميع على الجميع؟
الناس، هنا، ليسوا أبرياء بالمطلق، فما معنى أن أن يكون، ثمة، ضحايا قتلة وضحايا قتلى؟
إن بيئة خاصة هي الحاضنة لنشوء ثقافة العنف، تتشكل بالخفاء أو في العلن، لتبلغ ذروتها الخطيرة، أي بلوغ الوعي الإجتماعي درجة الصفر، هذا الوعي الذي لم يعد بمقدوره استئناف نفسه تحت ضغط قوانين ردة الفعل حتى لو كان عقل الضحية أرجح، دائما، من عقل الجلاد. إن يكون المرء على صواب لا يعني أنه غير قابل للهزيمة، كما كتب البير كامو مرة.

فالناس، أينما كانوا، مخلوقات صغيرة بعيدة عن ألعاب الكبار، خصوصا في المجتمعات المتوترة، المنقسمة، وهم يتلقون الأذى المادي والمعنوي نتيجة ممارسة السياسة عنفيا، وعندما تسأل إنسانا سيجيبك بأنه لا يريد غير السلام والأمن والحياة الكريمة.
"السلام"، "الأمن"، "الحياة الكريمة"، ليست كلمات مجردة ترد على اللسان أو فوق الورق، في لحظة تأمل ذاتي صرف. بل هي تجسدات ملموسة تدخل في عصب ودم الحياة اليومية للناس، لكن تلك" التجسدات" بالنسبة لأمراء الحرب والطوائف والعصابات المسلحة أمور نسبية، فهي لمن فقد سلطته تعني استعادتها، وهي للمتضرر من قيام عالم جديد عالم لا يتمكن من قبوله، وهي للمتدين المتطرف فوضى تتيح للشبان لعب أو مشاهدة لعبة محرمة ككرة القدم، وهي للجنرال الذي أحيل للتقاعد بغير رغبته مفاهيم جردته من مجد ضائع وسطوة غاربة، وهي للطائفي المتزمت سيادة طائفته في المركز والأطراف، وهي بالنسبة للص والمجرم العادي الاستحواذ على ما يخص الآخرين لإشباع شهيته المفتوحة على الجشع.
ثمة كثيرون، إذن، يجدون المبررات الكافية لحمل السلاح.
كتب قيصر باييخو (1892 - 1938)، شاعر أسبانيا الكبير وأستاذ لوركا، الذي لم يعد إلى بلده قط (ولد ومات في باريس!) قصيدة بعنوان "حذار أسبانيا" يقول:
حذار أسبانيا من أسبانياك نفسها
حذار من المنجل من دون المطرقة
حذار من الضحية رغم أنفه
ومن الجلاد رغم أنفه
ومن المستهتر رغم أنفه
حذار ممن أنكرك ثلاثا بعد صياح الديك
حذار من الجماجم من دون عظمتي ساق
ومن عظمتي ساق من دون جماجم
حذار من الأقوياء الجدد
حذار ممن يأكلون جثتك
وممن يلتهم أحياءك أمواتا
حذار من الوفي مئة في المئة
حذار من السماء وهي أقرب من الهواء
ومن الهواء الذي ماوراء السماء
حذار ممن يحبونك
حذار من أبطالك
حذار من أمواتك
حذار من الجمهورية
حذار من المستقبل....(3)


مقطع من شهادة لويس بونويل حول مقتل شاعر أسبانيا الشهير فيديركو غارسيا لوركا
"قبل أربعة أشهر أشهر من نزول فرانكو على البر الأسباني قرر غارسيا لوركا - الذي لم يكن قادرا على إغراق نفسه في السياسة - وبصورة مفاجئة أن يذهب إلى غرناطة، مدينته، حاولت إقناعه بالعدول وقلت له:
-هناك مخاوف حقيقية، فيديركو. إبق هنا. ستكون مدريد أكثر أمانا.
وقام أصدقاء آخرون بممارسة ضغوط أخرى عليه، لكن من دون جدوى. وغادر متوترا جدا وخائفا جدا.
في غرناطة، التجأ إلى بيت عضو في الكتائب ( قوات موالية لفرانكو) هو الشاعر روساليس، وكانت تربط ما بين عائلتيهما صداقة وطيدة، فاعتقد أنه سيكون آمنا هناك. ذات ليلة جاء بعض الرجال ( من أي اتجاه؟ ليس مهما) يقودهم واحد اسمه ألونسو، فقبضوا عليه وأصعدوه إلى سيترة شاحنة مع عدد من العمال.
كان فيديركو يشعر بخوف شديد تجاه الألم والموت، وأستطيع أن أتصور ما أحس به تلك الليلة، في الشاحنة التي أقلته إلى حقول الزيتون، حيث قتلوه.
لم يعثر على جثته إطلاقا. ترددت حكايات كثيرة حول موته. حتى مالم يكن معقولا أبدا، والحقيقة هي أن فيديريكو مات لأنه كان شاعرا. كانت الصيحات تعلو في الجانب الآخر: "فليمت الفكر".(4)

هوامش:

(1) مقال بقلم ستيفن ستشاورتز في صحيفة
. 11/9/2006 -rdquo;The weekly Standardrdquo;
(2) المصدر نفسه.
(3) النص ترجمة صالح علماني "كتاب في جريدة".
(4) مذكرات بونويل - ترجمة مروان حداد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف