السؤال الفخ.. من أنت؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في نهاية القرن العشرين، شعر الأفراد والشعوب التي اجتثت جذورها - أو كادت - ولم تعد تجد في الدولة القومية اطاراً لا ينازع للأمن والهوية، أنه لم يعد بمقدورهما الاستثمار فى الايديولوجيات التي تدعي أنها عالمية، أو الإيمان بأنها مصدر أساسي للتضامن والحماية في مواجهة تلاطم أمواج العولمة".
هكذا ينبغي أن تؤخذ مسألة "الأصوليات"، وفكرة "صراع الحضارات" مأخذ الجد، وكلاهما من إفراز العولمة، وهما تهددان "التسامح" والسلام العالمي في مقتل، بل ومعظم مكتسبات الحضارة الحديثة.
فقد شهدت فترة انطلاق العولمة الحديثة والممتدة من حوالي 1870 حتى منتصف العشرينيات من القرن الماضي، إلحاحا كبيرا على استلهام التراث والهوية داخل سياق عالم مطرد الضغط والعولمة. وطبيعى أن تنبع غالبية الرغبة فى هذا الاستلهام من مستجدات الضغط العالمي وانتشاره الملازم للتوقعات حوله.
ففى أثناء الفترة الممتدة بين عامى 1870 - 1925، تم التوصل رسمياً إلى مستجدات بشرية جغرافية، فى إطار ضبط النطاق الزمنى للعالم مثلاً، وإنشاء خط للمواعيد الدولية، والتبنى العالمى للتقويم الجريجورى، وتأسيس شفرات تلغرافية وإشارية دولية.
فى الوقت نفسه ظهرت حركات دينية انشغلت بالعلاقة بين ما هو محلى وما هو محلى له صفة عالمية، من أهمها المسيحية الوحدوية التى سعت إلى تجميع التراث الدينى للعالم، فى خطاب توفيقى ثقافى مدروس. وعلى الجبهة العلمانية، كان للحركة الاشتراكية الدولية أهداف مثيلة، لكنها كانت أكثر طموحاً، من حيث أنها سعت للتغلب على الخصوصية باسم الدولية.
لقد تأسس الاستخدام المعاصر لمفاهيم مثل "الاسس" و"الأصول" و"الأصولية"، فى نفس الفترة المذكورة تقريباً، وفى الولايات المتحدة تحديدا. ففى هذه الفترة انتشر الوعى بالكونية بسرعة، نتيجة ظهور الوسائل المتطورة حديثاً فى السفر والاتصال، مثل الطائرات واللاسلكى، مما أدى إلى زيادة حدة الوعى بالاختلاف، وكوننة الاختلاف أيضاً. وإذا كان البحث عن الأسس ملمحاً متصلاً بالعولمة، وأيضاً مظهراً للثقافة الكونية، فإن الأصولية تسهم فى إبراز العولمة، بنفس القدر الذى سلطت به العولمة الأضواء على "الأصولية".. لكن ينبغى التمييز - حسب روبرتسون - بين الأصولية داخل العولمة، والأصولية ضد العولمة، وبين الكونية المؤيدة للأصولية والمعارضة لها. وكأن هناك أصولية طيبة أليفة، وأخرى شريرة عدوانية! ذلك ان الأصولية هى بنية ذهنية وحالة عقلية تقصى الآخر وتلغيه بإدعائها امتلاك الحقيقة المطلقة، وحيث أن هناك دائماً مطلق واحد في رأيها لابد أن يسود، فلا بد أن ينشأ "صراع" بين المطلقات، وهو ما عبرت عنه الصياغة المستفزة لـ "صدام الحضارات" The clash of civilizations عام 1993، والتى نشرها "صمويل هنتنجتون S.Huntington فى مجلة (شئون خارجية) Foreign Affairs، ثم طورها فى كتاب يحمل نفس الاسم فيما بعد.
ولعل سر ذيوع وانتشار دراسة هنتنجتون، رغم كل ما قيل عنها، هو أن جميع أطراف الصدام أو الصراع كان راغباً فى تصديق هذه النبؤة التى حققت نفسها بنفسها! فما هى خلفية هذا الاجماع الذى حول هذه النظرية - النبؤة إلى قناعة راسخة لدى جميع الأطراف؟ففى صيف 1993 أقدم هنتنجتون، الخبير السابق فى إدارة "ليندون جونسون" لمحاربة التمرد فى فيتنام، ومن ثم مدير مؤسسة الدراسات الاستراتيجية فى هارفارد، على نشر دراسته سالفة الذكر، رداً على المنظر المنافس فى وزارة الخارجية الأمريكية، الأمريكى من أصل يابانى "فرانسيس فوكوياما" صاحب أطروحة "نهاية التاريخ".
