كتَّاب إيلاف

في وداع الشيخ جلال الحنفي البغدادي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

غيّـب الموت مؤخرا ( الاحد 5 آذار 2006 ) الشيخ جلال الحنفي ( ولد سنة 1915 ) البحاثة البغدادي المعروف، وبفقده خسرت بغداد "ذاكرتها" الشفاهية، وحافظ معجم لغتها الدارجة المحكية والمولع بتراثها الغنائي والبنائي؛ والصفة الاخيرة هي التى جمعتنا معا، هو العارف بمحلات بغداد وسكانها و "ابنيتها" الشعبية، وانا التائق الى معرفة المزيد من ذلك المنجز الرفيع والابداعي، والمنسي مع الاسف، الذي ندعوه "العمارة العراقية الحديثة"..
تعرفت على الشيخ جلال الحنفي،الذي يحب ان يكنى " بالبغدادي " في اوائل الثمانينات باحد اللقاءات الثقافية في بغداد، ووجدته كما كنت سابقا اسمع عنه ملما ً بتضاريس خريطة المحلات البغدادية، والعارف بجغرافيتها وحدودها، والحافظ لتسمياتها وكيفية نطقها الصحيح؛ ويعرف العراقيون و" البغادة " خصوصا ان اسماء محلات المدينة العريقة هي خليط غريب عجيب من لهجات ولغات وثقافات واديان متنوعة كتنوع سكان هذه المدينة " الكوزموبوليتانية " بامتياز. فاسماء محلات مثل تبة الكرد والقرغول وعزات طويلات والبارودية وقره شعبان وباب الاغا والتورات والجوبة والقاطرخانه وتحت التكية والطاطران وباب الشيخ وصبابيغ الال والكولات وعقد النصارى وسوق حنون والسيف وخضر الياس وسوق العجيمي وست نفيسة وقنبر علي وابو سيفين وغيرها من المحلات التى ترد دائما على لسان الحنفي بتهجئتها السليمة ونطقها الصحيح، تبدو الان وكأنها تسميات غريبة لغويا على مسامع البغداديين المحدثين، انها تسميات يجهلها الكثيرون ومنسية من قبل الكثيرين، ساهم في نسيانها حملات التغيير العاتية المتعمدة التى شنها النظام الصدامي التوتاليتاري المقبور.

كنت ازوره في مقر اقامته "بجامع الخلفاء"، لم يكن هذا مسكنه، مسكنه يقع في مكان آخر بعيد، لكنه جعل من احدى الغرف العلوية في المسجد مقرا له ولمكتبته، وبعد لقاءات عديدة معه اقتنعت، صدقا، بانه غير مطلع تماما على موضوعي واهتماماتي. ولم افاجأ في ذلك؛ " فمنجز العمارة العراقية الحديثة " محيرّ ومشوب بالضبابية: محيرّ لان واقعة ظهوره تزامنت مع " الاحتلال " ابان سنوات الحرب الاولى، ونظر الكثيرون لطلائع المباني الحداثية التى نفذها المعماريون / الضباط اولا، والمعماريون موظفو الدولة العراقية لاحقا ً، نظروا اليها بنوع من الريبة وعدم التقبل بسبب اهدافها الوظيفية التى لم يسمعوا عنها سابقا، الوظائف التى تزامن ظهورها مع تأسيس الدولة الفتية ، ومشوب بالضبابية بسبب اساليب تكوينات تلك المباني الجديدة التى اعتبروها بديلا او تهشيما للتقاليد البنائية الموروثة التى يعرفونها ويمارسونها. واعتقد ان حضورهذين الموجبين لوحدهما كانا كافييّن ليعملا على " تغريب " المنتج المعماري الحداثي بالعراق وفقدان الاهتمام به من قبل غالبية المهتمين بالشأن الثقافي، الامر الذي ساهم بشكل وبآخر على عدم شيوع " ثقافة العمارة " وحصرها في نطاق نخبوي ضيق ومنفصل عن حراك ابداعات المنجز الثقافي العراقي بتجلياته المتنوعة والمعروفة لدى الكثيرين... لكن كل هذا ليس مقامه الان، فالمقام مكرس لكلمات في وداع الشيخ البغداي المعروف!

"حين يرحل احدنا، فجأة، في مغيبه الاخير، تهبط في مثل الفجاءة ايضا، ستارة عجيبة، تفصل الشخص عن النص، وتميل بالميزان لصالح النص، كأن غياب الشاعر مستلزم لحضور النص، نصه هو.. " ؛ كتب يوما ما "سعدي يوسف" عن رحيل شاعر الى مثواه الابدي!

