سياسات التسامح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
نشأت سياسات التسامح فى أوروبا من موقف السياسيين المستنيرين، وإدراكهم العواقب الوخيمة لعدم التسامح. وعندما أصبح واضحاً أن فرض التجانس الطائفى فى كل أنحاء الدولة يتعارض مع الأمن المدنى تخلى الحكام المستنيرون عن هذه السياسة ومنحوا رعاياهم "مراسيم سياسة التسامح". هكذا فى عام 1598 خّول ملك فرنسا "هنرى الرابع" بـ "مرسوم نانت" رعاياه الكالفنيين الحق فى الممارسة الحرة لديانتهم. ومع ذلك فإن الشروط التى تضمنها هذا المرسوم تظهر أن الملك قد أخذ فى حسبانه الموقف المتعصب لرعاياه الكاثوليك. إن إلغاء مرسوم "نانت" سنة 1685 فى ظل حكم الملك "لويس الرابع عشر" يظهر بوضوح أكثر من المرسوم نفسه كم أصبحت ضرورية سياسة التسامح الدينى بالنسبة إلى الأمن الاجتماعى فى العصر الذى كانت فيه فرنسا ضعيفة وفقيرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، فى حين أن البلدان التى استقبلت هؤلاء اللاجئين جنت فوائد ضخمة من هذه السياسة.
فقد صدر مرسوم فى "بوتسدام" يلزم اللوثريين بالتسامح مع الاصلاحيين من أخوتهم فى الدين، وكان من بين الخدم المدنيين للدولة البروسية عدد هائل من الفرنسيين البروتستانت. وأثبت فريدريك الكبير أنه عادل ومتسامح كجده، وفى عدد من الكتابات المختلفة كان يزكى سياسة التسامح الدينى ويصفها بأنها قاعدة الحكمة السياسية.
وفى سنة 1740، كتب رداً على سؤال الإدارة الحكومية حول إمكان الكاثوليكى أن يكتسب الحقوق المدنية يقول : "أن كل الأديان جيدة بالتساوى، وحسب الناس الذين يعلنون إيمانهم بها أن يكونوا صادقين. ولو أراد الأتراك والوثينون أن يجيئوا إلينا ويقطنوا فى بلدنا لبنينا لهم المساجد والمعابد. فكل امرئ فى مملكتى حر فى أن يؤمن بما يريد وحسبه أن يكون صادقاً". هكذا نجد أن سياسة التسامح التى أيدها فريدريك لم تقتصر على المسيحيين فقط وإنما امتدت إلى الأديان السماوية الأخرى بل والأديان الوثنية، كما امتدت إلى البلدان الأوربية الأخرى وإن كانت انجلترا لم تعترف رسمياً بالتسامح المذهبى تجاه الكاثوليك إلا فى سنة 1829، ثم تجاه اليهود سنة 1842، والملحدين سنة 1888، ربما بسبب انفصالها عن كنيسة روما، حيث نصب هنرى الثامن نفسه بابا على كنيسة انجلترا بعد اعتناقه البروتستانتية.
وإذا كانت الحكمة السياسية فى أوروبا هى العامل الأول فى نشوء سياسات التسامح، فإن أشنع أنواع الجرائم ارتكبت أيضا باسم : الحرية والإخاء والمساواة، شعار الثورة الفرنسية فى القرن الثامن عشر، وهى جرائم لم تختلف فى شناعتها عن الجرائم التى ارتكبت باسم المسيحية فى الحروب الصليبية، وفى مطاردة الساحرات وتعذيبهن، وفى حرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت (1618-1684 ).
لقد كان حكم الإرهاب فى عصر روبسيير هو الذى علم "كانط" أن "التعصب" إثم دائماً، ومن ثم أعيد طرح السؤال القديم المتجدد : هل يمكن أن نتجنب التعصب وتجاوزاته ؟.. ألا يبين لنا تاريخ كل الديانات وكل الثورات أن الإيمان المتعصب بفكرة أخلاقية لن يحرف هذه الفكرة فقط بل أنه يحولها أكثر فأكثر إلى نقيضها تماماً ؟ إنه يجعلنا نفتح باسم الحرية أبواب السجون ؟! وسيجعلنا ننادى بالمساواة بين كل البشر، لنغلقها على الفور ومن خلفها الأعداء الجدد لحريتنا الجديدة ؟
إن التاريخ يعلمنا أن كل الأفكار الأخلاقية خبيثة، وأن أفضلها، كثيراً ما يكون هو الأكثر خبثاً. ولم تكن فكرة المسيحية بالطبع هى التى أدت إلى الإرهاب واللاإنسانية، وإنما كانت "الفكرة الواحدة" الوحيدة، الإيمان بمعتقد واحد. ومن هنا فإن إرهاب العقلانية - ارهاب الدين العقلى لروبسبير - كان أسوأ حتى من إرهاب المتعصبين المسيحيين والمسلمين واليهود. ذلك أن النظام الاجتماعى العقلانى الأصيل مستحيل استحالة المجتمع الدينى الأصيل، ومحاولة تحقيق المستحيل لابد هنا أن تؤدى إلى انتهاكات بغيضة مماثلة.
لقد أكد برنادر شو أن الحضارة الغربية بها من التعصب مثل ما بكل الحضارات الأخرى، وأثبت أن ما قد تغير ليس إلا محتوى الخرافات والعقائد، فقد استبدل بعقيدة الدين عقيدة العلم، ومن يجرؤ على معارضة عقيدة العلم فسيحرق على خازوق مثلما أحرق جوردانو برونو فيما مضى من زمان.ومع ذلك فان لدي الحضارة الغربية القدرة على تجديد نفسها باستمرار وتجاوز أخطائها على الدوام، وهو ما يفسر سر حيويتها ودوامها إنها حضارة عضوية Organism، أى أن عناصرها متداخلة متشابكة بينها لحمة، وسر هذه اللحمة هو الأعتراف بحق الخطأ والأعتذار عنه، وحرية ممارسة النقد والنقد الذاتي.