كتَّاب إيلاف

الوصل والفصل بين الإسلام والغرب

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

-1-
أحدث الاحتلال العثماني (1517-1918) للعالم العربي قطيعة واضحة بين الشرق والغرب وبين العرب والغرب، وعزل الثقافة العربية، وحال بينها وبين التلاقح مع الثقافات الغربية. علماً بأن هذه القطيعة كانت قائمة قبل مجيء العثمانيين بخمسة قرون تقريباً (من القرن العاشر إلى القرن الخامس عشر الميلادي حيث احتل العثمانيون مصر والشام في 1517). وفي رأينا أن القطيعة كان سببها الرئيسي ليس العثمانيين وحدهم ، فيما لو علمنا أن سلاطين العثمانيين بدءاً من سليم الثالث في القرن الثامن عشر بدأوا بالاتصال بالغرب، ولكن المؤسسة الدينية وقفت ضدهم، فخلعت بعض السلاطين كعبد العزيز وغيره ممن اتصلوا بالغرب، وفتحوا النوافذ الثقافية عليه . ولكن القطيعة مع الغرب بدأت بفعل المؤسسات الدينية المختلفة في نهاية العصر العباسي، وفي العصرين السلجوقي والفاطمي (878-1075) وفي العهد الأيوبي (1169-1260) وفي عهد المماليك (1261-1517) وليس كما قال طه حسين بأن القطيعة مع الغرب كان سببها العثمانيون فقط، حيث يشير في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر، ص47) إلى : "لو أن الله عصمنا من الفتح العثماني لاستمر اتصالنا بأوروبا، وشاركنا في نهضتها". فالأتراك لم يؤخرونا بعد تقدمنا، ولكنهم جاءوا فوجدونا متأخرين أصلاً ومقطوعين ومنعزلين عن العالم، فزادونا تأخراً، وقطيعة، وعزلاً.

-2-

يقول عبد الرحمن الجبرتي (1754-1822)
المؤرخ المصري، بأن العرب لم يعوا الهوة السحيقة التي تفصل بين العرب والغرب، إلا بعد أن جاءت الحملة الفرنسية، وتعرّفوا من خلالهـا على المنجزات العلمية الغربية، وعلى المنجزات الحضارية الأوروبية. وأنهم قبل هذه الحملة كانوا في سبات عميق، وكانوا ما زالوا يعتبرون أنفسهم "خير أمة أُخرجت للناس" فوجدوا أمامهم أمة - فرنسا - أكثر منهم علماً، وأبرز تقدمـاً، وأكبر عقلاً، وأغزر خيراً، فصُدموا صدمة كبيرة.
ولكن الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 كانت هي الحادي والمنادي الذي نفخ في رماد العرب آنذاك. وكان نتيجة ذلك مناداة جيل النهضة العربيـة في القرن التاسـع عشر بالديمقراطية، والعدالة، والمساواة، والأخذ بأسباب العلم. ولم تكن تلك المناداة إلا أثراً من آثار حملة نابليون على مصر في نهاية القرن الثامن عشر.
فلم تكن مسألة التقدم العلمي، والنهوض الحضاري، والديمقراطية السياسية، وأهمية التربية، ووجوب إشراك الشعب في الحكم واردة لدى رفاعة الطهطاوي (1801-1873) إلا عندما سافر إلى باريس، وعاد بكتابيـه "تخليص الأبـريـز في تلخيـص باريـز"، و "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية".
ولم ينادِ علي مبارك (1824-1893) بالتقدم وبالتركيز على أهمية المعرفة، وبأن العدل والعلم أساسا التقدم إلا بعد أن عرف أن العلم وحده هو الذي نقل أوروبا من الوحشية إلى الآدمية، وكانت مظاهر هذه الآدمية ما تركته الحملة الفرنسية في مصر من آثار حضارية وعلمية.
ولعل أفكار الأفغاني في الديمقراطية والعدالة والمساواة وضرورة الأخذ بأسباب العلم والتربية الحديثة، وكذلك أفكار محمد عبده، وبطرس البستاني، وعبد الرحمـن الكواكبي، وإبراهيم اليازجي، وعبد الله النديم، وشبلي شميّل، وطاهر الجزائري، ولطفي السيد، وفرح أنطون، وجورجي زي ـ دان، وفؤاد صروف، وغيرهـم، من أعلام النهضة العربية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانت أثراً من آثار الحملة الفرنسية على مصر، غير منكرين أن الجوهر الحقيقي للدين الإسلامي كان الدعوة إلى الأخذ بأسباب العلم للتقدم، ولكن هذه الدعوة ظلت دعـوة على الورق في اطار فخم مذّهب، إلا في عهود محدودة، ولم ترَ النور الجديد، إلا من خلال لقاء الشرق بالغرب، على أرض الواقع في نهاية القرن الثامن عشر، ومواجهة العلم للجهل وجهاً لوجه، وصوتاً لصوت.

-3-
لعل هذه المواجهة العلمية المُرَّة للجهل العربي المقدس، والتي كانت أكثر مرارة من المواجهة العسكرية، هي التي زعزعت كيان المؤسسة الدينية السلفيـة في مصر، وجعلتها تقود حملة المقاومة الدينية المسلحة ضد نابليون وحملته وتحطيم معظم منجزاته خلال السنوات الأربع التي قضاها في مصر. فنابليون لم يُلحق ضرراً
بمصر يستوجب مقاومته هذه المقاومة العنيفة التي اضطرته للجلاء عن مصر بعد أربع سنوات، إلا بعد أن عبّأت المؤسسة الدينية التقليدية السلفية الرأي العـام المتدين والشارع المصري المتدين بطبعه ضد حملة نابليون، الذي جاء بأفكاره وعلومه المُهددة للجهل العربي المقدس أكثر مما جاء بعسكره ومدافعه لزعزعة اليقينات الدينية السلفية وزحزحة القناعـات الدينية السلفية، ومواجهة العلم للخرافة والموروث الشعبي الأسطـوري. والدليل على ذلك أن نابليون عندما جلا عن مصر ، ترك فيها وأعطاها أكثر مما أخذ منها بكثير. ولا يزال مما تركه فيها وأعطاها إياه باقٍ إلى يومنا هذا في الحياة المصرية الفكرية.

-4-
ينادي التيار الإسلامي دائماً، وفي كل الظروف بعدم الانبهـار بالحضارة الغربية، وعدم حبس النفس في "عقدة الخواجة". ويلاحظ بعض مفكري هذا التيار أن مقاومة التغريب قد اشتدت في العالم العربي رداً على محاولات الغرب لتسويق ثقافته في العالم العربي. ويطالب هؤلاء بالجواب عن سؤال صعب وهو:

- كيف يمكن لنا نحن العرب، أن نصل بمجتمعاتنا إلى نظرة موضوعية، تنطلق من الثقة بالنفس، الانتساب إلى الذات والشعور بالنديّة بعيداً عن التشنج؟ وهو سؤال المفكر الفلسطيني الراحل أحمد الدجاني ( التراث وتحديات العصر في الوطن العربي، ص329).
أما نحن فنسأل هنا: لماذا "عقدة الخواجة" هذه، وهذا الشعور الجارف بالتغريب، وهذا الانبهار بالغرب لم يتأتَ ولم يتلبَّس إلا بالعرب فقط، من دون باقي الأمم الشرقية الأخرى كاليابانيين والكوريين والصينيين والهنود وغيرهم من الذين نهلوا من الحضارة الغربية والتقدم الغربي؟

- ولماذا لم ينجح الغرب في تسويق وبيع "الانبهار" به، إلا على باب الدار العربية، دون بقية الدور الأخرى في الحي الشرقي؟