اعترف باني غير ملم على وجه الدقة في الكتابة عن مؤلفات الشيخ الحنفي واهتماماته الشعرية والموسيقية، وعن معارفة الغزيرة في التجويد والعروض، رغم هبوط تلك " الستارة العجيبة " الفجائية اياها؛ لكني وددت بمناسبة وداع الشيخ الحنفي ان اتذكر تلك الالتماعات الذكية التى وجدتها عند الشيخ الجليل في زياراتي المتباعدة له في محلة " سوق الغزل " عند جامع الخلفاء. فالرجل وان بدا وقورا بحكم السن والوظيفة: كامام لجامع، كان لا يفتأ يجادل جيرانه سكنة وبائعي الطيور في محلة سوق الغزل الواقع " جامعه " في ارضها، هم المتسمون بالمبالغة حد الكذب الصريح، lt; ولهذا السبب يقال بان القضاء العراقي لا يقبل شهادتهم! gt;، يجادلهم ويحادثهم في لغتهم البغدادية ذات الوقع الموسيقي الخاص. وكنت اصغي باعجاب وهو يستخدم ضروب التورية والتشديد والمبالغة والتشبيه لمفردات لم اسمع بها سابقا، بيد انها مفهومة ومقبولة من " الاخر " الذي يتحادث معه، و" الاخر" هنا - " المطيرّجية " مربو واصحاب وعشاق وبائعو الطيور والحيوانات الاليفة.. وغير الاليفة. وعندما كنت ابدي اعجابي بطريقة كلامه، كان يرد علي ّ ضاحكا بان في جعبته الكثير منها، وان " اشقياء " محلة " سوق الغزل " والمحلات المجاورة لها، المشهورين في سلاطة السان يصغون ويحتاجون اليه في تعزيز " معجمهم " المفرداتي في اللهجة البغدادية الاصيلة.
في قيظ بغداد " الظهري "، عندما ازوره في الجامع، اعرف مسبقا كما انبأني بانه لا ينام القيلولة - " نومة " مابعد الظهر الاثيرة لدى العراقيين والبغادة على وجه الخصوص، كنت اضغط بضغطات محددة وخاصة زرّ الجرس الكهربائي الواقع في مكان " خفي "، بعيدا عن انظار اطفال المحلة، الذين وجدوا في مشاكسة الشيخ النحيف تسلية لهم! . واذ يشرع في فتح الباب الحديدي لي، اسمعه يلعن طيور سوق الغزل الوقحة التى تصب قاذورتها من اعلى على ارضية الممر الطابوقي الجميل، وفي كل مرة يسألني السؤال اياه " كونك معمار ماهو السبيل لجعل هذه الطيور تكف عن ان تعشعش في زوايا البناء؟ " ؛ وعندما ابين له الوسائل المتنوعة في كيفية منعها من الوقوف بتلك الاماكن، وكما هو متبع في المباني التاريخية والحديثة العالمية، يهز رأسه غير مقتنع بجدوى هذه الحلول التى يراها معقدة ومكلفة، والاهم " بان الاوقاف لا يمكن ان توافق عليها "!.
ويتعين عليّ ان اذكر بانه خلافا للكثيرين وانا منهم، لم يكن من المعجبين ولا حتى من القانعين باسلوب عمارة " جامع الخلفاء "، الذي اعتبر، شخصيا، عمارته من الصفحات الناصعة في سجل العمارة العراقية الحديثة وعمارة المنطقة عموما. كان ينتقد طريقة عمل مكونات المسجد واسلوب تجميعها وتحديد احيازها، ولاسيما اشارته الى صغر سعة قاعة الصلاة الدائرية المقببة فيه، لكنه سرعان ما يعترف بان مساحتها تفي بمتطلبات زواره المصلين الذين يأتون خصيصا اليه من اماكن بعيدة لسماع خطبته الاسبوعية؛ فالمنطقة المحيطة بالجامع كما يقول مبتسما ً لا تصغي اليه، انها تفضل زيارة جامع الخلاني القريب في ايام الجمع، وفي ايام الآحاد زيارة كنيسة اللاتين الواقعة على الجانب الاخر من الشارع، كناية عن طبيعة " الفسيفساء " المذهبي المحيط بالجامع، جامعه هو: جامع الخلفاء!.
ولئن ظل ممتعضا من عمارة الجامع الحديثة، رغم محاولاتي المتكررة في تبيان اصالة المخطط وتأشير الجهد التصميمي فيه، فانه من جانب آخر، كان لا يتوانى في الاعراب عن اعجابه العميق وحبه وافتخاره في " مئذنة / منارة " الجامع القديمة، التى يعود انشاءها الى القرن الثالث عشر، المنارة التى ادخل المصمم وجودها الفيزياوي، بمهنية عالية، في صميم نسيج التكوين المعماري الجديد. في هذه المرة كنا: هو وانا متفقين على اهمية المنارة وجمالياتها، وهي حقا منارة مثيرة ومدهشة في آن، ان كان ذلك لجهة التاريخ او العمارة. فهي تقف لوحدها منفصلة عن كتل الجامع المبنية، متحدية بارتفاعها العالي الذي يصل الى 35 مترا عوائد الزمن وضروبا من تشويهات قاسية لحقت بها على مرّ العهود؛ لكنها ظلت معتدة في كتلتها وهيئتها، حافظة لنا مختلف الطرق الفنية في الزخرفة والتزيين.
ثمة تشابه اجده بين تلك المئذنة الجليلة ومحدثي، الذي لا يفتأ يتكلم عنها بود وحنيّة وشغف. فكما هي ادت دورها كحاضنة وناقلة لاساليب فنية وجمالية تضرب جذورها عميقا في التاريخ العباسي، ارى في منجز الحنفي، رغم جميع الامور الخلافية التى اثيرت حول عطاءه وشخصيته، منجزا مؤهلا للقيام بذات الدور الحافظ والحاضن والناقل لذلك الموروث الفاخر الذي بمقدوره ان يؤسس " لهوية "، نجد فيها قيمة اسهامنا ومشاركتنا في مآثر اغناء الثقافة الانسانية. ان ما اضطلع به " جلال الحنفي البغدادي "، جنبا الى جنب ما قام به عزيز الحجية، وعبد الحميد العلوجي، وعبد الكريم العلاف وغيرهم كثر من دور في حفظ وعناية الموروث الشعبي البغدادي، يمثل اسهامة مهمة ونافعة في خلق مناخات اصيلة، تسهم في ديمومة مسار التواصل الثقافي وعدم قطعه من ناحية، ومن ناحية اخرى تسعى الى ترسيخ الخصوصية، التى يمكن استنطاق سماتها سعيا لتكوين خلاصات تؤسس لافاق معرفية جديدة ورحيبة.
وداعا، ايها الشيخ الجليل،
وداعا ايها المغرم بالثقافة الشفاهية البغدادية الاصيلة!


مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف