كتَّاب إيلاف

نظرية كوبرنيكوس في علم الاجتماع

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عندما دخلت ألمانيا كنت قد وصلت لدرجة البللورة في مشكلة الثالوث المشؤوم (التنظيم- السرية- العنف) وكنت قد وضحت هذا في كتاباتي عام 1973 ثم جاء كتابي في النقد الذاتي (ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية) احذر من وباء العنف.

ولكن كيف وصلت إلى هذه القناعة وعلى أي نحو تبلورت؟ فهذه فكرة من المهم إلقاء الضوء عليها، وأرجو أن يعتبر كلامي هذا نوع من (اللقاح) الواجب تعميمه، وهو الذي قلته في محطة (اقرأ) الفضائية عندما طلب مني الإدلاء برأيي في مشكلة العنف الجزائري، في رسالة موجهة للمؤسسات الإسلامية مثل الأزهر وسواه، وإلى كل المفكرين والمربين والمعنيين بالبعد الإسلامي والحركات الإسلامية.كما كتبت بحثاً هاماً في العنف الجزائري نشرته مجلة العربي العام 98 عدد أغسطس.

وهذا الكلام أوجهه للمسؤولين في كل قطر عربي كي يدرك خطورة هذه القضية، وهو أمر قلناه وكررناه قبل أكثر من ثلاثين سنة، قبل أن يتبرع السياسيون الكذابون بعزف ترنيمة التغيير السلمي الديموقراطي، أن هناك فرق كبير بين ضبط الأوضاع (الأمنية) وبين حل المشكلة، فالمريض الذي ترتفع حرارته بسبب جراثيم حمى التيفية، قد تستطيع إنزال حرارته بالأسبرين، ولكن المرض قد ينفجر بشكل اختلاط مروع لاحقا، إما في صورة إنثقاب معوي، أو ما هو أدهى وأمر بالتهاب العضلة القلبية؟!

أقول إن ثقافتنا ما زالت تعمل فيها جراثيم العنف بكل ضرورة، وما لم ننزل إلى الحوض الثقافي لتغيير الخرائط الذهنية، في معالجة المشاكل فإننا مقبلون على كوارث ؟؟
وأنني أرى وميض الجمر من كومة الرماد، والتاريخ يقص علينا ما فيه مزدجر، حكمة بالغة فما تغني النذر؟ ومأساة البلقان وأفغانستان والصومال والجزائر والعراق فيها من العظة ما يكفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

العنف يحمل حزمة من الأمراض اللعينة؛ فهو أولاً لا يحل المشكلات، بل يولدها ويزيدها تعقيداً، في حلقة شيطانية مفرغة عكوسة، لا تكف عن الاتساع والالتهاب، ضراوة وحمقا وعمقا، والعنف لا يحرر الإنسان بل يأسره لعبودية القوة، والعنف ثالثاً يعتمد الجهاز العضلي، ويلغي الجهاز العصبي العقلي، وبالعنف لا يمكن بناء أي ديمقراطية، والعنف في النهاية وصل إلى نفق مسدود، ويودعه العالم اليوم كأسلوب فاشل غير مأسوف عليه. و اللاعنف هو أسلوب الأنبياء في صناعة المجتمع.
فهذه ستة أفكار تأسيسية مفصلية.

ألقت الأجهزة الأمنية في سوريا يوماً القبض على بدوي بتهمة اشتراكه بتنظيم سري؛ فبدأ المحقق يسأله ما هو تنظيمك؟ من نظمت؟ ما هي أسماء خليتك الحزبية؟ فأجاب بعفوية: (يا طويل العمر لا بالله نحن نبغي نزيحكم ونقعد محلكم؟؟!!)
إن كثيرين مازالوا يتلمظون للتغيير بطريقة الإعرابي، والقرآن يرى ببساطة أن مفتاح التغيير ليس بتغيير الحاكم أو السلطة، بل بتغيير ما بالنفوس (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).وهذا أمر يتطلب المزيد من التوضيح.
يطرح القرآن فلسفة متفردة تشق الطريق إلى نظرية كوبرنيكوس اجتماعية، فالظلم الذي يقع على الإنسان هو بالدرجة الأولى بما (كسبت يداه)؛ فلا الله يظلم الناس، ولا أحد يظلمهم، ولا الشيطان له عليهم سلطان، بل أنفسهم يظلمون.وهذا يقود إلى مفتاح اجتماعي أكثر أهمية: أن عبادة الحكام وتأليههم هي من صناعة الشعوب، وخرس المثقفين، أكثر من سحر سدنة معبدة الحاكم، فعند صنمه البخور يحرقون؟

إذا كان كوبرنيكوس قد وصل إلى قلب مفهوم دوران الشمس والأرض بمفهوم عكوس؛ فإن فكرة جدلية (الأمة والسلطان) من هذا النوع، بأن الأمة شمس، والحاكم كوكب.
وفكر انقلابي من هذا النوع يحرر، ويوجه الجهد إلى الحراثة في الحقل الخصب، بتغيير نظام الفكر، والتخلص من أسر فكرة الحكم والسياسة.وهذا ليس فقط أربح وأريح- وهو أريح على كل حال من مناطحة الجدران والتصدي لخرقة مصارع الثيران_ ولكن كل الخطر وبعثرة الجهد هو الدوران في كهوف مظلمة، عن مفتاح يرى كل الحل بالوصفة السحرية، بتغيير الحاكم أو السلطة.

وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف