ضبط الأهلة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أصدر مجلس القضاء الأعلى بيانا نشرته الصحف يوم الخميس 30/11/1427هـ بتقويم أم القرى يتضمن أنه ". . . ثبت لديه شرعا دخول شهر ذي الحجة لهذا العام 1427هـ ليلة الخميس الموافق 21 ديسمبر من عام 2006م بشهادة عدد من الشهود العدول وبهذا يكون الوقوف بعرفة يوم الجمعة الموافق 29 ديسمبر عام 2006م وعيد الأضحى المبارك يوم السبت الموافق 30 ديسمبر عام 2006م. . .".
وكان المجلس الموقر قد أصدر بيانا طلب فيه تحري هلال ذي الحجة مساء الثلاثاء 28/11/1427هـ، وذكر فيه أن هلال ذي القعدة ثبت دخوله "بشاهدة شاهد واحد".
ويخالف هذان البيانان ما تقوله الحسابات الفلكية وما أثبته واقع الترائي العلمي لهلالي ذي القعدة وذي الحجة كليهما. فقد غرب الهلال في الليلة التي شهد ذلك الشاهد الوحيد برؤية الهلال فيها ". . . قبل غروب الشمس في أنحاء العالم الإسلامي كلها، بل في أنحاء العالم كلها تقريبا". وغرب الهلال مساء الأربعاء 20/12/2006م في أفق مكة المكرمة قبل غروب الشمس بثلاث عشرة دقيقة تقريبا (انظر، مثلا: "المشروع الإسلامي لرصد الأهلة" www.ICOP.Org).
ويثير هذا التناقض الملحوظاتِ التي تتكرر كل عام في مثل هذه المناسبات عن اعتماد مجلس القضاء الأعلى على الرؤية بالعين المجردة للهلال.
إن استمرار قبول الشهادة برؤية الهلال مع مخالفتها للحسابات الفلكية المنضبطة ومع ما تؤكده التجربة وما ينشأ عن ذلك من تكرار الأخطاء في دخول الأشهر القمرية المرتبطة بالعبادات الموسمية لأمر يدعو إلى الدهشة.
ومما يؤسف له أنه بدلا من علاج هذه الأخطاء نجد فضيلة رئيس مجلس القضاء الأعلى يتهم من "يتحدثون" عن هذه القضية بـ "أنهم يأمرون بأمر من لازمه اطِّراح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . "، وأن "تكذيب الناس الذين عُرفوا بالثقة والأمانة يدل على قلة الورع وسوء التدبير والتقدير. . ."، وأن "هؤلاء الذين يتحدثون عن الهلال نعرف أن منهم من لم يدرسوا الحساب الفلكي. . . ".
لكن هؤلاء يبرأون إلى الله أن يكون هدفهم اطراح أمره صلى الله عليه وسلم. فهم لا يهدفون إلا إلى "ضبط" الرؤية ليكون دخول الشهور القمرية التي ترتبط بالعبادات الموسمية صحيحا وبريئا مما يدخل على الرؤية البصرية المجردة من مشكلات تشهد بها حوادث تاريخية موثقة وتشهد بها الدراسات العلمية لما يسمى بـ"خداع البصر" المدفوع بالتهيؤات النفسية. وهم لا يطالبون بأكثر من أن تكون الحسابات الفلكية وسيلة لتعيين الليلة التي يمكن ترائي الهلال فيها، بدلا من الانسياق وراء من يتخيل أنه رأى الهلال في ليلة لا يكون فيها فوق الأفق، وإلا أن تستخدم المناظير المقرِّبة للتحقق من صحة الرؤية.
وليس ما يكتبونه "تكذيبا" لمن "عُرفوا بالثقة والأمانة". فهو لا يزيد عن كونه وصفا لهذه الشهادات بأنها ضحية للتوهم لأنها تتناقض مع "حقيقة" عدم وجود الهلال. وهذا لا يدخل في التكذيب؛ فهؤلاء الشهود صادقون في رواية ما توهموه، لكن الأحرى أن ما رأوه لم يكن إلا خطأ في عد إحدى الظواهر الكونية أو العوارض الطبيعية هلالا.