- ولماذا خصَّ الله تعالى الأمة العربية بخاصية الشعور بالانبهار، وعقّدها بـ "عقدة الخواجة"، دون غيرها من أمم الأرض، التي أخذت من الحضارة الأوروبية ما أفاد، وتركت ما زاد، وأخذت من التقدم الغربي ما ناسب الحساب، وتركت ما جانب الصواب؟

- وهل حقاً أن الغرب قد استهدف الأمة العربية دون غيرها من الأمم الأخرى - التي أخذت منه وأعطته وتلاقحت معه - في الترويج لحضارته، وبذل كل المحاولات المستمرة للانبهار بها؟
فكيف يمكن للجاه ـ ل أن ينبهر بأي أثر فني أو أدبي أو علمي، دون أن يكون على وعي وعلى معرفة بهذا الآثار المُبهرة؟
فالانبهار أساسه العلم والمعرفة بالشيء. فهل نحن على درجة كبيرة من العلم والمعرفة لكي ننبهر هذا الانبهار العظيـم بالغرب، الذي يصوره لنا التيار الفكري الإسلامي؟
وهل انبهارنا بالغرب هو انبهار الجهلة، أم انبهار العلماء؟
فإذا كان انبهار العلماء فنحن في حلٍ منه، لأننا لسنا بالعلماء. وإن كان انبهار الجهلة - وهذا هو انبهارنا - فما فائدة الغرب من استعمال كافة الأدوات الاستعمارية الحديثة لابهارنا،كما يقول دُعـاة التيار الإسـلامي ؟
في زعمي أننا أقل أمم الشرق تأثراً بالحضارة الغربية. وفي زعمـي أننا أكثر أمم الشرق التي أخذت قشور الحضارة الغربية، وتركت الجذور. وفي زعمي أننا غير منبهرين بهذه الحضارة قدر انبهار الأمم الشرقية الأخرى بها. وفي زعمي أن الانبهار بالشيء يأتي على درجة من الكِبر أو الصغر بقدر ثقافة المتلقي وفهمه ووعيه لما يتلقى والانبهار به. و في زعمي أن الفكر الغربي لم يؤثر على الفكر العربي إلا بقدر ما استطاع هذا الفكر العربي أن يستوعب. فكان حال الفكر العربي حال الطالب الذي لم يُكمل المرحلة الاعدادية، وتم وضعه في أرقى جامعات الغرب لكي يتلقى تعليمه فيها. فهل يمكن له أن ينجح في هذه الجامعات. ومن هنا ندرك أن الخلل ليس في الأفكار الواردة أو "المستوردة " كما يُطلق عليها البعض، ولكن الخلل في عدم ملاءمة التربة العربية لشروط النهضة، أو الحضارة الجديدة.
- فهل نحن جاهزون مثلاً للديمقراطية أو العَلْمانية أو العولمة أو أي مُعطى حضاري حديث؟

-5-
يدعونا التيار الإسلامي إلى عدم الاستعانة بالغرب ومنجزاته الحضارية وبناء حضارتنا من الداخل. وهم يقولون انه "يجب الحذر الشديد من استعارة المنجزات الحضارية والنماذج الأجنبية، والانطلاق دوماً من فكرة بناء الحضارة من الداخل مع الاستنارة بتجارب الآخرين "، كما قال أحمد الدجاني في المصدر السابق. ورغم ما في هذا الكلام من تناقض واضح وتلفيق بيّن ، وهو على طريقة الحب العذري المثالي، أو الوصال من وراء حجاب، إلا أن أهم ما في هذا الكلام هو إقرار وتأكيد مبدأ "عدم الاستعانة" بالغير وبمنجزاته الحضارية. وبمعنى آخر الدعوة في نهاية القرن العشرين إلى القطيعة الثقافية مع الغرب، وهي الدعوة التي سادت العالم العربي مدة تزيد على عشرة قرون منذ نهاية ولاية الخليفة عبد الله المأمون إلى الآن. والتي خلالها لم يكن لدى أحد أية مقدرة على استنطاق الأفكار، ذلك أن المجتمع العربي الإسلامي "لم يكن قد أسس نشاطه العقلي والاجتماعي على اهتمام أسمى" ، كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي ( مشكلة الثقافة، ص66).
وهذه الدعوة لا تعني ظاهرياً القطيعة الثقافيـة والحضاريـة مع الآخر، بقدر ما تعني باطنياً الدعوة إلى القطيعـة مع النفس أيضاً، أي مع تراثنا ذاته. ذلك أننا لا نعرف أنفسنا إلا من خلال الآخر. وأن ما عرفناه عن تراثنا وتاريخنا من خـلال أعمال المستشرقين - من مخلصين وغير مخلصين - يفوق أضعافاً مضاعفة مما عرفناه عن طريق أنفسنا وباحثينا. كما أن الآخ ـ ر يعرف عنا أكثر بكثير مما نعرف عنه. وفي هذا يقول غسان سلامة : "إن المثير للانتباه حقاً هزالة الاستغراب العربي بالمقارنة مع الاستشراق الغربي. فدراسة المجتمع الغربي والفكر الغربي من قبل العرب والأصول المعرفية والقيمية للعلوم التي يتبناها الغرب تكاد تكون معدومة في العالم العربي". ( التراث وتحديات العصر في الوطن العربي، ص353).
فهل نحن في حياتنا العقلية ما زلنا في مرحلة السحر التي تعالج الأمور بغير أسبابها الطبيعية، وإننا لولا علم الغرب وعلماؤه لتعرّت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي حياة لا تختلف كثيراً عن حياة الإنسان البدائي في بعض مراحلها الأولى؟ كما قال المفكر المصري زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي، ص 153).

-6-
ينادي التيار الإسلامي في بعض الأحيان إلى التواصل مع الغرب "من موقع النديّة"، ومن باب الظهور بالمظهر الليبرالي والثقة بالنفس. ولا ندري كيف يكون الجهل نداً للعلم، والتخلف نداً للتقدم، والاستبداد نداً للحرية، والديكتاتورية نداً للديمقراطية، إلا من باب تصنيم الذات والتعالي الكاذب الذي يشبه الحِمْلَ الكاذب عند المرأة؟ وقد ردَّ مراد وهبة، استاذ الفلسفة على هذا بإنه ينكر قول أن لدى العرب القدرة على التعامل مع الحضارة العربية من موقع النديّة.

-7-

كذلك فإن التيار الإسلامي يعتبر أن ما تمَّ من تواصل بين الإسلام والغرب - رغماً عن المسلمين ودون رضاهـــم - في القرنين التاسـع عشر والعشرين "تجربة فذة بين الفكر الغربي والمجتمع العربي". وهو يشجـع هذا التواصل من باب الانفتاح ودفع تهمة "الحذر الشديـد من المنجزات الحضارية والنماذج الأجنبية" التي نادى بها قبل قليل، لا لكي نعرف أنفسنا بشكل أفضل وأعمق وأعقل، ولكن لنطعـن في الحضارة الغربية - ونحن أمة طِعان - ونوجه لها سهام النقد ونفرز القوة عن الضعف في هذه الحضارة. ولنلاحظ أن هذا التيار يفترض في الأمة العربية وجود قوة الفرز، وهو ما نُطلق عليه "الفقه الحضاري" الذي هو أشبه بالقضاء التمييزي، والذي هو أعلى درجات القضاء في المحاكم. علماً بأننا لسنا معنيين بضعف هذه الحضارة - إن وُجِدَ - بقدر ما نحن معنيون بقوتها التي نريد لامتنا قوة مثيلة لهــا، وهي قوة العلم وقوة العقل. أما قوة الإيمان فلنا منها والحمد لله، رصيد يكفي حاجة البشريـة كلها، وربما يزيد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف