في أشكالية الخطاب العربي النقدي المعاصر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أن أشكالية الخطاب العربي النقدي المعاصر ماهي الا جزء من اشكاليات الفكر العربي المعاصر، الذي اصبح من الواضح انه يعيش ازمة حقيقية تفاقمت حدتها لتخرج من نطاق الدوائر الثقافية و الاكاديمية الضيقة الى الحياة اليومية للمجتمع العربي ككل. وما مظاهر التطرف و العنف الديني والارهاب الا التجسيد المادي لتلك الاشكاليات الفكرية.
وتاريخيا لابد لنا من التسليم بان النقد العربي الحديث قد تأسس في لحظة قطيعة مع التراث النقدي العربي الكلاسيكي ، فقد تفتح الوعي الثقافي لرواد النهضة النقدية العربية الحديثة ، امثال طه حسين و الحكيم والعقاد والزهاوي والرصافي ، على مناخ الحضارة الغربية سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة. وتواصلت هذه القطيعة مع توجه النقد العربي المعاصر نحو المناهج النقدية الغربية او مايعرف (بالنظرية الادبية)، اذ وفرت تلك المناهج حقلا معلوماتيا خصبا يعين الناقد العربي على الكشف عن مجاهل النص الادبي الحديث ويزوده باليات اجرائية لفتح انغلاقه.
ولقد تجسد هذا التوجه في اتجاهين متميزين و متداخلين: الاول في عملية ترجمة النتاج النقدي الغربي الذي تعامل مع النظرية الادبية الحديثة مثل الشكلانية والبنوية والسيميولوجية، والثاني تمثل في النشاط التطبيعي لبعض النقاد العرب في محاولتهم استثمار الافق النظري ودراسة النصوص الابداعية العربية وتحليلها مثل الجهد النقدي ل د. صلاح فضل و د. كمال ابو ديب و د. عبد الله الغذامي و فاضل ثامر ود. عبد الله ابراهيم... الخ
وفي غمرة الانهماك في عمليات الترجمة والتطبيق بدات اشكالية المعاصرة والتأصيل بالظهور والنمو كرد فعل تجاه الاجتياح النقدي للمناهج النظرية النقدية الغربية. ومع تزايد الاهتمام بالنظرية النقدية الغربية وطروحاتها المعرفية ومحاولة استثمارها، بدأ بعض النقاد العرب ينادون باهمية التاصيل النقدي اخذين في الاعتبار خصوصية الثقافة العربية والتباين في المرجعية للنص العربي عن النصوص الغربية.
وعلى ما يبدو من صحة في هذا القول، فانني لا اتفق مع تلك الطروحات ولا ارى امكانية الموازنة بين التراث والحداثة على الصعيد الثقافي والنقدي العربي. ويتاسس افتراضي هذا على اسباب نظرية واجرائية.
فعلى المستوى النظري والفكري تشكل الوعي العربي المعاصر من بنى معرفية مستعارة من الغرب بشكل كامل، ولم تجد محاولات التاصيل، على قلتها وهشاشتها، صدى يذكر في الفضاء المعرفي النقدي الحديث. كما أن البنية السوسيو- ثقافية للمجتمع العربي الحديث وجميع الممارسات الاقتصادية والسياسية شهدت هي الاخرى قطيعة تامة مع نمط المعيشة العربي الكلاسيكي وظروفه التاريخية الموضوعية.
إن ظهور الطبقة البرجوازية العربية وارتقاؤها الى مستوى الهيمنة على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي من خلال الانقلابات والثورات السياسية والعسكرية و الاجتماعية قد مكنتها من فرض خطابها الفكري والثقافي وتهميش الخطابات الاخرى التي صارت تبدو وكانها خارج حركة التاريخ العربي المعاصر.
ان ارتباط هذه الطبقة ومثقفيها ارتباطا عضويا مع المناخ الثقافي للبرجوازية الغربية من خلال السفر والاقامة او الدراسة في الاكاديميات والجامعات قد ساهم في نقل الاسس الفكرية من الغرب الى الشرق. فقد اصبح للانتلجنتسيا البرجوا ية العربية الاثر الحاسم في تاسيس الثقافة العربية من خلال تبني الافكار الغربية سواء التنويرية او الليبرالية او الاشتراكية. فقد تم نقل اسس الخطاب الثقافي البرجوازي الغربي، والذي هيمن على الثقافة الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، الى مناخات الثقافة العربية لتتلون بلونه و لتعيد انتاج مقولاته الكبرى مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وحرية المرأة، كمشاريع اصلاح لشعوبها التي تعاني من التخلف و الامية والفقر و القهر السياسي.
ومع هذه التحولات الجوهرية في بنية المجمتعات العربية الحديثة اصبح من الصعب الحديث عن( فكر عربي خالص) او نظرية نقدية عربية. حتى ان مصطلح( الشخصية العربية الحديثة) صار غامضا ويحتاج الى الكثير من الدراسة من قبل المفكرين وعلماء الاجتماع العرب لتحديد الملامح الثقافية و الاجتماعية لهذه الشخصية. فهل ستتمكن الشخصية العربية الحديثة، التي تاسست ثقافيا و اجتماعيا وسياسيا على القطيعة مع تراثها الكلاسيكي من ان تنتج نظرية نقدية تقوم على التواصل المعرفي مع ذلك التراث؟ اما من الناحية الاجرائية، فانا اعتقد ان اشكالية الهوية و الخصوصية بمنظورها المنغلق على الذات اصبحت تحتل حيزا ضيقا في بنية النص الادبي.
ونتيجة للثورة المعلوماتية و التطورات في مجال التكنولوجيا والاتصالات وانفتاح الشعوب على بعضها البعض، اصبح هناك نوع من التقارب بين الثقافات، وان كان في بعض مظاهرة قد انتج صورا عدائية. ولهذا فان القاريء العربي المعاصر بمرجعياته الخاصة لم يعد يجد صعوبة في التفاعل مع النتاج الادبي لادباء ينتمون الى ثقافات مغايرة مثل اوروبا وامريكا الاتينية مثلا.
ان المبدع العربي الذي اصبح يعيش نمط الحياة الغربية بكل ايقاعاتها على المستوى المادي ويقراء لكتاب أجانب اكثر مما يقراء لزملاءه العرب، لابد وان تتشكل انساق البنية المعرفية لديه بطريقة تجعله بعيدا بصورة ما عن الانتماء النفسي والفكري للتراث الكلاسيكي للثقافة العربية.
قد تبدو هذه الرؤية متشائمة ، ولكنها تتاتى من تحليل معطيات الواقع الموضوعي للحياة العربية الحديثة ككل. قد يكون هنالك تفردا في مجال من مجالات الابداع مثل الرواية او الشعر او المسرح، غير ان المجال النقدي ينتمي الى شبكة معرفية اكثر تعقيدا وتداخلا مع الابعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية. ولا أظن ان اي عملية احياء قصدية أ و مرتجلة سيكتب لها النجاح، مالم ترافقها عملية نهضة شاملة لمختلف عناصر الوعي العربي المعاصر. اذ انني اعود لاؤكد بان اشكالية الخطاب النقدي العربي المعاصر ماهي الا جزء من اشكالية الفكر العربي المعاصر.