البيـمارسـتان: عام يأفل وآخر يشرق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بمناسبة انتهاء عام ومجيء عام جديد، تأمل هذه المشاهد.
(1)
في جلسة مجلس الشعب بتاريخ 20 نوفمبر بشأن "معركة الحجاب" التي أثارها تعبير عابر لوزير الثقافة فاروق حسني، تعرض الوزير لهجوم شرس من نواب الحكومة (أو "إخوان الحزب الحاكم" كما سماهم د. عبد المنعم سعيد)، وتعهد الدكتور مفيد شهاب وزير الشئون القانونيه والمجالس النيابيه بمثول الوزير أمام لجان مجلس الشعبrlm;، للمساءلة والمحاسبة البرلمانية. وأكد د. شهاب أن ما جاء علي لسان الوزير من آراء لا يمثل أي توجه حكوميrlm;، وأن الحكومة "تتمسك بالثوابت الدستوريه التي توكد ان الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريعrlm;".rlm;
لدينا ولدى الكثير غيرنا عسر فهم شديد حول المادة الثانية من الدستور التي تنص على كون "مباديء الشريعة الإسلامية" هي المصدر الرئيسي للتشريع. وكتبنا من قبل متسائلين عن ماهية تلك "المباديء" بالضبط، منوِّهين إلى الخلط العجيب بين "المباديء" و "الشريعة"، ثم بين "الشريعة" و "الفقه". وصوَّرت لنا سذاجتُنا أن أحدا سيأخذ بأيدينا ليشرح لنا. ولكن هذا لم يحدث. ربما لأنه لا يوجد شرح، أو لأن الغموض، مثل الصبر، هو ـ أحيانا ـ من الإيمان.
لكننا الآن نجد أنفسنا أمام معضلة أكبر. فطبقا لكلام الدكتور مفيد شهاب ليس فقط "مباديء الشريعة" أو حتى "الشريعة"، بل "الإسلام" كله هو المصدر الرئيسي للتشريع! وكنا نتوقع أن يصحح رئيس المجلس، وهو الفقي الدستوري المعروف، الأمرَ فلم يفعل. ثم توقعنا أن يصدر قرار بإقالة د. شهاب من منصبه بسبب لخبطته الدستورية، فلم يحدث (تم تعيينه "رئيسا لبعثة الحج الرسمية" لمصر).
بل زاد الطين بلة أن رئيس الوزراء، الدكتور أحمد نظيف، صرح في ختام ملتقى القاهرة للاستثمار بتاريخ 11 ديسمبر بأن "هناك خلطا واضحا بين الدين والتدين، وسياسة مصر واضحة ومعلنة فمصر دولة إسلامية والإسلام المصدر الرئيسي للتشريع". ولا نفهم من كلام رئيس وزراء مصر ـ طبقا للنص الذي أورده الأهرام ـ إن كان يعني موافقته على أو رفضه لـ "الخلط الواضح بين الدين والتدين"، لكن المهم أنه يكرر بالحرف الواحد مقولة وزيره حول كون "الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع" باعتبار هذا "سياسة مصرية واضحة ومعلنة"!
لا تقولوا لنا إنها عدم دقة في التعبير، فهؤلاء الدكاترة معروفون بالدقة. وإن كانت زلة لسان، فقد كشفت المكنون الحقيقي في العقول والنفوس والضمائر برغم محاولات البعض، عند اللزوم، "تخفيف" أثر المادة الثانية عن طريق الزعم أنها موجَّهة للمشرع، وهو ما يكذبه الواقع: إذ يكفي أن نراجع سلسلة أحكام المحكمة الإدارية العليا (وآخرها رفض كتابة "بهائي" في خانة الديانة ببطاقة الهوية لأن "البهائية ارتداد عن الإسلام")، أو نراجع رفض رؤساء "أندية القضاة" تعيين المرأة كقاض "إلا بعد أخذ مشورة علماء الدين، وبشرط إجماعهم"!
إذن فالإسلام هو المصدر الرئيسي الحقيقي للتشريع، بل أساس الحكم. لكن هل هو الإسلام بعقائده وغيبياته وعباداته ومعاملاته وأوامره ونواهيه ومذاهبه ومدارسه ؟!
هناك عدد لا نهاية له من الأسئلة عن معنى هذا عمليا، لكن فقط نقول: ما هو الفرق بين كلام أصحاب الفضيلة الدكاترة مفيد شهاب وأحمد نظيف، وبين كلام الأستاذ مهدي عاكف والدكاترة محمد حبيب وعصام العريان ويوسف القرضاوي؟ بل هل هناك أي فرق بين ما يقوله كل هؤلاء وما يقول به آيات الله خوميني وخامني والرئيس أحمدي نجاد أو ما يقوله الدكتور أيمن الظواهري وإخوانه في الجهاد؟؟
الدولة الثيوقراطية (أي الدينية) هي تلك التي تستند إلى مرجعية دينية. ودعونا من المزاعم بأنه "لا توجد دولة دينية في الإسلام". وليكن واضحا أيضا أنه لا يكفي لكي تكون الدولة "مدنية" أن يرتدي قادتُها ملابس الأفندية. وهل هناك شك الآن في أن مصر في طريقها للتحول من دولة شبه ثيوقراطية إلى دولة ثيوقراطية قح؟ وهل هناك شك في أن "التوريث" الحقيقي الذي يجري الإعداد له على قدم وساق ليس ذلك الذي تتسلى به بعض صحف الإثارة لتملأ به صفحاتها، بل ذاك الذي بمقتضاه يسلم فيه "إخوان الحكم" الأمانة ـ بالتخاذل أو التواطؤ ـ إلى "إخوان الإخوان"؛ أي ليحل الأصل محل الصورة؟
(2)
في أعقاب "معركة الحجاب" تلك، والتي استعد فيها الهائجون بأنواعهم وفصائلهم لذبح وزير الثقافة وكلِّ من تسوِّل له نفسُه أن يقف في طريقهم، وصَف أحد "كبار كتاب" الصحيفة القومية الكبرى (5 ديسمبر) المعركة على أنها بين "المتدينين" و "العلمانيين". وبعد أن ينتقد "المتدينين" لانفعالهم السريع إزاء كلام الوزير، يرى في تصرفات "العلمانيين" فرصة "لمواصلة تصفية الحساب مع الأولين وإحكام قمع الاسلاميين". ثم يدافع بحرارة عن أعضاء الحزب الحاكم (الذين قادوا الهجوم ضد الوزير) ضد "الذين يستكثرون عليهم أن يقدموا غيرتهم علي دينهم علي التزامهم بالانضباط الحزبيrlm;rlm;".
هكذا إذن، تم تقسيم البشر إلى فسطاطين: فسطاط "المتدينين"، أي المسلمين الحقيقيين الغيورين على دينهم؛ وفي المقابل فسطاطٌ يضم الآخرين الذين هم، بحكم المخالفة، من "غير المتدينين". وهؤلاء يشملون المسلمين "غير الحقيقيين" (=العلمانيين)، وغير المسلمين بكافة أنواعهم وأشكالهم من علمانيين ولادينين وملحدين وكفار ومشركين؛ وضعهم الكاتب ـ فضلا منه وكرما وتأدبا وخبثا ـ جميعا تحت عنوان "العلمانيين".
أي إن المقابلة الحقيقية هي بين "حزب الله" و "حزب الشيطان".... وفي مواجهة من يحاولون قمعهم وتصفية الحسابات معهم، لا يجد أعضاء "حزب الله" المضطهَدين المساكين بداً من الدفاع عن أنفسم بكل ما أوتوا، بدءا من الحناجر والخناجر إلى ...الميلشيات.
هذا هو إعلامنا!
(3)
في محاضرة جامعية أمام ندوه عقدتها كليه الاقتصاد بجامعه القاهره، قال د. أحمد فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب: [الدستور يتضمن قواعد "فوق الدستور" ولا يجوز تعديلها. وأوضح أن أهم هذه القواعد هو الشكل الجمهوري للدولة، ومبدأ ديمقراطية نظام الحكم، ومبدأ انتماء الشعب المصري للأمة العربية، ومادة اعتبار الإسلام دين الدولة، ولغتها الرسمية هي العربية، ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع..]
يبدو مما قاله فقيهنا الدستوري الكبير حول تلك القواعد أنها مثل شوربة فسيخ + كوارع + فراخ (مصابة بأنفلونزا الطيور)، والكل منقوع في بول بعير؛ ويترك لينضج على نار فحم هادئة ثم يضاف إليه قليل من "الموس أو شوكولاه".
أمام هذا العك الدستوري، فليسمح لنا د. سرور أن نوضح ـ مرة أخرى ـ بعض الأمور المبدئية في هذا الموضوع:
أولا: الكلام عن المباديء والقواعد التي"فوق الدستور" ـ أي دستور ـ ليس مجرد فذلكة لغوية حول "فوق" و "تحت"؛ فعلى أي حال بالنسبة لشخص (أو أمة أو دستور) يقف على رأسه ويمشي على يديه، فما هو فوق يصبح تحت. لكن القواعد الوحيدة التي "فوق" الدستور هي تلك التي تنتج عن الالتزامات التي تُحتِّمها المواثيق الدولية وتصبح واجبة التنفيذ بغض النظر عن وجود ما ينافيها من نصوص دستورية أو قانونية محلية. ولا بد هنا من التنويه بأن موقف مصر من المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان يثير العجب: فهي ترفض أن توقع على البعض منها (لأنها تخالف "ثوابتنا")، وما وقعت عليه فهي لا تلتزم به! بل إن الدستور المصري في حد ذاته يتحدى تلك المواثيق ويخرج لسانه لها ببجاحة شديدة ويُشَكّل سبة في جبين الأعراف والالتزامات الدولية.
ثانيا: ما نعرفه من أمر الدساتير المحترمة للدول المحترمة هو أنها مبنية فوق "أسس" راسخة من الحرية +المساواة +العدالة. لا أكثر ولا أقل. وكل شيء آخر هو من باب التفاصيل (الهامة) التي تبنى على هذه الأسس وتستلهم روحها. هكذا ينص الدستور الفرنسي في مادته الأولى، التي تؤكد أيضا على طبيعة الدولة العلمانية التي بدونها لا تتحقق حرية أو عدالة ولا مساواة. وهكذا يؤكد الدستور الأمريكي الذي ينص على حرية الفكر والتعبير ويحظر على الكونجرس أن "يؤسس دينا للدولة". ولذلك فإن الديموقراطية مثلا، كمجموعة قواعد للعبة الحكم، تصبح بدون تلك الأسس بلا معنى؛ بل يمكن بسهولة أن تتحول إلى وسيلة لهدمها ولتكريس نقائضها. ولا فضل للنظام الجمهوري على الملكي إلا بقدر التزامه بالأسس سابقة الذكر. الخ.
ثالثا: إذن حسنا فعل فقيهنا الدستوري إذ لم يجد "الحرية" أو "المساواة" بين القواعد الحاكمة "فوق" دستور مصر أو "تحته". فهذا بالضبط ما نقوله ونكرره دائما. فالحرية في مصر، طبقا لدستورها الميمون، تنحصر عمليا في حرية الاختيار بين "الحجاب والنقاب" (ملبسيا وفكريا)، وما عدا ذلك فهو من المحظورات أو المكروهات. وفي مصر طبقا لدستورها فإن "انعدام المساواة" هو الأساس، والزعم بغير ذلك ـ حتى بنص المواد 40 أو 46 من الدستور ذاته ـ هو هراء في ضوء المباديء الحاكمة إياها. شكرا لفقيهنا الدستوري الذي يبدو أنه قد بدأ يدرك أخيرا هذه الأمور، وإن كان من هول إدراكه مازال يرى أن تلك المباديء الحاكمة "غير قابلة للتغيير"!! ألم يأتِ الأوان، وهو المهتم بالدساتير والمتهم بأنه كبير ترزية القوانين، لكي يقتنع، هو وبقية حكامنا، بأن استبدال الدستور بآخر متحضر قد أصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر؟؟
(4)
في إطار اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وعدد من دول البحر الأبيض المتوسط، من بينها مصر؛ على الاتحاد أن يراجع مع الدول المشاركة بصفة دورية أوضاع حقوق الإنسان فيها وأن يساهم في ترسيخ مفاهيمها ورفع مستواها. في هذا الإطار، زار مصر خلال شهر ديسمبر وفد أوروبي رفيع المستوى وفي لقاء مع د. أحمد كمال أبو المجد، الأمين العام للمجلس القومي لحقوق الإنسان، تساءل الوفد ضمن بنود متابعاته عما فعله المجلس بشأن الأقباط. رد الدكتور أبو المجد ـ وهو المسئول الفعلى عن المجلس المصري ـ قائلا: "ولماذا لا تهتمون بأوضاع المسلمين في أوروبا...".
