كتَّاب إيلاف

أمّة ضَرَبَ يَضْرِبُ!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

المقارن بعجلة بين قواميس العرب وألسنتهم، وقواميس العجم وأفواههم، يدرك ملاحظة بارّعة، مفادها أن العرب يستخدمون مئات الأسماء لمسمى واحد، في حين أن الإنجليز يستثمرون الكلمة الواحدة لعشرات المعاني والمسميات، ويمكن أن "يضرب" للحالة العربية مثالاً: "بالسيف" المالك مئات الأسماء، وللحالة الثانية يمكن أن "يضرب" مثالاً بـ [right] التي تستخوذ على عشرات المعاني والدلالات. إن الحالة العربية لا تسير على طريقتها في كل حالاتها، مما يعني أن في الأمر تشابه في الحالة الإنجليزية، ولكن هذه الحالة- أعني إطلاق كلمة لتشمل مئات المعاني، لم تكن حالة موفقة، حين يكون الفعل، الذي تتعدد استعمالاته، فعلاً يدل على العنف والتوحش والتخويف!

هل من المصادفة اللغوية أن يكون الفعل "ضرب" يحمل كل هذه الدلالات ليحتل الذاكرة العربية مع ما يحمله هذا الفعل من صورة سيئة في وجدان المتلقي العربي، لأن كلمة ضرب تستحضر معها متى ما أطلقت صورة (فاعلاً يَضّرِب، ومفعولاً يُضْرَبُ) هذا التوحش، المقرون بأصوات الكلمة، المنبعث من اجتماع (الضاد والراء والباء) لا يمكن أن يختفي حتى لو كان سياق الكلمة يشير إلى مدلول آخر، ومعنى سام أو لطيف، أو على الأقل معنى يستقر في منطقة وسطى بين (العنف واللاعنف)!

وحتى لا يكون الكلام ضرباً من التوهم، أو محاولة الإفتراء على اللغة، سأهرع إلى أبسط القواميس وأيسرها، وهو ما استقر في الجمجمة الصغيرة، بعد مضي كل سنوات الدرس والتحصيل، وليعذر القارىء الكريم الذاكرة إن سرّبت أو هربت أو حتى "نسّمت"!

تقول العرب- ضرب، يضرب، ضرباً: تحرّك، وللقلب ضربٌ أي نبضُ، ومنه ضربات القلب، وضرب الضرس، أي اشتد وجعه وألمه، وضرب الرجل في الأرض: ذهب وأبَعْدَ، وفي التنزيل العزيز: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)، وضرب الرجل في سيره أي أسرع وعجّل، وضرب في الماء أي سبح.

وضرب في الأمر بسهم ونحوه أي شارك فيه، وضرب عن الأمر: كفّ وأعرض، وضرب اللون إلى اللون أي مال واقترب، وضرب الرجل بيده إلى كذا: أي أهْوى وضرب إليه: أي أشار، وضرب بالرجل على المكتوب وغيره: أي ضمَّ.والضرب: في النوم على الأذن، حين يغلب المرء النعاس والنوم، وجاء في التنزيل العزيز: (وضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا).وضرب فلان على فلان: أفسد عليه أمره، ويقال: ضرب القاضي على يد فلانٍ: حجر عليه ومنعه التصرف.

وضرب الرجل بالسيف: أي أوقع أو أسقط، وضرب الدهرُ بين القوم: أي فرّق وباعد.

وضرب الشيء ضرباً، وتضراباً أي أصابه وصدمه، يقال: ضرب به الأرض، ويقال: ضرب به عُرض الحائط: أي أهمله وأعرض عنه احتقاراً. وضرب الرجل ضرباً: أي جلده، وفي التنزيل العزيز: (وخُذ بيدك ضغثاً فأضرب به ولا تحنث).

وضرب الأمير الحاتم الدرهم أي صاغه وسكّه وطبعه، وضرب الرجل مثلاً، أي ذكر له مثالاً وتشبيهاً ومثّل له، وفي التنزيل العزيز: (وضربْ لهم مثلاً أصحاب القرية).

وضرب الحاسب عدداً في آخر: أي كرره بقدر آحاد الآخر، وضرب الرجل أجلاً وموعداً: أي حدد الوقت وعيّنه.

ومن معاني ضرب في اللغة يقال: ضرب الرجل له في ماله سهماً أو نصيباً، أي جعل له مقداراً معيناً ومنه (اضرب لي بسهم)، وضرب الخيمة: أي نصبها، ومنه (مضارب بني فلان)!

ويقال: ضرب الليل بظلام: أقبل وخيّم، وفي نشرات الأخبار يقال: ضُرب على فلان الحصار أو النطاق! أي حاطه به وضيّق عليه. كما يقال ضرب عليه الذلة، وفي التنزيل: (وضُربت عليهم الذلة والمسكنة) وضرب الوالي على الناس خراجاً: أي ألزمهم بدفع ضريبة وفرضها عليهم. وضرب الشيء بالشيء: أي خلطه ومزجه. وقد أضافت المجامع اللغوية: (ضرب الرجل "الرزَّ" أي قشّره!!!)

وفي الحيرة يقال: ضرب الرجل بذقنه الأرض: أي أطرق جُبناً أو استحياءً.وفي البحث يقال: ضربت الشرطة للمجرم الأرض كلها: أي طلبته في كل مكانٍ.

وفي التفوق والنجاح يقال: ضرب الرقم القياسي، أي تعداه وتجاوزه، وهذه من محدثات مجامع اللغة العربية، وكل محدثة في اللغة ضلالة وكل ضلالة لغوية في القاموس.

في السياسة يقال: أضرب العمال، أي أقاموا ولم يبرحوا، وسكنوا ولم يتحركوا، حين يكفون عن العمل حتى تُجاب مطالبهم، وهذه محدثة أيضاً. وفي عالم الموائد يقال: أضرب الخبرُ: أي نضج، وآن له أن يُنفض عنه رماده وترابه.

كما أن الفعل (ضارب) له من الشر نصيب، لذا يقال ضارب فلانٌ الرجل: أي عاركه وتشاجر معه وباراه في المضاربة والضرب. في الإقتصاد يقال: ضُرب لفلان في ماله، أي أتجّر له فيه، أو أتّجر فيه على أن له حصة معينة من ربحه.

وفي التجارة يقال: ضرب فلان السوق: أي اشترى في الرّخص، وتربّص حتى يرتفع السعر ليبيع، وقد يهبط فتحدث الخسارة، وهذه كذلك من محدثات مجامع اللغة العربية.

وقد يضاف إلى الشر الكامن في الفعل (ضرب) شرٌّ آخر، حين يُزاد الفعل بحروف أخرى فيقال: (اضطرب) وهي فعل ثلاثي زديت فيه الهمزة والطاء، ليكون معناه: التحرك على غير انتظام، وضرب بعضُه بعضا.

وقد دخل هذه الفعل المزيد بحرفين في جوانب شتى فيقال: اضطرب البحر: أي تموّج، واضطراب الأمر هو اختلاله، ويقال اضطرب الحبل بينهم: أي اختلفت كلمتهم وتباينتْ آراؤهم، واضطرب القوم: أي تضاربوا.

ولو تركت للقلم حريته في الإنسياب لطالت الصفحات والكلام، لذا سأقتصر على ذكر "بعض" معاني الضرب في اللغة دون شرح، حفاظاً على مساحة ووقت القراء، ووقتي طبعاً.

خذ مثلاً هذه الجمل (تضاربت الآراء/ الإضراب/ جدول الضرب/ ضروب الخبر في البلاغة/ ضربات الشمس/ الضرائب / المضاربة في الشركة الفلانة/ مضارب تنس الطاولة... إلخ).

هذه إطلالة صغيرة على الفعل "ضرب" وقد عفا وتجاهل القلم عن الكثير من دلالات هذا الفعل مراعاة لفارق التوقيت والزمان والمكان! أما الغاية من هذا السرد "الخفيف" فلا تعدو أن تكون "مزحة" "برزحة"، حين دراسة العلاقة بين الإرهاب والإعراب، حين تكون اللغة محرضة على العنف، وجالبة للتوحش والإسترهاب. وتذكر أيها القارىء مقولة أهل اللغة والفلسفة، حين قالوا: إن المزاج الإنساني يتشكل من خلال الانطباعات الأولية للمفردات!

Arfaj555@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف