كي لا تغرق السفينة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صمتَ مثقفو منظمة التحرير، إزاء انتصار حماس الكاسح، وكأن على رؤوسهم الطير! البعض يفكر جدياً في الهجرة إلى الخارج، والغالبية منهم، تؤثر الانتظار، كمقدمة للانسحاب، والتقوقع على الذات، في عتمة البيت. فهم يخشون من حماس، وغير مرتاحين من غموض المرحلة القادمة. صمتوا، أولاً، لأنهم عاجزون عن تفسير هذا الانتصار، وثانياً، لأن أغلبهم استفاد من الوضع القديم، بل وساهم في تكريسه، بالتطبيل له، أو على الأقل، بعدم نقده وفضحه، واتخاذ موقف واضح منه، كما يليق بأي مثقف يحترم الثقافة، ويحترم نفسه، أن يفعل.
إنهم الآن، في ورطة، تماماً مثل ورطة متبوعيهم السياسيين الفاشلين. حيث كانوا، تابعين للسياسي، ومتنعمين بذهبه، سواء في المنصب أو الامتيازات، أو سواهما. والآن، جاءت ( لحظة الحقيقة ) بالتعبير الإنكليزي، وربما تعقبها لحظة الحساب، كذلك، فمن يدري؟ حسابهم على ما اقترفوه، بحق شعبهم، وبحق كل القيم والمبادىء النبيلة، التي هي عماد المثقف، وأفقه الوحيد.
لقد كان هؤلاء، من زوايا كثيرة، لا يختلفون، عن السياسي الرديء، في شيء: سفالةً وانتهازيةً، وتلوينَ وجوه. إذ عاشوا في كنف مؤسسات المنظمة والسلطة، وتراكمت لديهم، خبرة هائلة، عمرها من عمر المؤسستيْن، في معرفة من أين تؤكل الكتف، ومعرفة أقصر الطرق للوصول.
كانوا، كما يمكن القول، الوجه الثقافي الفاسد، للسياسي الفلسطيني الفاسد. أي كانوا جزء عضوياً من حالة الفساد المستشري. بعضهم اشتغل مقاولاً، والآخر تاجراً، والثالث ماسح جوخ، بالمعنييْن: الواقعي والرمزي، وأحياناً ماسح أحذية، للمسئول الكبير. أما شعبهم [ الصغير ]، وهمومه وقضاياه، فكان في أسفل أجندتهم، بل وغالباً، خارجها. مع أن هذا الشعب، هو الذي يعيلهم، وهو الذي يصرف على سفرياتهم، ويدفع أجرة شققهم وبيوتهم المتكاثرة، مقابل أن يكونوا له، بمثابة الضمير اليقظ الحارس. لكنهم خذلوا شعبهم، واستمرأوا ذهب السلطان، فما كان من شعبهم، إلا أن لفظهم، ولفَظَ أسيادهم، مرة واحدة وربما إلى غير رجعة!
صمتٌ مريب يحطّ عليهم، هنا والآن. صمت يشمل كبارهم قبل صغارهم. فلم يكونوا يتوقعون مجيء هذا اليوم.. لكنه أتى، وأتى بأسوأ وأسرع من جميع التوقعات! ومن المضحك، كيلا نقول المبكي، أنهم انخذلوا وصُدموا، فغدوا ذاهلين، لا عن النبش في الواقع، ومحاولة التحليل والتفسير، فحسب، وإنما أيضاً، ذاهلين حتى عن أنفسهم! [ رأيت واحداً من كبارهم المشهورين، لا يريد أن يصدّق نتائج الانتخابات، حتى بعد مرور أسبوع على إعلانها!].
فهل هو الإفلاس الثقافي - المعرفي، والقيَمي، كيلا نقول الأخلاقي، أم ماذا؟ واضح من حالة الأخ المذكور، أنه كل هذه الإفلاسات جميعاً. فاللهم، إذاً، لا شماتة!
والأخ، هو عينة فقط. عيّنة تشير إلى جيل متهالك، تجاوزه الزمان والمكان، ولا يريد أن يتقاعد، فيترك الحلبة، للأجيال القادمة، كما هي سنة الحياة. بل يتشبث بالحلبة، إلى آخر نفَس، بما يعيد إلى الذهن، دلالات كلمة [أرذل العمر] الكئيبة.
إنه الوجه الآخر، للسياسي الشبِق للسلطة، والذي لا يتركها إلا ميتاً أو مغتالاً. وجهان لعملة واحدة هما إذاً. ولا فرق، في الجوهر، بينهما، تقريباً. لكن كل هذا، قصة أخرى. فماذا عن الأهمّ؟ ماذا عنا وعنهم، هنا والآن، كأناس محسوبين على الثقافة، والأفكار؟ ماذا عنا جميعاً في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ مأساتنا، التي زادوها مأساةً بفسادهم؟ هل نترك السفينة الغارقة، ونهرب كما تفعل الفئران، أم نقف في وجه التيار العارم، وندافع عن السفينة، كي لا تغرق، فنكسب على الأقل: شرف المحاولة؟
في كتابه "كي لا نستسلم" يتكلّم ريجيس دوبريه، بلسان المثقفين عموماً، في حواره الشهير مع جان زيغلر، قائلاً: "أنا شخصياً أميل إلى الاعتقاد، أنه من الأفضل أن يعمل المرء في ركنه الخاص. وينبغي أن يغادر واحدنا الجحر حين تشتعل المدينة فعلاً، حين تُوضع موضع التساؤل، الأمور الجوهرية بالفعل. أما الباقي، فلكل منا أن يحيا كما يشاء، وفق أولوياته وإيقاعات يومه ومراحله.."، انتهى كلام دوبريه، فهل يتحرك هؤلاء، بعد أن اشتعلت المدينة فعلاً؟ أظن، كما هو متوقع منهم، بألا يفعلوا. فهم، في الحقيقة، لا تعنيهم المدينة المشتعلة في شيء، ولو كانت تعنيهم، لما كانوا كما عرفناهم سابقاً، بتلك الصفات الرثة. لأن الذي كان يعنيهم أولاً وأخيراً، هو الفتات على موائد السياسيين، مهما بلغ حجمه. والآن، ذهب السياسيون الكالحون، وبقيت سيرتهم الأكلح. فماذا أمام هؤلاء ليفعلوا؟
إن الزمن الآتي، على الأغلب، هو زمن بوارهم. ولذا، فليس من الغريب، أن ينسحبوا من المشهد، وأن يختاروا الرحيل أو العزلة.
لقد بدأ فصل ثان من فصول المأساة. فصل، لا مكان فيه، لفَسَدة مثقفي منظمة التحرير، والسلطة، بكل ميراثهما السابق. أما السفينة أو المدينة المشتعلة، فلا أحد معنيّ بها سوى [ أمّ الولد ]، سوى من عاشوا وعانوا تحت الاحتلال الطويل. سوى من لم يتلوثوا، وحافظوا على صفاء الجمرة.
إن بعض مثقفي منظمة التحرير الفاسدين، لا مستقبل لهم بيننا. فبضاعتهم كسدت، وإنتاجهم، عفا عليه الزمن. والأفضل لهم، بالفعل، أن ينسحبوا، حفاظاً على ما تبقى لهم، من كرامة شخصية، في مستقبل قادم، هو بالتأكيد، ليس لهم. لماذا؟ لأنهم ببساطة، مفلسون، إنسانياً وإبداعياً، ولم تكن لديهم قدرات خاصة في الماضي، فحملتهم القضية، وحمتهم منظمة التحرير والسلطة. أما الآن، فلا رافع لهم ولا حامل. ولو كنت مكانهم، لانسحبت، وآثرت الهدوء والتأمل، بعيداً عن صخبهم وضجيجهم الفارغيْن.
