أضواء على موقف الحسين من خبر الفرزدق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ملاحظة في غاية الأهمية
أن هذا البحث عن الخطاب الحسيني الشريف بحث تاريخي بحت، لا علاقة له بالمسبقات الميتافزيية غير الزمنية، فهو لا يتطلع إلى الأخبار الغيبية في الاستنتاج والاستخلاص بل يعتمد الخبر التاريخي الصرف، ويقيم نتائجه على مقدمات ومعطيات زمنية.
في (الصفاح) وهو موضع بين حنين وأنصاب الحرم على مسيرة الداخل من مكّة من شاش إلتقى الحسين الفرزدق مقبلاً من العراق يريد مكّة المكرّمة، فسأله عن أحوال الناس هناك، فاجابه الفرزدق (قلوبُ الناس معك وسيوفهم مع بني أُمية، والقضاء ينزل من السماء) ــ 59 الطبري 6/ 309 ــ فقال الحسين (صدقت لله الامر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، أنْ نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على إ داء الشكر، وإنْ حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كان الحق نيّته، والتقوى سريرته) 60 ـ نفس المصدر والصحفة ــ وتعليق الحسين عليه السلام على قول الفرزدق (والقضاء ينزل من السماء) ينطوي على إشارة دقيقة ومهمّة فيما يتعلق بمسيرة الحسين ومصير حركته، أنّ تقديرالنتيجة أوكلها إلى القضاء، أي إنّ الحسين هنا سائر على بركة الله تعالى، ولم تكن في خُلده نتيجة محسومة بالرقم المحسوب رغم كل الأحوال وا لظروف، ولذلك إتخذت صفة الإحتمال بين ما يحب وبين ما لا يرجو، وكله متروك لإرادة السماء، أن لغة الحسين هنا خارجة عن دائرة الحتم المسبّق، وهو يشير الى محاولة قد تصيب وقد لا تصيب.
إنّ موضوع لقاء الحسين للفرزدق تحفّه أكثر من ملاحظة، نحاول هنا إستجلاءها أو استجلاء أهمها حتى تتّضح الصورة في الإطار كما يقولون.
في الفتوح لأبن أعثم ان الحسين عليه السلام ألتقى الفرزدق في (الشقوق) 61 ـ 5 / 71 ــ وأورد ذات الحوار السابق مع زيادات كبيرة وذلك كعادته، ومنها أنّ الفرزدق قال للحسين (... ياابن بنت رسول الله كيف تركن الى أهل الكوفة وهم قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته...) 62 ــ الفتوح 5 / 71 ــ ويذكر ابن أعثم أن الحسين أُبلغ بمقتل مسلم وهو لمّا يبرح مكّة ، وإنّه أنشأ شعراً في مقتله وألقاه على الفرزدق ! وأن هذا الاخير أنشد الحسين تلك القصيدة المشهورة (هذا الذي تعرف البطحاء وطأته....)63 ـ ص 72 ــ
في الطبري عن لبطة بن الفرزذق عن أبيه رواية طويلة جداً عن هذا اللقاء، وفيه ما لم يرد في المصادر الاخرى، والغريب ان عبد الله بن عمرو بن العاص هو الذي يتحدّث بهذه الغيبيات وينصح الفرزدق على اساسها ـ 64الطبري 6 / 390 ــ ولسنا ندري مدى صدق (لبطة) هذا، وهو العاق لأبيه وصاحب لهو ولعب 64 ــ الإغاني 22 / 304 ــ وفي السند الأخباري المشهور (عوانة بن الحكم) الذي (قلَّ ان روى حديثاً مسنداً ولهذا لم يُذكر بمدح أو ذم) 65 ــ نكت الهميان في نكت العميان ص 222 ــ و(يُروي عن عبد الله بن المعتز عن الحسن العنزي أنَّ عوانة بن الحكم كان عثمانياً، وكان يضع الاخبار لبني أُمية) 66 ــ نفس المصدر 223 ــ
ويروي ابن عساكر الرواية ذاتها مع إختلاف ملحوظ وذلك عن لبطة نفسه 67 ــ 4 /335 ــ والرواية فيها رفع لشان الفرزدق، ويروي الدينوري (ثم سار ـ الحسين ــ حتى إذا إنتهى الى الصّفاح لقيه هناك الفرزدق الشاعر مقبلا من العراق، يريد مكّة، فسلّم على الحسين، فقال الحسين: كيف خلّفت الناس بالعراق ؟ قال: خلّفتهم وقلوبهم معك وسيوفهم عليك) ــ 68 ص 245 ــ
في تذكرة الخواص (روى أنّه قال له ـ اي الحسين للفرزدق ــ يا فرزدق أن هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، وأستأثروا في اموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه والجها د في سبيل الله،لتكون كلمة الله هي العليا)، فأعرض عنه الفرزدق وسار 69ــ 218 ــ والرواية مرسلة، ولم ترد في مثل هذه السياقات في المصادر الأخرى.
إنّ الرواية المرجَّحة على غيرها في هذا الخصوص ما يرويها لنا أبو مخنف عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعَّل الأسديين لأنهما كما تعرض الرواية كانا شاهدي عيان، وهما من مصادر ابي مخنف في روايته قصَّة الحسين عليه السلام، وكانا قد صحبا الحسين في بعض الطريق، وهي الرواية التي نجدها على شكل قدر مشترك في الروايات الأخرى، أمّأ الروايات الاخرى فهي أمّا مرسلة او تنتهي إلى الفرزدق نفسه، وفيها ما يُعلي من شأن الفرزدق 70 ــ الطبري 6 /309 ــ
لا أعتقد انّ الحسين اعار إهتماماً كبيراً لنقل الفرزدق، وجوابه بـ (صدقت) يتناول موضوع القدر الذي طرحه بدليل إمارات الشرح والبيان والتوضيح التي عقبت هذه الكلمة (صدقت الأمر لله، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم هو في شان...).
في ذات عرق
وصل الحسين (ذات عرق) وفيها كما ينصّ إبن أعثم الكوفي (لقيه رجل من بني أسد يُقال له بشر بن غالب، فقال له الحسين: ممَّن الرجل ؟ قال: رجل من بني أسد، قال: فمن أين أقبلت يا اخا بني أسد ؟ قال: من العراق، فقال: فكيف خلّفت أهل العراق ؟ قال: يا بن بنت رسول الله خلّفت القلوب معك والسيوف مع بني امية، فقال له الحسين: صدقت يا اخا العرب، إنّ الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فقال له الأسدي: يا ابن رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى يوم ندعو كلّ إناس بامامهم، فقال الحسين: نعم يا أخا بني اسد، هما إمامان ، إمام هدى دعا الى هدى وإمام ضلالة دعا الى ضلالة، فهدى من أجابه ا لى الجنّة، ومنأجاله الى الضلالة دخل النار) 71 ــ5 /71 ــ ونقله عنه الخوارزمي في مقتله ، وابن نما في مثير الاحزان واللهوف، ولم يرد هذا اللقاء في المصادر التاريخية المعروفة، ويبدو إنَّه توكيد وتأصيل للمأساوية والحزن والبكاء.
في هذا الموقع بالذات يشير الطبري برواية إ بي مخنف الى موقف جعفر بن أبي طالب حيث أرسل إلى الحسين رسالة بيد إبنيه عون ومحمّد، يخبره بها عدم رضاه عن خروجه، ويطالبه بالإنصراف عن ذلك، ويذكر أبو مخنف أن عبد بن جعفر كلّف والي مكّة عمرو بن سعيد بن العاص أن يكتب للحسين كتاب أمان موثّق وواضح، وهذا ما حصل فعلاً،، فقد ضمن له (الأمان والصلة والبر وحسن الجوار) 72 ــ الطبري 6 / 312 ــ وقد أجابه الحسين (أمّأ بعد: فإنّه لم يشاق الله ورسوله من دعا إلى الله عزّ وجل صالحا، وقال إنّي من المسلمين، وقد دعوت الىالامان والبر والصلة، فخير الامان أمان الله ، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في ا لدنيا، فنسال اله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي، فجُزِيت خيراً في الدنيا والأخرة والسلام) 73ــالطبري 6 / 312 ــ
لقد كان كتاب عمرو بن سعيد واضحاً ولكنّ جواب الحسين فيه شيئ من الغموض، إنّه اشبه باجوبته السابقة لابن عباس ومحمّد بن الحنفية من حيث إعتماده على (فن تغييب) النيِّة والقصد على المقابل، فالحسين كان ماضيا إذن.
الرسالة الكاشفة
وصل الحسين عليه السلام الى (وادي عالية من بطن الرمّة)، ومن هذا المكان ارسل رسالته الى اهل الكوفة، الرسالة التي سبق وان استعرضناها، وهي رسالة تصلح ان تكون كاشفاً تحليليّاً يميز الواقع من الوهم في كل ما يُنسب للحسين عليه السلام من خطاب قبل (الحاجز) باتجاه الكوفة، والرسالة هذه تلغي كل ما يُذكر على لسان الحسين من كلام يفيد حتمية بلاء تعاهد معه مُسبقا، بل ان هذه الرسالة تبرهن بشكل قاطع على ان الحسين لم يستسلم للشطر الأول من راي الفرزدق، أي قوله (قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية)، إذ لحن الرسالة شحنة هائلة من الأمل، وثقة غير عادية بالذين ارسلوا له الرسائل، بل وفيها وصايا نظمية تهدف الإنتظار لعمل كبير،انّ هذه الرسالة على إمتداد رسالته الاولى لاهل الكوفة والبصرة، ومن ثمّ على توافق واضح مع تعريفه للامام، وتحديده للواجبات الملقاة عليهم.