ما الفرق! وإلى متى؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عندما تصبح الكتابة ردَّ فعل على قولٍّ محرِّض أو استجابة له، تخرج الكلمات عن سياقها المألوف، وتملي على الفكر ما يصعب أن يمليه على القلم أحيانًا، ولا سيَّما عندما يتحرَّج الكاتب في الكتابة في موضوع تتشابك فيه "حقائقه"، ويصعب معه موقف الحياد. ولكن متى كان الكاتب المنصف حياديًّا عندما يكون مصير أمَّة ينتمي إليها مادَّة موضوعه. هكذا أجد نفسي عندما أقحمني الأخ أحمد أبو علي في إجابة عن سؤال أو تساؤل آثرت لو لم تكن.
بينما أنا سادرٌ في أفكارٍ تجول في خاطري بعيدًا عن عالم السياسة هربًا من واقع عربيٍّ استعصى علينا نحن المغتربين فهمه، ويبدو أنَّ حال من يعيشه في الوطن يوميًّا ليس بأفضل منَّا، إذ ببريدي الإلكتروني يحمل من الصديق أحمد رسالة مصوَّرة عن أحداث غزَّة يتصدَّى فيها رجال الأمن بهرواتهم وعصيِّهم وبنادقهم لجموع حاشدة يفرِّقونهم بالضرب والركل، ولو كان شريطًا مسجَّلاً لسمعت الشتائم التي ترافق الهراوت وهي تهوي على الرؤوس. وقد علَّق الصديق بإيجاز: "قوَّات حرس عبَّاس تواجه العزَّل من أبناء الشعب الفلسطيني بالقمع والضرب. فتح الثورة (لكن لا أعرف على مَن!) عاشت أيدي أبو مازن الوطنيَّة!
أََسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ فَتْخَاءُ تَجْفَلُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ"
لست أدري هل منظر الصور أثار امتعاضي حتَّى الغثيان، أم تعليق الأخ أحمد المتهكِّم الساخر المتألِّم! فأخذت أردِّد بابتسامة لعينة قول الشاعر:
تَاْبَى العِصِيُّ إِذَا اجْتَمَعْنَ تَكَسُّرًاوَإِذَا افْتَرَقْنَ تَكَسَّـرَتْ آحَـادَا
وتراءت أمامي العصيُّ العربيَّة تتكسَّر الواحدة تلو الأخرى، بل يسابق بعضها بعضًا للتكسير، لتتبعها العصيُّ الفلسطينيَّة تتهاوى بعد تهوي على الرؤس. وسرعان ما هرعت إلى الكمبيوتر لأجيب عن تساؤل الصديق وكلماته التي تتحدَّى تظاهري بالحياد إزاء اقتتال "أخوة النضال، ولأخرج من الصدر بعض ما يختزن من ألم يخفيه رغد العيش الذي ننعم فيه في كندا موطننا البديل، وكأنَّ القلم يمسك بيدي ويشدَّ عليه إصبعيَّ ويملي:
أخي أحمد،
مع أنَّني آليت ألاَّ أكتب عن "قضيّتنا"، لاعتقادي بعدم جدواها، أقصد الكتابة وليس القضيَّة. ولإيماني أنَّ جلَّ مَن يكتب لا يؤمن بها، أقصد القضيَّة وليس الكتابة. وعندما تصبح الكتابة نوعًا من الخدر، يجدر بنا أن نستعيض عنها بما يلهينا، لنجاري الضمائر التي أُسبتت، وربَّما وافتها المنيَّة غير عالمين بأنَّها في غفوة الموت. فلماذا أنت مفترٍ عليَّ بكلماتك القليلة الجارحة، أو قل القاتلة وبما أشفعتها من صورٍ تكاد تبصق في وجوهنا، وتبول على ذيولنا!
لا جَرَمَ أنَّنا، شعبًا وحكومة نتوه في بيداء ضلالنا، وننعم في جهالتنا. ولا غرو أن قالوا، أو قيل إنَّنا شعبٌ لا يستحقُّ فلسطين، أو فلسطين ليست بنا قمينة. ولأنَّها فوق مبتغانا ودون مسعانا، فقد قيَّض الله لها نفرًا يستحقُّ فيها ما نحن غير مدركينه، أو مُذَّكِّرينه.
أتتساءلُ! بعد طول مكثٍّ في شكٍّ اليقين. أتماري فيما أنت مدركه، وتُكابر فيما كان منك بالأمس يقينًا، وها أنت تترك للظنون ما لم تسلمه لليقين! وهبني جاريتك في مقصدك، وأثنيت على تنويهك، وثنيَّتُ على قولك، أبالغٌ أنت فيه ما لم تفصح عنه! هيهاتَ! فما المسؤول بأعلمَ من السائل. ولا السائل بجاهل عمَّا عنه يسأل. مع ذلك، لا بدَّ لي من جوابٍ لك، وإن لم يُنِلك ما تودُّه منِّي. ولكن قبل الإجابة عن سؤالك الذي لم تُمط عنه اللثام إلاَّ بما يتيح لي تخيُّل سماته التي لم تُبِنْ قسماته، دعني أهذي بخاطرة ذاتيَّة السرد، عامَّة المقصد. أنستغرب نحن الذين ناصب أحدنا الآخر العداء، وتراشقنا بسهام ارتدَّت علينا، وكلٌّ منَّا يدَّعي الحقَّ في غيِّه! ويجزم أنَّ الحلَّ منوط به! الحديث ذو شجون، والاسترسال فيه قد يصبح ذا مجون. لماذا؟ لأنَّ قول الحقيقة موجع، والتذكير به مؤلم، فعلام ننكأ جراحًا ضمَّدها الغشُّ فباتت بعض تاريخٍ نستذكره، فيوردنا حمأة جهل أنفسنا فيما سدرت من غيٍّ وضلال. ولمَ العجبُ مرَّة أخرى، ألسنا بعض مَن في الصور التي أرفقتها بكلماتك الموجزة الموخِزة! وليس مستبعدًا أن تكون أنت أو أنا ممسكًا بالهراوة أو بالبندقيَّة نهوي بها على رأس "أخ" نريده أن يكون معنا في خندق "النضال" من أجل فلسطين! فما العيب أو العجب في أن تكون أنت أو أنا مَن ترتفع على رؤوسهم الهراوت، ويُداسون بسنابك حرس "الثورة". نعم سنابك، وليست أحذية أو "بساطير" لابسيها، لأنَّهم لا يمتازون من الحيوانات إلاَّ بمظهرٍ، وكم تخدع المظاهر!
أمَّا ما ذكرت عن "فتح الثورة: وتساءلت في بساطة تكاد تُماثل السذاجة، مع ما عهدته فيك من حصافة ورزانة. سؤالك الاستنكاري حمل جوابه في كلماته. "فتح الثورة"، نعم، فُتحت، فإذا بها إهابٌ على غير ما توقَّعناه. أو أكثر دقَّة، على غير ما كنتُ طوال سنيِّ الكتابة أدَّعيه، وأصرُّ عليه. إهاب على لحمٍ عَطنٍ ودم آسنٍ.
وماذا عن أبي مازن! فسيَّان إن دعوت له ببقاء يديه، أو عليه بشلَّهما، فهو سائر في درب سُدَّ من خلفه، وأُحيط بسياج شائك من على جانبيه، فخليق به أن يتابع المسير إلى الأمام أو يراوح في مكانه، فلا الأوَّل يكسب الحمد ولا المراوحة تُبلغ المراد. أم هي دائرة مُفرغة يضلُّ فيها السائر هداه، وينتهي من حيث ابتدى! وهكذا دواليك. وأين ستأخذنا "حماس"! والطريق أمامها ليست بأفضل من مثيلتها في درب "السلطة" أيًّا كان على رأسها.
أتذكر يوم دُعينا، بعد أوسلو إلى حديقة البيت الأبيض لنشارك في أفراح ختان الوليد، بعد عُسر المخاض، ولبسنا أجمل الثياب، ورسمنا على وجهونا ابتسامات الفرح، ونحن نردِّد: "نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيب." ودسنا على كرامتنا وكبريائنا أو ظلالها أو ما اعتقدنا أنَّها ما تزال كامنة فينا لنعيش في وهم الحاضر وخداع الآتي. ويا لهول ما شاهدنا من تمثيليَّة ملهاةِ مأساتنا، عوضًا عن الختان، إذ بهم يخصون المولود على زغاريد "الختيار"، وصمت "أبو مازن"، وجائزة نوبل للسلام. قد تنفع الذكرى المؤمنين. ولكن أنَّى نحن منها! فإيماننا شكٌّ في أنفسنا وعبءٌ عليها.
