النبي ، هل كانَ جبرانُ نبأً كاذباً ؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1
لطالما كان جبران خليل جبران موضوعاً أثيراً، مؤجلاً، تتوجعُ له جعبة أقلامي. ككلّ رفاق الكلمة، كنتُ في مبتدأ خبري، المستهام بالأدب، على علاقةٍ متولهة بهذا الكاتب المفضل أو ذاك. وكما أنّ الطفولة تأنسُ بلدّاتها؛ فلا غروَ إذاً أن يكون إكتشافي لجبران، في سنّ مبكرة، هوَ خصوصاً نوعٌ من كشف الحجاب عن عالم ملغز، كان غيرَ مألوف بعدُ على أعتاب سنّ المراهقة؛ عالم الرومانسية، بكل آماله وأحلامه وخيالاته وإختلاقاته. أتكلم هنا، عن الكتاب الأول، المتناهي بأجنحتي آنئذٍ إلى فضاءات الحبّ الأول : الحبّ، الذي عثرَ في رواية جبران، " الأجنحة المتكسرة "، على بعض من توقده وألقه، كما على خيبته وعثرته. أستعيدُ الآن، أنا طريدُ فتوّة العمر وأثاله، تلك العبرات المهرقة ـ كنبيذ النذور، والمسفوحة على مذبح الوهم ذاكَ، المسمّى عشقاً، فيما كانت عيناي تترجفان بين سطور الرواية الجبرانية، الرومانسية. من ناحية اخرى، وبما أنّ هاجسَ كاتب السطور هذه، كان يداور بين الكلمة والرسمة؛ فلأقل إذاً أنّ فرحي كان عظيماً، حينما فوجئتُ يومئذٍ بأنّ لوحات ذلك الكتاب، الروائيّ، هيَ من إبداع الريشة الرهيفة للمؤلف نفسه. ثمّ تسنى لي في زمن تال، أن أطلعَ على صور من لوحات كاتبنا اللبنانيّ النابغة هذا، طيّ ألبوم يحوي أساساً سيرته الفنية والأدبية. إلا أنّ تلك اللوحات، الزيتية أو المائية، الغالب عليها ثيمة العري النسويّ، بقيتْ هناك في أدراج الذاكرة، طالما لم تثر فيّ سوى الحنين إلى مراهقة عتيقة، ذابلة. ثمة مفارقة اخرى، تحيلُ إلى كشفي ذاكَ، الموصوف : أنّ الأعوام التالية من عمري، الناضجة، قد فشى فيها رويداً، ما يمكنُ وصفه بالبرود إزاء قراءتي لجبران؛ روائياً على الأقل. ففيما يخصّ " الأجنحة المتكسرة "، كما غيرها من رواياته، ما عادت القراءة النقدية تعثرُ فيها على أكثر من محاولات ساذجة، متعثرة، إنشائية الأسلوب ورومانسية الأجواء؛ محاولات، ما قدّرَ لها أن تخلف من بصمة تأثير، حقة، على الآثار الأدبية الأكثر أو الأقلّ حداثة، في الغرب والشرق على السواء.
