الدكتاتور بينوشيه في الاقتصاد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عندما توفي دكتاتور التشيلي السابق أوغيستو بينوشيه عن سن تناهـز 91 سنة، رفضت الحكومة إقامة مراسيم رسمية لوفاته، في حين اندلعت مظاهرات عند تشييع الجنازة بين المناوئين والمؤيدين لحاكم الدولة التشيلية المطلق للفترة 1973- 1977. و يعكس هذا الجدل الذي أثاره نظام بينوشيه منذ استيلائه على الحكم، إذ اعتبر مؤيدوه أن الفوضى العارمة التي عمت البلاد خلال فترة حكم الزعيم الاشتراكي سلفادور آلندي، حيث وصلت نسبة التضخم السنوية 750% وشُلّت الحركة الاقتصادية، تبرر الانقلاب العسكري. كما اعتبر هؤلاء المؤيدون (وهم شرائح واسعة من الشعب) أن ضحايا القمع، بما فيه 3197 قتلى و 29 ضحايا التعذيب، لا يمكن مقارنتهم بضحايا الأنظمة الشيوعية التي كان يتعاطف معها نظام آلاندي (مثل كوبا ودول المعسكر السوفياتي السابق)، وهو الاتجاه الذي كانت تسير إليه البلاد، لولا تدخل العسكر -حسب زعمهم-. وحتى عندما ثبتت فضيحة تحويل بينوشيه لملايين الدولارات لحسابات بنكية خاصة عام 2004، كان رد المؤيدين بأن الاستقرار والتنمية التي تحققت على يد الجنرال تفوق مزاياها بكثير حالات الفساد التي تم الكشف عنها.
لكن الأكيد الذي لا جدال فيه هو الإصلاحات الاقتصادية الجذرية التي تمت منذ استيلاء الجنرال بينوشيه على الحكم، وهي إصلاحات لم تتمكن حتى دول متقدمة مثل أمريكا من اعتمادها، مثل إصلاح نظام التقاعد. و أدت هذه الإصلاحات إلى تنمية اقتصادية لا نظير لها في أمريكا الجنوبية، كما مكنت التشيلي من " قلب الطاولة " على جيرانهـا، حيث أصبحت تتفوق عليهم في معدل دخل الفرد، بينما كان الوضع عكس ذلك في بداية السبعينات من القرن الماضي. فكيف استطاع الجنرال بينوشيه تحقيق ما فشل فيه العسكر في الدول المجاورة (مثل الأرجنتين) ؟ وما هي نوعية الإصلاحات الاقتصادية التي حصلت في عهده ؟ و ما هي الدروس التي يجب استخلاصها من كل هذا للدول العربية اليوم ؟
لعل القرار الحكيم الذي اتخذه الجنرال بعدم إدارة العسكر للمؤسسات الحكومية - وعلى رأسها الوزارات - كان الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح. وتلت ذلك "ضربة حظ" باختيار فريق اقتصادي متناسق ذي كفاءة عالية. كما ساعد إسكات المعارضة عن طريق القمع والترهيب - المدانين أخلاقيا بطبيعة الحال - في إطلاق يد الحكومة لاعتماد إصلاحات - هامة وربما ضرورية ومفيدة على المدى المتوسط والطويـل - كان من الصعب تطبيقها في ديمقراطية برلمانية.
بدأت الطغمة العسكرية بالبحث عن فريق خبراء لإدارة دفة الحكم بعد أن رفض الحزب الديمقراطي المسيحي - الذي كان يحكم البلاد قبل وصول الاشتراكيين - الانضمام إلى الحكومة الجديدة. وشملت مقابلاتهم مجموعة من أشهر المحامين، ومجموعة رجال الأعمال، و مجموعة ثالثة تضم أساتذة الاقتصاد في الجامعة الكاثوليكية بالعاصمة بساتياغو، و هم خريجو كبرى الجامعات الأمريكية، و في مقدمتها جامعة شيكاغو الشهيرة التي ارتبطت الجامعة الكاثوليكية بعقد شراكة معها منذ الخمسينات من القرن الماضي، يتم بمقتضاه إرسال أفضل الطلبة لإنهاء دراسات الدكتوراه فيها.
حسب ما ورد في مقال نشره د. خوزي بينيرا، وزير العمل السابق - وأحد اشهر أعضاء الفريق، وصل العسكر اثر المقابلات التي أجروها إلى قناعة بعدم صلاحية "مجموعة المحامين" لتسيير دفة الحكم لعدم درايتهم بالشؤون الاقتصادية، كما اقتنعوا بعدم جدوى رجال الأعمال، الذين طالب كل منهم بحماية القطاع الذي ينتمي إليه، مما من شأنه المزيد من عزل الاقتصاد الوطني، بينما الهدف المرجو هو اندماج الاقتصاد التشيلي في الدورة الاقتصادية العالمية. وفي النهاية فضل الجنرالات مجموعة " فتيان شيكاغو " (شيكاغو بويز) كما عرفوا في ما بعد لوضوح الرؤية عندهم من ناحية الأهداف: خلق اقتصاد وطني تنافسي على الصعيدين المحلي والخارجي، و قدرتهم على تحقيق الإصلاحات المطلوبة.
والحقيقة أن لـ " فتيان شيكاغو " الكثير من نقاط القوة، فهم خريجو كبرى الجامعات الأمريكية، و لهم دراية واسعة بالشأن الاقتصادي بحكم الدراسات التي كانوا يقومون بها داخل الجامعة الكاثوليكية و الاستشارات التي كانوا يقدمونها إلى المؤسسات الدولية - مثل صندوق النقد والبنك الدوليين -. وعلى هذا الأساس، قاموا بإعداد برنامج متكامل، حرر الاقتصاد الوطني من العراقيل البيروقراطية، وفتحه للمنافسة الخارجيـة، حيث تم توحيد التعريفة الجمركية بحدود 10% على كل البضائع المستوردة، باستثناء السيارات. كما قاموا بعملية كبرى لنقل ما يزيد على530 من المؤسسات الاقتصادية إلى القطاع الخاص. وأقاموا إطاراً تنافسياً يسمح باختيار نظام التقاعد الذي تشرف عليه شركات خاصة، بالإضافة لنظام " وصل التعليم " (School Vouchers) الذي يحصل بمقتضاه التلاميذ على تمويل من الحكومة لدراساتهم بمدارس خاصة يختارونها بأنفسهم.
حققت إصلاحات " فتيان شيكاغو " نتائج هامة، إذ أصبح الاقتصاد التشيلي الأعلى نموا في المنطقـة، بالرغم من المعارضة والتشكيك التي تعرضت لها هذه الإصلاحات في البداية، وبعض الأخطاء والأزمات (مثل أزمة البنوك عام 1982)، وهي أمور فنية تمت معالجتها بسرعة. و يفسر هذا النجاح مواصلة كل الحكومات المتعاقبة منذ خروج بينوشيه من الحكم - عام 1988-، لنفس السياسة الاقتصادية، بما فيها حكومة وسط اليسار الحالية. ولا غرو، فدخل الفرد في التشيلي بالقوة الشرائية للدولار الأمريكي (أي مضاعفته في الدول التي تكون الأسعار فيها نصف الأسعار الأمريكية)، يصل إلى 10.8 آلاف دولار، مقارنة بـ 8 آلاف دولار بالبرازيل. و يأتي ترتيبها في دليل التنمية البشرية للعام 2006، الصادر مؤخراً عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في الدرجة 38 مقارنة بـ 96 للبرازيل، كما لا يتجاوز الفقراء الذين يعيشون بأقل من دولارين في اليوم نسبة 9.7% بالتشيلي، مقابل 21.2% في البرازيل (المصدر السابق: موقع): http://hdrundp.org
لعل أهم درس للدول العربية من التجربة الشيلية، ضرورة الالتزام السياسي الواضح بحزمة إصلاحات واسعة يتم تحديدها بدقة وضمن جدول زمني محدد، و ضرورة اختيار فريق اقتصادي على مستوى الوزارات له تكوين و تجربة - لدى كبرى المؤسسات الدولية - تؤهله للقيام بهذه المهمة. أما القمع الدموي الذي مارسه بينوشيه -عن اضطرار أم عن اختيار- فلم يعد ضروريا و لا مقبولا في زماننا هذا. و من المؤسف أن بعض الأنظمة العربية - سورية و السودان نموذجا- لا زالت تمارس "البينوشية" إلى يومنا هذا، لكن في السياسة لا في الاقتصاد!
كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي، باحث أكاديمي وخبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن.