العقل الغريزي الفلسطيني من الحسيني إلى مشعل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كيف فشل العقل القيادي الفلسطيني في القفز على مقترح لجنة بيل البريطانية عام 1939 الذي طالبهم بالتنازل عن 20% فقط من ارض فلسطين لصالح اليهود لينتهي بهم الأمر اليوم بالقبول بـ 22% من ارض فلسطين التاريخية؟ لماذا لم تقبل القيادة الفلسطينية بقرار التقسيم عام 1947 ولو بهدف إحراج القيادة الإسرائيلية، التي لم تقبله آنذاك إلا لسابق معرفتها برفض العرب له؟ كيف استعصى استيعاب المقترح البورقيبي للعام 1964 المطالب بقبول الشرعية الدولية، أي قرار التقسيم، والحال انه جاء سنوات طويلة بعد امتلاك إسرائيل السلاح النووي مما يفترض أن يبدد أي وهم -عند أي كان - بالقدرة على تدميرها؟ لماذا واصلت القيادات الفلسطينية رفضها القبول بالممكن بالرغم من الهزائم والنكبات المتلاحقة على مدى نصف قرن وآخرها تنطع قادة حماس لمطالب الشرعية الدولية ممثلة في الرباعية؟يركز هذا المقال على عامل أساسي ألا وهو بدائية العقل السياسي الفلسطيني الذي لم يرتقي بعد إلى مرحلة العقل المعرفي، كما هو الحال عند الإسرائيليين.
يعرف قاموس أكسفورد العقل بـ "القدرة الذهنية للوصول إلى نتيجة معينة بناء على فرضية ما" . على هذا الأساس، يخطئ العقل سواء باعتماده فرضيات لا وجود لها على ارض الواقع، أو بالبناء على فرضيات صحيحة، لكن للوصول إلى نتيجة خاطئة. وقد اخطأ العقل السياسي الفلسطيني، خلال العقود الخمسة الماضية، على هذين المستويين.
في تحالفه مع هتلر، على سبيل المثال، كانت فرضية مفتي القدس أمين الحسيني أن ألمانيا النازية، وبحكم معاداتها لليهود، لا يمكن أن تبخل بدعم الفلسطينيين. وهذه فرضية خاطئة، حيث أن: (1) أولوية هتلر كانت تركز أساسا على السيطرة على أوروبا و(2) كان من الواضح أن حروب هذا الأخير ضد الجميع لن تكون نهايتها إلا الهزيمة المنكرة، وهو ما حصل فعلا في العام 1945. ولو كان في عقل الشيخ أمين الحسيني ذرة من القدرة الذهنية على مراجعة الذات لما ارتكب نفس الخطأ برفض القرار الأممي للتقسيم الصادر سنة 19947، بعد أن اصبح الحليف النازي في ذمة التاريخ.
أما البناء على فرضية معقولة للوصول إلى نتيجة خاطئة، فيكفي أن نسوق مثال التعويل الفلسطيني -و العربي بصفة عامة- على القوة العظمى للاتحاد السوفياتي السابق. فهذه القوة لها تقاطع مصالح مع الولايات المتحدة يفوق بكثير ما يمكن أن تجنيه من دول متخلفة، وهو ما ثبت للعيان اثر أزمة الصواريخ الكوبية عندما أذعن كروتشيف لمطلب الرئيس الأمريكي و عقد صفقة من وراء ظهر فيدال كاسترو.
الصفة الأساسية للغريزة، بحسب الموسوعة البريطانية "انسيكلوبيديا بريطانيكا" تتمثل في "تصرف الإنسان بناء على أعمال انفعالية" ، أي يصعب فهمها بناء على أسس المنطق الإنساني الحديث. على هذا الأساس، كتب العفيف الأخضر:" فيما يخصني أرى أن جل النخب العربية مازالت، على صورة مجتمعاتها، ما قبل حديثة، لان النقل أي تقاليد عبادة الأسلاف مازالت العنصر السائد في تفكيرها وتدبيرها، أي أنها مازالت في عصر الدماغين الغريزي والانفعالي ولم تنتقل بعد إلى عصر الدماغ المعرفي" (مقال: العقل لم يدخل إلى الثقافة العربية بعد، منشور بتاريخ 11 ديسمبر 2004). وهذا هو سبب قصور القيادات الفلسطينية المتواصل، منذ نكبة 48، في اتخاذ القرارات الصائبة، وهو ما سيتجدد في المستقبل القريب على يد حكومة حماس.