إنه زمن حماس. زمن العلَم الأخضر، والخطابة الصفراء. زمن عودة الشيخ، الذي لم يغب أصلاً. ولكنه الآن يعود منتصراً، رسمياً وصحابَ سلطةٍ، محاولاً أن يقترب من مشارف المثقف، ويأخذ دوره. ولن يقف له، ويقارعه الحجة بالحجة، إلا مثقف محارب، لا مثقف مداهن، كما أصحابنا إياهم. مثقف مؤمن بقناعاته، ومؤمن بأنها رأس ماله الرمزي، ومدار عمره وحياته، لا مثقف تعوّد على دلال المؤسسة، وعلى أن لكل شيء ثمناً وحسابات!
انتهى عصر إذاً، وبدأ عصر آخر. وعلى الأغلب، سيكون هذا العصر الجديد، امتحاناً لكل المثقفين، وسيظهر وجوههم على حقيقتها، دون زيف ولا مكياج. فإما أن يلتحقوا، ولو على استحياء، وتدريجياً، بالتيار الظلامي القادم، وقد بدأ بعضهم بالفعل، في الالتحاق، أو يقفوا في وجهه، ويدافعوا عن كل قيمهم الحديثة، ومبادئهم الأولى، وانتمائهم الوطيد لوطنهم، الذي لا وطن لهم غيره.
كلا.. ليس المستقبل تحت حكم حماس غامضاً، بل هو، بالعكس، واضح وضوح الألم. وفكر حماس هشّ ودغماتي، لأنه، عملياً، شعارات لا فكر. لذا، يسهل على المثقف، أن يفنّده، ويكشف مقدار هشاشته، لو أراد. لكن، حتى هذه المهمة البسيطة، لن يجرؤ عليها، إلا الخالي والمبرّأ من الحسابات، أما من تقوده حساباته، الشخصية أساساً، والتي تعلو على أية حسابات، فلن يفعل، بل سينافق ويداهن ويرسل الغزل، أو سيجبن ويصمت في أفضل الأحوال.
قصارى القول، إننا أمام مرحلة نوعية، في مسيرة نضالنا الطويل، من أجل التحرير، بأشكاله العديدة. مرحلة، تتطلّب، أن ينتبه المثقفون، إلى ما سوف يحدث، في بنية المجتمع، ثقافياً واجتماعياً، ربما بموازاة الاهتمام بالفاعل السياسي. فمجتمع مهدد، إلى أن يثبت العكس، بردة اجتماعية، ونكوص تحديثي، يجب أن يسترعي انتباه ويستدعي جهد كل مثقف علماني، كي لا تغرق السفينة، وكي لا نستسلم أمام فداحة الموجة الكاسحة.
نعرف، أن المعركة مع فكر حماس ليست سهلة، خاصة بوجود حاضنة اجتماعية له. لكن، منذ متى كان على المثقف، أن يتخاذل أمام غوغائية وثقافة السائد؟
لن نطيل الحديث، وسنترك كل شيء لوقته، لكننا نؤكد على يقين واحد، وهو أن المثقف التاجر، ليس صاحب معارك، ولا تعنيه الأفكار، في قريب أو بعيد، بل تعنيه مصلحته، ويعنيه وضعه الشخصي، لذا لا تتفاجأوا، أيها المثقفون العرب، لو رأيتم بأم أعينكم، كم ستجري على هذا النوع من المثقفين، من تحولات وانقلابات! أنا شخصياً، لن أُصدم ولن أندهش، لو رأيت مثقفاً منهم، كان محسوباً على العلمانيين، يصير في الجانب الآخر. لأني أعرف، أن من يغيّر جلده مرة، سيغيره، حسب الحالة والمناخ، مئات المرات!
لقد بدأ خطاب بعض هؤلاء المثقفين العلمانيين، يتسربل بالدين، ويقترب من خطاب حماس! فمبروك لهم هذه [ الهداية ] المتأخرة، ومبروك لهم [ حُسن الختام ]!
أما نحن ركاب السفينة الغارقة، وسكان المدينة المشتعلة، فلن نترك قناعاتنا، وسنقف في وجه الموجة، مهما يكن الأمر.
إنه زمن الفرز... والأيام والسنوات القادمة ستثبت!