هكذا أثبت مجلسنا الموقر مرة أخرى أن اهتماماته ـ إن كانت لديه اهتمامات حقيقية ـ تنحصر في حقوق الإنسان "المسلم"، في مصر أو في أوروبا أو في المريخ؛ وأنه ببساطة في دولة كمصر، حيث الدين قد أصبح أساس المواطنة، لا معنى أصلا للكلام عن حقوق إنسان أو مواطنة لغير المسلمين.
ولن يدهشنا، على أي حال، إذا ما ابتلع الوفد الأوروبي، بالسذاجة المعتادة، الطعم وانهمك في تعداد ما يلاقيه المسلمون (من المهاجرين الذين لم يجبرهم أحد على المجيء) من "عقبات" في أوروبا وماذا فعل الاتحاد والدول الأعضاء لمجابهتها وتصحيحها.
(5)
بمناسبة انتهاء مستشفىً (بيمارستان) للأمراض النفسية والعقلية من عملية تجديد شاملة وكاملة، دُعى أحد كبار القوم لزيارة تفقدية. ونظرا لأهمية الزائر، حرص كبير الأطباء على مصاحبته بنفسه في جولة مفصلة. وصلت الزيارة إلى قاعة كبيرة، تفاخر وتباهى كبير الأطباء بسقفها العالي وفخامتها غير العادية التي تليق بفندق خمسة نجوم وليس مستشفى. لفت نظرَ الزائر ليس فقط ثريا (نجفة) إضاءة كبيرة معلقة من السقف، بل وجود شخص يتشبث بالسلسلة التى تتعلق منها الثريا، فتساءل عنه.
ـ الطبيب (يرد بصوت منخفض): هذا ـ بعيد عنك ـ واحد مجنون. لا تأخذ بالك منه.
ـ الزائر: لكن ماذا يفعل فوق؟
ـ الطبيب: بسلامته يعتقد أنه مصدر الضوء، ولو نزل لانطفأت الثريا!! لذلك فهو يبقى معظم الوقت "مشعبطا" هناك.
استمر الطبيب في شروحاته، وهمّ الجميع بمغادرة القاعة متجهين للقسم التالي.
ـ الزائر (يبدو شديد الانزعاج): لكن إلا يمكنكم عمل شيء بشأن هذا المسكين؟ إنه يتشبث بصعوبة بالسلسلة، ولو أفلتت يده لوقع على أم رأسه ليواجه موتا محققاً. لا بد من إقناعه، أو حتى إجباره على النزول.
ـ الطبيب (ناظرا للزائر نظرة من بدأ يشك في قواه العقلية): كيف تقول هذا؟؟ وهل تريدنا ـ سيادتك ـ أن نبقى في الظلام؟؟
**
لا نعلم لماذا عادت إلى الذاكرة هذه النكتة المصرية (ليست حديثة). لكنك إن حاولت الربط بينها وبين ما قرأتَه أعلاه، أو إن رأيتَ فيها شيئا يشير إلى أوضاع المحروسة، فالأجدر بك أن تأخذ موعدا عاجلا مع طبيبك النفسي الخاص.
وكل عام وأنتم جميعا بخير وصحة ـ بدنية وعقلية.