وبالنسبة إلى هنتنجتون، فقد وضعت هزيمة الاتحاد السوفيتى حداً لجميع الخلافات الايديولوجية لكنها لم تنه التاريخ. فالثقافة وليست السياسة أو الاقتصاد، هى التى سوف تحكم العالم. والعالم ليس واحداً. الحضارات توحد العالم وتقسمه.. الدم والإيمان، هذا ما يؤمن به الناس ويقاتلون ويموتون من أجله".
والنزاعات بين الحضارات هى المرحلة الأخيرة من النزاعات فى العالم الحديث. ففى العالم الغربى كانت النزاعات، بعد معاهدة "ويست فاليا" قائمة بين الأمراء والملوك والأباطرة. وبعد الثورة الفرنسية وقعت النزاعات بين الأمم. ونشبت فى القرن العشرين بين الايديولوجيات (الشيوعية، والاشتراكية القومية، والديموقراطيات الليبرالية). وكانت الحربان العالميتان حروباً أهلية غربية، وكذلك الحرب الباردة. وحلت اليوم المواجهات بين الحضارات. والحضارة هوية ثقافية تحددها عناصر موضوعية (اللغة والدين والتاريخ والعادات.. الخ)، وعامل ذاتى، ألا وهو الهوية التى يقررها الأفراد لأنفسهم.
ولعل أخطر ما تطرحه أطروحة هنتنجتون هو: إذا كان السؤال المطروح فى النزاعات الايديولوجية: "مع أى جانب تقف؟"، ومن ثم كان بوسع الناس اختيار معسكرهم وتعديله، فإنه فى النزاعات بين الحضارات يكون السؤال "من أنت؟"، وعندئذ لا يكون التغيير ممكناً! من هنا رأى البعض أن أطروحة هنتنجتون لم تكن تشخيصاً لواقع بقدر ما كانت تحريضاً لتقزيم الحضارات الأخرى غير الحضارة الغربية - الأمريكية، ومحاربة الحضارة الإسلامية أساساً، والدليل على ذلك ما حدث فى يوغوسلافيا السابقة اعتماداً على مقال هنتنجتون حيث تم اعلان الحرب الشرسة على المسلمين هناك باعتبارهم لا ينتمون إلى العرق الصربى. وهذه النظرية الغربية (العنصرية جداً) كغيرها من النظريات الفاشية والنازية، ترفض الآخر وتدعو إلى محاربته، ومن ثم تطلق التعصب والعنف من عقاله وتنسف التسامح من أساسه. فوفقاً لآراء هنتنجتون فإن المحور المركزى للسياسة العالمية فى المستقبل سيكون على الأرجح المواجهة بين العالم الغربى من جهة وبقية العالم من جهة أخرى، وموقف ذلك العالم إزاء قوة الغرب وقيمه. ومع ذلك تظل قيمة أطروحة هنتنجتون أنها ألقت الضوء مجدداً على أهمية العوامل الثقافية والدينية فى العلاقات الدولية، وأن الثقافة قد تكون سبباً فى التعصب والحروب وليس مقوماً للتسامح والسلام.
والواقع أن الغرب يعتبر ثقافته هى النموذج المثالى للمعقولية، ومن هنا ينشأ عدم التسامح فى عصر الحداثة وما بعدها، ذلك لأن هناك علاقة بين "الانتصار الثقافى" أو بالأحرى "التعالى الثقافى" الذى يتجنب أى تثاقف (تواصل، تفاعل، حوار)، وبين "التعصب". كما أن هناك علاقة بين امتـلاك الحقيقة والاكتفاء الذاتى الذى يستند إليه "التعصب"، وهو ليس إلا إقالة "للآخـر" ونفياً له.
وقد طرح "توماس مكارثى" تنويعات متعددة لمفهوم الواقع والمعقولية، مشيراً إلى أن هذه القضية تنطوى على عدة اعتبارات عملية ذلك : "أن مبادئ البرهان العلمى لا يمكن أن تكون معياراً للحكم على مدى سلامة مبادئ معينة للتفكير، ومدى مكانتها فى حياتنا، وعلى تحديد مجالات الحياة". ويرى أن ضعف الأدلة ضد "نسبية المعقوليـة" مردود إلى "مفهوم صارم عن المعقولية محكوم بقوانين البرهان العلمى". ولهذا فهو يدعو إلى مفهوم أعم للمعقولية يضم بين جناحيه العقل العملى والعقل النظرى - حسب كانط - حتى لا تتحدد المعقولية بـ "المنهج العلمى" وحده.