العرب والحداثة والتحديث
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"أن تحيا: يعني أن تقاتل في ذاتك شبح القوى المظلمة...
أن تكتب: يعني أن تدين ذاتك في جلسة محاكمة." (إيبسن)
منذ حملة نابليون على مصر، قبل قرنين ونيف من الزمان، و العرب المعاصرون، يجرّبون ضروباً من التحديث، ينجحون في بعضها ويخفقون في البعض الآخر. أما الحداثة، بما هي منظومة فكرية متكاملة، تدشن القطيعة مع المتعالي لحساب الأرضي، وتعلن مركزية حضور الإنسان في العالم، فلم يقربوها ولم يتكيّفوا مع أصدائها التي حملتها إليهم نُخبهم الثقافية، إلا نادراً، ونادراً جداً. وها هم اليوم، كما نرى ويرى الجميع، يعودون إلى عصورهم الوسطى، مبتدئين الشوط التاريخي التراجيدي من المربع الأول!
ولعلّ العلامة الفارقة لهذه العودة الآن، هي سيطرة الأصوليات الدينية، بطبعتيها : الإخوان المسلمين والوهابية، على وعي السواد الأعظم من شعوب المنطقة. وإني لعلى يقين، بأنه لو جرت انتخابات حرة ونزيهة، في أقطار الوطن العربي كافة، لما فاز بها غير هذه الأصوليات. فالمد الأصولي كاسح ماسح، سيما، بعد تعثر وفشل كل مشروعات التحديث والعلمنة، التي قامت بها أنظمة العسكريتاريا الوطنية والقومية، وكذلك بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وذهابها قبضَ الريح.
قرنان من الزمن كانا فضاء أحلامٍ ويوتوبيات كثيرة، منها النهضوي التنويري، ومنها التحديثي التمديني، منها الاشتراكي العربي، ومنها الاشتراكي الأممي. كلها انكفأت على خيبتها الآن، وانسحبت أو تكاد من على خشبة المسرح. بعد أن تبين للجميع، نخبةً ودهماء، أنها كانت مشغولة وسادرة في أرباع حقائق على أحسن الأحوال، أو أوهام واستيهامات لا حقائق وتجارب حقيقية، على أغلب الأحوال! انسحبت مخلّفة وراءها، نوعاً من رثائية الحالمين، وبعضاً من ألم العارفين. تاركةً الخشبة على أهبة أن يبدأ فصل ثان من فصول المسرحية. فصل الأصوليات الدينية هذه المرة. ولعل المشهد الأول منه، هو انتصار حماس الساحق في الانتخابات الأخيرة، وتأهبها لتشكيل الحكومة القادمة في فلسطين.
الأمر الذي يعيدنا، كنُخب مثقفة ومفكرة، إلى المربع الأول نحن أيضاً! فأين تكمن العلة؟ ولماذا فشلنا في ما نجح فيه الآخرون _ تركيا كي لا نذهب بعيداً ونقول : اليابان مثلاً؟ والأمر الذي يطرح كذلك سؤالاً متفرعاً عن السؤال الأب، سؤالاً قاسياً وصعباً، من بين أسئلة كثيرة مؤجلة، وهو : هل يمكن المواءمة والمصالحة بين التحديث والأصوليات المفارقة في الحاضر والمستقبل؟ وهل يمكن أن يسيرا معاً دون أن يصطدما، ودون أن يلغي أحدهما الآخر، حتى يصلا وصولاً طبيعياً إلى جذر ومرجعية التحديث ألا وهي "الحداثة"؟
بالطبع لن أجيب شخصياً، لأنني لا أمتلك جواباً، بل رأياً لا غير، إذ يحتاج السؤال للإجابة عليه، إلى تجربة تاريخية ناجزة، وواقع عملي _ أي، على ما يبدو، وأرجو أن أكون مخطئاً، إلى المزيد من الكوارث _ لا إلى رأي نظري تجريدي فقط، يقوله الآنَ مثقفٌ حالم! ومع ذلك سأحاول الإجابة، ربما مناقضاً طرحي السابق، كنوع من تلمّس الجنين واستقراء ملامحه قبل ولادته الفعلية. مستعيناً على ذلك، بمجموعة من أنساق الوعي البسيط والخبرات التقريبية، لعل وعسى، نظفر بتحليل أو توصيف، لما يمكن أن تحبل به السنوات، كلا بل العقود الطويلة القادمة! "فبرأيي أن زمن الأصوليات الدينية في المنطقة، بدأ، ولن ينتهي أو تُطوى صفحته، قبل عقود وعقود، تماماً مثلما جرّبنا لعقود وعقود تجارب الحُكم الوطني والقومي السابقة، وأخشى ههنا الاقتراب من مشارف كلمة أفظع هي ( القرن ) من الزمان، حسب رؤية جورج طرابيشي، لئلا أُتهم بالتشاؤم _ مع أنه تشاؤم واقعي، إنما لا بأس"!
لقد كان مقتل تجربة التحديث العربية الهجينة، في القرنين الماضيين، أنها أخذت من الحداثة الغربية، مظهرها لا جوهرها. أخذت عنها مكتشفاتها العلمية والصناعية، ثم لاحقاً : التكنولوجيا، دون إلمام بالأصول المعرفية وراء صناعة هذه المكتشفات. ودون معرفه بالعقل الغربي الخالق والصانع لها. أي أخذت التحديث لا الحداثة، كما يمكن القول. أخذت النتيجة وتركت الأسباب والمقدمات، كما يمكن القول أيضاً.
وعلى الأغلب، لن تفعل الأصوليات القادمة، في أحسن الأحوال _ فما بالك بأسوأها؟ _ إلا تكراراً لما حدث في الماضي، على أحسن الفروض. فما بينها وبين العقل الغربي صانع التقدم والحداثة، من بون شاسع، كيلا نقول ضوئي، لن يؤهلها مطلقاً، لفهمه أو الاقتراب من حدوده. لذا، حتى لو تشاطرت هذه الأصوليات، وحاولت التمظهر بمظهر الوسطية السياسية في الحكم، مبتعدة ما أمكن عن التطرف، ومحاولةً ما أمكن أيضاً تقليد الغرب مادياً، كما فعلت سابقاتها الوطنيات والقوميات، فإنها لن تنجح. فعقلها لن يوصلها إلا إلى آفاق مسدودة تماماً. وحينها، سيعرف الشعب العربي، ربما بعد قرن من الزمان، أنها لا تختلف في جوهرها عن التجارب الماضية في شيء، بل هي، من وجوه كثيرة، أسوأ وأردأ.
ذلك أن مرجعياتها المفارقة، هي بالضد تماماً من مرجعيات الحداثة الغربية. بل هي النقيض الأقسى والأقصى لعقل الغرب العلماني أو الملحد. وإلى أن تتم التجربة، ستعاني هذه المنطقة من العالم، من أنواع مهولة من الألم التاريخي. قبل أن تصل إلى مشارف الحداثة الحقيقية، التي لا بديل، عالمياً، عنها، وإن طال التجريب المأساوي وطالت العشوائيات وطال السفر!
وعودة إلى المربع الاول، حيث هنالك تكمن العلّة! والعلة أننا نداور ونناور، سواء أكنا وطنيين أم قوميين أم اشتراكيين أم ليبراليين، أم دينيين، نناور ونداور، ماسكين العصا من الوسط، وراغبين في تحديث بلا حداثة، وفي نتائج دون الرجوع للأسباب والمقدمات. بمعنى أننا نريد قطف الثمار، دون أن نحرث الأرض ونرش السماد، ونزرع الأشجار! أي نهرب إلى حلول توفيقية تلفيقية ترقيعية، وفهلوية في غالبها الأعمّ.
لماذا؟ لأن البداهة، التي ينساها أو يتناساها حتى بعض المثقفين والمفكرين العرب، تقول، أنه لولا انقلابات العقل الغربي، على ذاته، أولاً، على تقاليده أولاً، على ثوابته أولاً، على مرجعياته أولاً... وعلى مجموعة أنساقه المعرفية السابقة، تالياً، لما كان وصل إلى هذا النوع المبهر من الحداثة. ولما كان قدّم هذا النموذج إلى العالم كله من حوله. فهو نموذج عالمي الآن، وكل الأمم والشعوب تأخذ منه وتتعلّم.
لقد أصبحت الحداثة الغربية، شاء العرب أم أبوا، مرجعية لكل حداثات اليوم. ومن يُماري في ذلك، فهو ساذج أو واهم. لذا، فعلى من يريد الأخذ بهذه الحداثة، أن يأخذ بأنساق العقل الصانع لها. فما من سبيل إلى حلّ آخر. وما من سبيل إلى حرق مراحل تاريخية كاملة، هناك، لكي لا نحرق مراحل تاريخية كاملة هنا، ثم نقفز متسارعين نحو بهاء وإغراء الثمرة!
فإما أن تكون حديثاً في عقلك ووعيك وطريقة فهمك للعالم، وإما أن تظل ساكن الكهوف، حتى لو سكنت في قصر منيف وركبت الطائرات الخاصة. فالعقل هو الأساس والعقل هو المناط، ولن يجدينا نفعاً، أن نقتني كمبيوترات آخر موضة، وموبايلات آخر طراز، بينما العقل البدوي فينا ما يزال يعيش في أزمنة عتيقة، أزمنة ما قبل الزراعة والصناعة والتكنولوجيا، كلا.. إن هذا لضحكٌ على الذقون، كما تقول العرب!