2
قراءتي للكتاب العجيب، المُعجز، " النبي "، كانت كشفاً أكثرَ جدّة لعالم جبران، الإبداعيّ. وتشديدي على صفة الإعجاز هنا، إنما هيَ صدىً لذلك الكشف نفسه، المماهي شغفي بالكاتب؛ أو أسطورته، بالأصح. كنتُ وقتذاك في أوائل عشرينات العمر، مجتازاً للتوّ سراط التجربة المريرة، الموسومة بـ " الخدمة الإلزامية "؛ التجربة العبثية، المقدّر على أجيال بلداننا، البائسة، المرور جميعاً على حافة جحيمها. قلنا أنّ خدمتي للوطن، المُفدى، قد أختتمتْ وحان وقتُ التسكع في شوارع البطالة، بعدما أفقدتني تلك الخدمة ملمح الأمل؛ بتفويتها عليّ فرصة الدراسة الجامعية، قبل كل شيء. ولكن جبران، أمسى رفيقاً لوحدتي؛ فما كان يجوز لي الوحشة. وبلغ بي من تناهي الهوى بملهمي هذا، أنني عمدت إلى إستنساخ لوحة غلاف كتابه " النبي " ( وهيَ بورتريت شخصي للمؤلف بالذات ) بقلم الرصاص، ومن ثمّ تثبيتها ضمن إطار فوق سريري. كنت أيامئذٍ لا أملّ من سيرة جبران ونبيّه، خصوصاً مع أصدقاء الأمسيات الشتوية، وفي غرفتي الصغيرة رفقة الطقطقة البهيجة، الدافئة، لحطب الجوز في المدفأة الأنتيكية. يجدر التنويه هنا، في مقام الحديث عن " نبيّ " جبران، أنّ كلاماً كثيراً، نقدياً وتاريخانياً، قد جرى فيه تتبع الأثر المودي إلى أصله؛ كتاب " هكذا تكلم زرادشت " لنيتشة. هذا الكتاب، كان من مقتنيات أبي، وقد حاولتُ مراراً، عبثا، المضيّ سطراً إثر سطر في معمياته اللغوية والفلسفية. لا غروَ إذاً، ألا يتفق لي لدى قراءة " النبي " أمر مقارنته بذلك الكتاب، الخالد، للشاعر والفيلسوف الألماني الأشهر. فيما بعد، وبسنّ أنضج، تهيأتْ لأسباب مقدرتي، المتواضعة فعلاً، التفرغ لقراءة كتاب نيتشة ذاكَ، ومن ثمّ إجراء مقاربة ذهنية بينه، كأثر أصليّ، وبينَ صداه؛ كتاب جبران. بيْدَ أنّ هذا الأخير، تهيأ له حظ الإنتشار عالمياً، إلى حدّ أضحتْ فيه شعبيته الغامرة، أمراً غيرَ مألوفٍ من قبل إلا في حالة الكتب السماوية، المقدسة. يُضارعُ هذه الحقيقة، مفارقة أدهى؛ وهيَ أنّ " نبي " جبران مكتوبٌ أصلاً باللغة الإنكليزية، ومنها ترجم إلى اللغات الاخرى ـ كالعربية، بترجمة بديعة للشاعر يوسف الخال. وعطفاً على ما وسمناه بـ " المفارقة "، نقولُ أنّ أمرَ ضعف إنكليزية جبران، ما عاد يُمترى فيه الآن، ونحن نستعيد ذكرى هذا الكاتب، الخامسة والسبعين. ولو أنّ ضعفه اللغوي ذاكَ، كان على كل حال حقيقة قابعة في الظل؛ حقيقة، بقيت هكذا مخفية ً لأعوام طوال، إلى أن جرى حديثاً تسليط الضوء على علاقات جبراننا، النسائية.
3
" من غير الطبيعي أن يتكاسل الفنان أو ينتابه الطيش فيغدو مثله مثل أمير يهمل شأن شعبه. إن قادة الناس وموجهيهم خلقوا للعمل " (*) : بهذه الكلمات، المقتطفة من رسالة طويلة، تتوجه جوزفين بيبودي إلى صديقها الجديد، جبران؛ كلماتٌ فيها ما فيها من إطناب وتنفيج لفتىً لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره. كانت جوزفين، المفتتنة بجبران آنئذٍ، قد تعرفت عليه حديثاً في معرض صور فوتوغرافية جرى في بوسطن. والرسالة تلقاها فناننا منها خلال وجوده في لبنان، الذي سافر إليه لدراسة العربية في مدارسه، وبناءً على إلحاح عائلته . باديء ذي بدء، نتسقط مفارقة هنا؛ وهيَ أنّ جبران كان " موديلاً " لفنان مصوّر، مما سنح له الإلتقاء مع الإنسانة التي قدّر لها تغيير مجرى حياته. جوزفين بيبودي، كانت شاعرة على جانب من الموهبة، فضلاً عن انها تكبر جبران بحوالي ثمانية أعوام. من جهتها، توسّمت شاعرتنا في " الشاب السوري " ـ كما دأبت على وسم جبران ـ مستقبلاً عظيماً : كان هذا، عقب لقائه الأول بها مباشرة، قد حفظ صورتها في ذاكرته، النابهة، ورسم لها من ثمّ " بورتريت " بقلم رصاص على الورق. وقد فاجأها في اليوم التالي، حينما أرسل لها الرسم المتقن مع معلمه، المصور الفوتوغرافي، الذي كان واسطة التعارف بينهما. لم يك فتانا إذاً، قد خط شيئاً من كلماته، الخالدة، لما إستحق من صديقته تلك، الأمريكية، ذلك التقريظ المبالغ فيه. ولا ننسى أنّ فن الرسم في الغرب، كان من قوة الترسّخ أنه مرّ بلا مبالاة أمام محاولات جبران الفنية، التالية، والأكثر نضجاً : ونقصد هنا، تلك الحادثة التي لن يسلوها جبران قط؛ حينما كان طالب فنون في باريس ويعرض في صالونها السنوي إحدى لوحاته. كان النحات الأشهر " رودان " ثمة في ذلك المعرض، وقد مرّ بلوحة جبراننا دونما أن يعيرها إلتفاتة. فما هوَ إذاً وجه المسألة هنا، فيما يخص إعجاب شاعرة ناضجة، حدّ الوله، بفتى مغمور بالكاد يعرفه أحد كرسام ؟ إنني أحيله، على رأيي البسيط، إلى إشكاليّة العلاقة بين المتغرّب ومواطن البلد الأصلي. إذ تغدو تلك العلاقة بينهما حيناً كما لو أنها بين محتاج ومحسن. وقد عانى جبران طفلاً ويافعاً من هذا الوضع، وتأثرت به مشاعره الرهيفة بشدة، متأذية به ولا شك. وسيرة مبدعنا، في سنواته الأولى تلك، المهجرية، تفيدنا بأنّ تعرّفه على معلمه، المصور الفوتوغرافي، كان من واردات الحالة البائسة، الوضيعة بحق، التي عاش فيها مع عائلته في بوسطن. ولكن قبل المضيّ في حديثنا هذا، النسويّ، دعونا نتعرّف عن قرب إلى ذلك الرجل الذي أثر في شخصية جبران وفكره، وربما أكثر من أيّ كان ممن إلتقى بهم في حياته.
4
قلنا أنّ جوزفين إلتقتْ جبراناً، صديقها الشاب، لدى حضورها معرضاً لمصوّر فوتوغرافي. كان هذا الرجل، المدعو فرد هولنداي، فناناً غريب الأطوار. فعلاوة على تنكره لأصوله الأرستقراطية، فإنه تبنى أفكاراً ثورية؛ سواءً بسواء، أكان ذلك في مجال الفلسفة أو الفن. لقد عاش فناننا هذا، حياة حرة أقرب للبوهيمية؛ ويمكن القول أنها كانت شاذة، بعرف مجتمع مدينته، المحافظ. لقد أفاضت الأقاويل، أكثر من أيّ شيء، في إبراز مثليته الجنسية، كما في إستخدامه لعدد من الفتية ( وكانوا من مشارب أجنبية، تحديداً ) كموديلات في مشغله الخاص. كان جبران، كما سلف القولُ، أحد أولئك الفتية؛ وربما أكثرهم قرباً لهولنداي، حتى أضحت العلاقة بينهما متواشجة، كما المعلم وتلميذه. ثمة مجموعة وفيرة من صور تلميذنا، محفوظة معظمها في المتاحف الأمريكية، تظهره بعدسة المعلم ذاكَ، الحاذقة. لا بدّ من التنويه، ونحن نرتاض ذلك العالم، المُكتشف للتوّ من لدن الفتى المهاجر، أنّ هولنداي ـ ككلّ ما يمت له بصلة ـ تعمّدَ الغرابة في تلك اللقطات المصوّرة لموديله هذا؛ إن كان لجهة حركاته أو الأزياء التي كساه بها : من تلك اللقطات، أشتهرتْ صورة جبران وهوَ في زيّ عربيّ، مماثل لما نعرفه عن وجهاء البدو، وكذلك صورة اخرى في ملبس هنديّ لا يقل وجاهة. بيْدَ أنّ جبران، في الأعوام التالية، ما عتمَ أنْ روّج بنفسه الأسطورة تلوَ الأسطورة عن أصوله النبيلة، اللبنانية، وكذا عن جذوره.. الهندية (!) وما كان مجردُ أحلام يقظة، مراهقة، أمسى على مرّ السنين والحقب، كما لو أنه الحقيقة المبرمة. غنيّ عن الإشارة هنا، إلى ذلك القول الشائع : " إبحث عن المرأة ". فلا غروَ إذاً أن نبتدهَ بحثنا، بالإشارة لنسويات جبران. إنّ ماري هاسكل، هيَ المرأة الاخرى، المقدّر لها لعبَ الدور الحاسم في فترة نضوج كاتبنا، كما في تطويبه كـ " نبيّ " في هيكل الفكر والفن والكلمة. لقد تبنت صديقة جبران هذه، وبلا أيّ تمحيص منها، تلك الأساطير، الموصوفة، التي راح جبران يبثها لها في ثنايا رسائله أو خلال لقاءاتهما الحميمة. كان من الطبيعي، في هكذا حالة، ألا تسمع أيضاً إمرأة امريكية مثل ماري هاسكل بذلك المثل الكرديّ، البليغ : " ليتني كنت عروساً للغرباء، حتى أمتدح لهم أهلي " !.. إلا أنه، للإنصاف، يتوجب علينا تفهّم مشاعر إنسانة لبقة، مثقفة ـ مثل حاميَة جبران تلك ـ وهيَ في عصر يموج بالسيَر الرومانسية، غير الواقعية، بخصوص هذا الكاتب أو ذاك الفنان، علاوة على ندرة أو إنعدام وسائل الإتصال الحديثة زمنئذٍ، والمتيحة تبادل المعلومات بين القارات وتوثيقها. وربما، إلى الأخير، ما كان جبران بنظر ماري هاسكل سوى مغترباً من بيئة مشرقية، ريفية ومتخلفة، وجدَ نفسه في عالم مدنية، مدهش، جديد كل الجدّة عليه؛ فما كان منه إلا مقارنته بواقع حياته الآفل، المرير، ومن ثمّ تدبيج تلك الأساطير عن ـ كذا ـ نبل محتده وغنى عائلته ووجاهتها. على كل حال، فها نحنذا مجدداً أمام تلك الحقيقة / المفارقة، التي سبق وأن شددنا عليها؛ في كون هذه المرأة بالذات، من دأبت على تنقيح نصوص جبران، المكتوبة بالإنكليزية : وهي اللغة العالمية، المتيحة لإسمه أن يذاع في أنحاء المعمورة، وخصوصاً إثر صدور كتابه " النبي ". بالمقابل، لا بدّ من التأكيد هنا ـ وليسَ دفاعاً عن ملهم فتوتي ـ أنّ نصوص جبران الموشاة بلغته العربية، الأنيقة والمزخرفة، لا يمكن لها إلا أنْ تنصِفَ موهبته وتبقيها حيث هيَ وفي المكانة التي إستحقتها دوماً : في صدر إيوان الأدب العالميّ.
5
ربّ متسائل، بخصوص ما ذكرناه للتوّ عن الأسطورة الجبرانية، عما إذا لم يكُ حاضرُ المهجر الأمريكيّ آنذاك، أشد مرارة وأدهى قسوة مما كانه حال تلك العائلة وهيَ في مستقرها الأول في " بشرّي "؛ البلدة البعيدة، الواقعة إلى الشمال من بيروت ؟ ربما كان الوضع كذلك؛ على الأقل في مبتدأه، حينما رست سفينة المهاجرين العملاقة في ميناء نيويورك، صباح يوم 17 حزيران 1895، وكان على متنها إمرأة قوية الشكيمة، إسمها كاملة رحمة، صحبة أولادها الأربعة. منذ لحظة وصوله، لازم اللبْس سيرة طفل العائلة الأصغر، ذي الحادية عشر من عمره : لقد تمّ إعطائه إسم أبيه، خليل جبران، إختصاراً لتكرار الكنية؛ وهوَ الإسم، الذي سيُعرف به فيما بعد نابغتنا، اللبناني، في أرجاء المعمورة. إن تشديدنا هنا على إنتمائه لموطن الأرز، يعودُ إلى حقيقة تاريخية، معروفة؛ وهيَ أنه في ذلك الوقت كان جميع المهاجرين من لبنان يُعرفون بـ " السوريين "، بسبب كون موطنهم ذاكَ سنجقاً مرتبطاً بدمشق؛ مركز الولاية الشامية، المرتبطة بدورها بالخلافة العثمانية. ومن طرائف الملابسات وقتذاك، أن رسالة التوصية المرسلة من إدارة المدرسة إلى فرد هولنداي، كان قد ورد في مستهلها : " هل يوجد بين أصدقائك فنان يمكن أن يهتم بفتى آشوري، هو خليل جبران ؟ ". قد يكون ثمة خلط بين إسمَيْ " سوري " و " آسّيري "، لدى مرسل الخطاب، ويُحيلنا إلى شهرة الآشوريين، القدماء، في الكتاب المقدس، أكثرَ من معرفة بلاد منسية، آنئذٍ، منعوتة بـ " سورية " : إلا أنّ هذه المسألة، على طرافتها، ربما كانت من بواعث ثقة جبران الطفل بنفسه أمام أقرانه، وبالتالي ترسّخ ميوله إلى أسطرة الذات وتضخيمها، والتي سبق لنا أن وسمناها، في مكان آخر. الأسطورة الجبرانية، المحلقة لاحقا في سماوات النبوّة، لا يمكن عزلها عن وعي عميق، تاريخيّ وجغرافيّ، بالوطن الأم؛ جبل لبنان. قد تكون زيارة كاتبنا، الدراسية، لذلك الموطن هيَ من أتاحت لوعيه ذاكَ، بالتناهي إلى المدى، المفترض، لإسطورة " النبي "، الموصوفة : فقريته " بشرّي "، مشرفة على وادي قاديشا؛ المعروف بـ " الوادي المقدس ". كما أنّ غابة الأرز، الشهيرة، بالقرب من تلك المنطقة إستحوذت لسبب ما على نعت " أرز الرب " : المقدس، إذاً، صنوٌ للربّ؛ وهما جديران بإبن الجبل، الأكثر موهبة وشهرة؛ بجبران ذاته، وليسَ أحداً غيره. ولكي تكتمل سلسلة المصادفات تلك، في مجاز الإبن والأب، كان علينا أن نعثر على رحم النبوة إذاً؛ على الأم العذراء، المتجسدة في راعيته وصديقته وحبيبته ماري ( مريم ! ) هاسكل. ولكن جبران خليل جبران، ما لبث مع تقدمه في العمر أن راحَ يتخلى رويداً عن أسطورته الشخصية وأوهامه وتخلقاته. كان عليه، كفنان مبدع، أن يدرك بشكل ثاقب أن مؤلفاته هيَ التي ستخلد إسمه، وأنّ موقعه ثمة بين البشر وليسَ بين المختارين؛ بين البشر المظلومين، الفقراء، الذين طالما تغنى بآلامهم في كتاباته ولوحاته على السواء. لا غروَ إذاً، أنّ مبدعنا سيحطم تلك الأسطورة بقسوة، وفي لحظة من صحوة فكره. كان يتمشى مع صديق غربته، الحميم، ميخائيل نعيمة، ذات يوم نيويوركيّ من عام 1921، حينما إلتفت جبران إليه قائلاً بتأس ومرارة : " ميشا ! لستُ إلا نبأ كاذباً ".
(*) روبن ووترفيلد، جبران خليل جبران ، نبيّ وعصره / ترجمة ميشيل خوري ـ طبعة دمشق عام 2003، ص 86 : وقد إعتمدنا في مقالتنا هنا، بشكل أساس، على هذا الكتاب القيّم، الفريد