لا يعني العقل الغريزي بالضرورة الشلل التام، حيث وكما جاء في الموسوعة المذكورة أعلاه:"بالرغم من وجود أساس ثابت، قد يحصل بعض التغير على التصرف الغريزي من خلال العملية التعليمية" . وهذا ما حصل بالفعل لقيادة حماس التي انقلبت على موقفها السابق الرافض للمشاركة في الانتخابات عام 1996 بدعوى أنها تقام على أرضية أوسلو، لتقبل بالمشاركة في الانتخابات الأخيرة. لكن هذا التغير البسيط لن يكون كافيا لرفع التحديات الملقاة على كاهل الحكومة الجديدة.
فالتصريحات الأخيرة للسيد خالد مشعل حول "التعامل بواقعية" لا تتناسب مع الورطة الكبرى التي تواجهها القيادة الفلسطينية منذ انطلاقة الانتفاضة الثانية، خصوصا بعد اعتبار أعمالها الانتحارية "جريمة ضد الإنسانية" من طرف اعرق واكبر المنظمات الدولية لحقوق الإنسان - منظمة العفو الدولية - ، والبيان الصادر عن الرباعية منذ عامين، الذي اعتبر الأعمال العسكرية الإسرائيلية مجرد دفاع عن النفس، محملا المسئولية الكاملة في استمرار الأزمة لأعمال العنف التي تزعمتها حماس، خلال تلك الفترة. كذلك تمت ترجمة تصريح السيد خالد مشعل بأن "ُبعد حماس هو ُبعد عربي - إسلامي"، على ارض الواقع، بمحاولة تعويض الدعم المالي الدولي المفقود بالتوجه إلى دولة الملالي في إيران، و هذا من شانه أن يسيء للقضية الفلسطينية أكثر ما يفيدها.
ويمكن ملاحظة نفس الشيء من عرض الهدنة طويلة الأمد، الذي حللت انعكاساته الكارثية في مقالي السابق (بعنوان: خطا تكتيكي فادح : الهدنة طويلة الأمد)، ومن تصريح خالد مشعل "ما نقوله للعالم كله هو أن على إسرائيل أولا أن تغير من موقفها وان تنتقل إلى موقف الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة وبعدها نحن نحدد موقفنا". فكما يدرك الجميع إن انسحاب أي احتلال، خصوصا في حالة اختلال كبير في موازين القوى كما هو الحال بالنسبة للفلسطينيين اليوم، لا يمكن أن يتم إلا نتيجة لمفاوضات سياسية يعبر منذ بدايتها كل جانب -وبوضوح- عن مواقفه المبدئية، التي يحدد على أساسها الجانب الآخر ما يمكن أن يقبل به، فكيف للسيد خالد مشعل أن يتناسى هذه البديهية ويطالب بانسحاب الاحتلال دون أن يبين الطرف الفلسطيني رؤيته للحل النهائي؟ كيف يمكن لإسرائيل أن تقبل بهذا؟ أي طرف دولي يمكن أن يضغط على إسرائيل للقبول بهذا؟ و ما معنى تصريح قيادي حماس موسى أبو مرزوق بان الحركة "مستعدة للحوار مع الأطراف الدولية حول كافة القضايا التي تتضمن انطلاق عملية السلام واستمرارها"؟ عن أي سلام يتحدث، إذا كان الهدف من الهدنة الإعداد للحرب؟ وكيف يتلاءم هذا مع استمرارية العملية السلمية؟
لقد كانت الانفعالية والمواقف المرتجلة الصيغة الأساسية لعملية اتخاذ القرار الفلسطيني منذ نكبة 48 إلى اليوم، مما أدى إلى النتائج التي نعرف. وأولى الأولويات اليوم تتمثل في ضرورة صياغة موقف فلسطيني جديد مبني على الواقع. وقد يكون ذلك صعبا، بل ربما مستحيلا، في ظل تدني العقل المعرفي عند الساسة الفلسطينيين، الذي بقي انفعاليا، غريزيا وارتجاليا إلى حد كبير، كما كان عليه الحال أيام مفتي القدس، الشيخ أمين الحسيني.