لقد رأينا ما فعل الطاغية صدام حسين في العراق المنكوب : حدّثَ ظاهر البلد، بما لديه من عائدات النفط الهائلة، ثم أرجع البلد إلى عصور ما قبل الصناعة، بما لديه من عقل ريفي صحراوي. لهذا، فثنائية التحديث مع التخلف العقلي والمعرفي، ثنائية ثبتَ فشلها تاريخياً. ولهذا أيضاً، ولآلاف الأسباب، سنظل نعاني، باحثين في العتمة عن القطط السوداء!
لكل ذلك، نقول إننا كعرب أمام خيارين لا ثالث لهما : إما أن نأخذ العقل الغربي، كما هو [ مع تعديلات هامشية طفيفة، يُستحسن أن تكون مكياجية شكلية لإرضاء غرائز الجماهير، كي تتلاءم مع خصوصيتنا الاجتماعية، بشرط ألا نتمادى في أوهام هذه الخصوصية، بل نحاول حصرها في أقل القليل، لكيلا تكون عائقاً، كما حدث طوال قرنين ] وإما أن نظل نفشل تاريخياً، تجربة بعد أخرى، ومشهداً مسرحياً تلو آخر. هذا هو المحكّ وهذه هي الخلاصة! وكما فشلت تجاربنا الماضية، تحت حكم الوطنيين والقوميين، والتقدميين، فلسوف نفشل نحن أيضاً، وربما على نحو أكثر فجائعية، بل هو بالتأكيد أكثر فجائعية، في زمن الأصوليين الدينيين، وعقودهم القادمة
فهؤلاء مثل أولئك، بل هم أسوأ، وأردأ. ثم إنه لا فارق بينهما في العقل وطريقة التفكير والنظر إلى العالم. إنهما مختلفان فقط في الأزياء، أما الجسم الذي تحت الأزياء، فواحد : مريض وواحد : مريض ومتهافت، على نحو عربي فائق الندرة في العالم!
هذه هي الحقيقة، وهذا هو بيت القصيد. ولذلك، إذا أردنا أن نكون حاضرين في هذا العالم، فلا مفر لنا، بل إننا أحوج ما نكون اليوم، إلى الأخذ بمنهجية العقل الغربي الحداثي، قبل أخذ ثمراته الناجزة. نعلم أن البداية صعبة، لكننا يجب أن نبدأ. ولنبدأ اليوم، لهو أفضل لنا ولأجيالنا القادمة، من أن نبدأ غداً. لكن : كيف نبدأ اليوم، والمنطقة بمجملها تتأهب لحكم الأصوليين وتسلّم حاضرها ومستقبل أولادها للأصوليين؟ إن هذا ليبدو ضرباً من العبث! وخصوصاً مع هؤلاء الموهومين بكمالهم التاريخي، الذي هو الوجه الآخر لنقصهم التاريخي؟ والذين لا يتمتعون بالحد الأدنى من فضيلة النقد الذاتي؟
لا بأس، وإن كان هذا هو البأس كله! فنحن شعوب لا تتعلّم من الخطأ أو الخطيئة الواحدة، بل نحتاج إلى تكرار الأخطاء والخطايا، ربما مئات المرات حتى نتأهّل للتعلّم وأخذ العبرة، ذلك أننا، مثل الفرعون المصري القديم : عندما يتسلّم عرشه الجديد، أول شيء يفعله هو إزالة كل ما يمتّ للفرعون السابق بصلة، ثم يبدأ هو من الصفر!
لا مندوحة! يجب أن نجرّب قدرنا الصفري إلى نهاياته! فما يجري على الآخرين، من سنن التاريخ، سيجري علينا نحن كذلك. والآخرون، وهم ههنا الأوروبيون تحديداً، دفعوا ثمناً تاريخياً باهظاً، لكي يخرجوا من عصورهم الوسطى، ومن زمن المتعالي المفارِق، إلى العصر الحديث، وإلى زمن الأنسان، بما هو وارث هذه الأرض الوحيد.
ونحن بالطبع، لن نكون استثناء في هذا، لكننا لن نكونه الآن، بل على الأغلب، سنكونه، بعد عقود أو قرن من الزمان، حين يفشل الأصوليون، وتكسد بضاعتهم، فنخرج من عصورهم الوسطى، عارفين على جلودنا المدماة، أن الأرض، هذا الكوكب الصغير والجميل، لن يتسع لاثنين، فإما نحن البشر الفانين، وإما ذلك المتعالي الواحد الخالد!