والواقع أن مجلس القضاء الأعلى لا يسوِّغ، دائما، قبولَه شهادة الشهود بأنهم يتصفون بـ "الثقة والأمانة". فهو يسوغ ذلك، أحيانا، بما يملكونه من خبرة في رصد الأهلة. ومن ذلك تسويغه قبول شهادة "أحد الثقات المعروفين برؤية الهلال" بأنه تفوق بما له من خبرة على الفلكيين المتخصصين في رصد الهلال. وسوَّغ قبول شهادة الشاهدين اللذين شهدا برؤية هلال ذي الحجة سنة 1425هـ بأنهم "ليسوا أطفالا وأنهم لا يخفى عليهم حال القمر لأنهم أهل رعي وإبل".
وما دامت الخبرة شرطا فلا يماري أحد بأن المتخصصين بعلم الفلك أكثر خبرة من "الهواة" الذين كشف بعضُهم عن أنهم يستخدمون "الحساب" بطرق بدائية لا تشجع على الثقة بها، أو المتوهمين الذين لا يعرف أحد مقدار ما يتمتعون به من "قوة البصر".
أما أن بعض من "يتحدثون" عن الهلال لم يدرسوا الفلك فصحيح؛ لكن كثيرا ممن يتحدث عنه متخصصون؛ ويعرف فضيلة رئيس مجلس القضاء الأعلى بعضَهم، وهم موضع ثقة، وإلا كيف يُسمح لهم بالعمل في المؤسسات العلمية السعودية مثل مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية أو الجامعات السعودية؟
وقد كتب بعضهم في الأيام الماضية القريبة في الصحف السعودية عن أن هلال ذي الحجة لن يرى مساء الأربعاء للسبب الذي ذكرتُه. ومنهم الدكتور حسن باصرة رئيس قسم علوم الفضاء والفلك بجامعة الملك عبد العزيز بجدة (الرياض 28/11/1427هـ)، الأستاذ عبد العزيز الشمري الباحث الفلكي المعروف في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (الرياض، 30 ذي القعدة 1427هـ).
ويوافق قول هذين المتخصصَين السعوديين الموثوقين ما يقوله المتخصصون العاملون في المراصد العربية والإسلامية والعالمية كلها. فلا حجة، إذن، في القول بأن بعض من "يتحدثون" عن هذه المسألة غير متخصصين.
وقد حضرتُ مؤتمرَ الإمارات الفلكي الأول الذي عقد في 22ـ23 ذي القعدة 1427هـ في أبو ظبي بعنوان "تطبيقات الحسابات الفلكية"، وشارك فيه أكثر من مائة من المتخصصين العرب والمسلمين والأجانب في الفلك وبعض المتخصصين في العلوم الشرعية. وتضمن المؤتمر استعراضَ آخر الإنجازات في رصد الهلال والمعايير الدقيقة التي تعنى بالحسابات الفلكية المتعلقة بإمكان رؤيته بالعين المجردة والوسائل العلمية الأخرى.
وقد شعرت بألم وإحباط ممضّيْن وأنا أستمع إلى المحاضرين وهم ينتقدون، الواحد تلو الآخر، بطرق لا يخلو بعضها من السخرية الأخطاءَ المتكررة في إعلان المملكة دخول الأشهر الهجرية اعتمادا على شهادة "شهود عدول" يشهدون برؤيتهم لهلال ليس موجودا!
ومن الأبحاث اللافتة التي ألقيت في المؤتمر بحث ألقاه الأستاذ عدنان قاضي بعنوان "فَـمَـنْ شَـهِـدَ مِـنْـكُـمُ اَلـشَّـهْـرَ: دراسة فلكية مقارنة بين يومي الدخول الرسمي والفلكي لشهر رمضان في المملكة العربية السعودية للفترة: 1380-1425هـ" أورد فيه إحصاءات تؤكد أن الخطأ في رؤية الشهود في ست وأربعين سنة يفوق الصواب فيها بنسبة عالية جدا غير مقبولة إحصائيا.
وشملت دراسته 46 شهرًا رمضانيًا: من الخميس 1 رمضان 1380هـ (16 فبراير 1961م) إلى الجمعة 1 رمضان 1425هـ (15 أكتوبر 2004م).
ومن الإحصاءات التي أوردها:
1ـ "أن يوم دخول رمضان حسب الإعلان الرسمي يسبق بشكل دائم يوم دخول رمضان حسب الشروط الفلكية.
2ـ عارضت طريقةُ الرؤية التقليدية المتبعة الحسابَ العلمي الفلكي في إعلان دخول رمضان في 40 من 46 مرة، أو بنسبة 96,86%.
يضاف إلى هذه الإحصاءات اللافتة الخطأ في دخول الأشهر في العامين الماضيين، ومن أمثلتها الأخيرة أن دخول شهر رمضان لهذا العام كان خطأ، وكان دخول شوال خطأ، وكان دخول ذي القعدة خطأ، وكان دخول ذي الحجة خطأ رابعا.
ويوجب تكرار هذه الأخطاء أن نتساءل عن إن كانت المعايير التي يقبل بها مجلس القضاء الأعلى شهادةَ من يشهد برؤية الهلال كافية أم لا. وهنا ينبغي أن نتنبه إلى أن اتصاف الشهود بـ"العدالة والأمانة" لا يكفي؛ إذ لا بد أن يُدعم ذلك باشتراط ألا تكون شهاداتهم مخالفة لـ"الواقع" الذي يقرره العِلم ويشهد به المتخصصون الموثوقون عن إمكان رؤية الهلال أو عدم إمكانها.
وقد صار هذا الأمر ممكنا الآن بوجود عدد من المتخصصين السعوديين الأكفاء الموثوق بهم في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية التي تملك الوسائل العلمية اللازمة لضبط رؤية الأهلة، وكذلك في الجامعات السعودية.
كما بدأت المملكة منذ فترة ليست بالقصيرة في حل هذا المشكل بتكوين ست لجان تتكون كل واحدة منها من قاض ومتخصص في الفلك ومندوب من أمارة المنطقة التي يرصد الهلال فيها، بالإضافة إلى عدد من المتطوعين. وتوفر هذه اللجان التخصصَ العلمي إلى جانب الإشراف الرسمي وكثرةِ الشهود مما يجعل التواطؤ على الخطأ مستحيلا.
ويوجب إنفاذ هذا القرار الرسمي أن تتقوى صلة مجلس القضاء الأعلى بهذه اللجان وأن يعمل على الاستئناس برأيها وأن يعتمدها في تقرير قبول شهادة من يشهد برؤية الهلال ذلك أنها الجهة الوحيدة التي تستطيع التحقق "علميا" من صحة الشهادة. أما ترك الأمر للثقة المطلقة ببعض "الهواة" أو مدعي الخبرة فأمر لا تبرأ به الذمة، وهو يسيء إلى سمعة المملكة التي يجب أن تكون رائدة في ضبط هذه المواقيت الضرورية من أجل إدخال اليقين على المسلمين في أداء العبادات.
ويزيد الأمر إلحاحا أن صحة دخول الشهور الهجرية في المملكة، خاصة شهر ذي الحجة، لم تعد شأنا محليا، بل صارت شأنا عالميا له صلة بمصالح المسلمين في العالم يجب مراعاتها. ونعرف جميعا أنه في بعض السنوات، ومنها سنة 1425هـ وهذه السنة، تعرض كثير من المسلمين الراغبين في الحج لمشكلات كبرى في حجز الرحلات والفنادق، وعانى كثير منهم بسبب تغيير موعد عيد الأضحى في تنظيم الفعاليات الاجتماعية التي خططوا لها من قبل. بل إن بعض المسلمين لم يعد يثق بما تعلنه المملكة عن مواعيد هذه المناسبات.