ولِمَ لا نكون "أسودًا" على أحدنا الآخر، طالما سنحت الفرصة، لنوهم أنفسنا أنَّنا لسنا صيصان، أو أرانب في مواجهة المصير!
أتلومني إن آليت على نفسي ما لم تعهده فيَّ، وتعجبُ إن كان صمتي أقوى من صوتي، وقلمي أعجز من كلماتي! قد تقول شاعر يحلم! نعم، ومن حقٍّ الشاعر أن يعيش في الأحلام حتَّى وإنت كان كابيوس، وإلاَّ فقد مبرِّر وجوده. أو هائم سادرٌ في فيافي خيالاته وبيداء شيطان شعره! فلِمَ لا! ونحن جميعًا فيما نخفيه سواء.
شكرًا على هزَّة تعيد الضمير إلى حيث يجب أن يكون. وشكرًا على إيمان، قد يزعزعه الشكُّ، ولكن في مَن؟ كما تساءلت في تقديمك الصور، "بدون تعليق".
في هذه المناسبة، يوم "هانوكا" اليوم السبت 16 ديسمبر، كانون أوَّل 2006 التي يحتفل فها اليهود، أحفاد إبراهيم من سبط إسحق، يقدِّم "أبناء فتحٍ"، أحفاد إبراهيم من سبط إسماعيل لأبناء عمومتنا أجمل هديَّة في هذه الصور. وكما قال الشاعر:
"إِنَّ الهَدَايَا عَلَى مِقْدَارِ مُهْدِيهَا"
أوتاوا، الساعة الثامنة والنصف من مساء السبت/ 16 ديسمبر 2006
وكعادة متَّبعة منذ تعرَّفت إلى الأخ الزميل على منير حرب، أطلعته على ما أملاه القلم على الفكر، ليجيبني من بيروت حيث هو الآن في إجازة ينعم بهدؤ حذرٍ يسبق العاصفة التي يواجه فيها الأخ أخاه هناك، فأتى ردَّه يحمل الألم نفسه الذي في صدورنا وإن لم يبدُ على وجوهنا، ويقول:
أخي العزيز أحمد،
لا، لا، ولا. سنبقى نعلِّق ونعلِّق حتَّى يستفيق النور في ضمائر المضلَّلين والمأخوذين برنين الذهب وبريقه.
المشهد ليس فلسطينيًّا فحسب، إنَّه لبناني وعراقي وجزائري وعربي بامتياز. دماؤنا في كلِّ الأرض العربيَّة ترفد أنهارنا العطشى على يد العدوِّ والصديق والأخ والشقيق، ومكتوب عليها أن تخرج من شرايينها لتضخَّ في عروق الأرض التي يبدو أنَّها تعاني ظمأ تاريخيًّا لا يرتوي.
البندقيَّة ليست من صنعنا يا أخي أحمد، وعندما نغزلها بزنود رجالنا وأنامل أراملنا كما نغزل كنزات أطفالنا، ربَّما عندها يعزُّ علينا رصاصها وتدرك هي نفسها أن لا اتِّجاه لها إلاَّ نحو الغروب السائد فوق سمائنا.
بقدر ما يخرج منِّي التاريخ والثقافة في هذه اللحظات يا أخي أحمد، بقدر ما أزداد تشبُّثًا بما هو آتٍ من صنع زمن غير موبوء بالتزوير والتضليل والتخدير. سوف نبقى نعلِّق يا عزيزي إلى أن نقتل الوحش الذي زرعوه في عقولنا. وإلى أن ألقاك قريبًا، شرِّع نوافذك على الرغم من صقيع كندا، فإنَّه أكثر دفئًا من جليد ثقافتنا المشوَّهة. مع تحيَّاتي من بيروت.
وها أنا بين الأخ أحمد والأخ علي، أرى حقيقة نفسي، ليخرج الألم الدفين ويصدم الضمير علَّنا نصحو من سبات يكاد يشبه ثالث الحالين في عدم انتباه أو منام. بلى، "ظُلْمُ ذَوي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً." وهل لنا سوى التعليق!
نعم أخي علي، البندقيَّة ليست من صنعنا، ولكن ماذا عن اليد الممسكة بالعصا، أو الإصبع الضاغط على الزناد! ما الفرق! وإلى متى؟
* نائب رئيس نادي الصحافة الوطني الكندي ـ أوتاوا
* رئيس المركز العربي للثقافة والإعلام ـ أوتاوا
editormurad@rogers.com