كتَّاب إيلاف

الصِحَاحْ في نقدِ المِلاَحْ

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

من النقد السياسي إلى النقد الثقافي
النقد الثقافي منهج كنا قد أعلناه وكتبنا فيه عدة كتب جاوزت الأربعين كتاباً، منذ عام 1964 وحتى الآن. واليوم نود أن نمارسه من جديد بعيداً عن السياسة العربية وهمومها، وحتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، في فلسطين والعراق ولبنان ونواح أخرى من العالم العربي، وتتمخض الجبال العربية عن أسود ونمور وليس عن فئران وأرانب، دعونا نلتفت إلى ظاهرة مهمة وحيّة وشديدة التأثير في الحياة العربية المعاصرة الآن، وهي ظاهرة الغناء العربي الشبابي الجديد، الذي أخذ يستقطب مجموعات كبيرة من الشباب والشابات في كافة أنحاء الوطن العربي. ويؤثر تأثيراً ثقافياً واضحاً في الجيل العربي الطالع من حيث أنه يشبكه ويهمكه في الحداثة الفنية وفي الليبرالية الاجتماعية، التي قد تؤدي إلى الليبرالية السياسية، ويبعده عن مصائد شبكات الارهاب التي تصطاد الشباب وتجندهم لمزيد من العمليات الاجرامية في المستقبل.
فهل هذا الغناء الجديد، سلاح حاد في وجه موجات الارهاب التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى اقصاه، وعلينا أن نشجعه، فالوقوع في غرام نانسي عجرم أو أليسا، أو روبي أو هيفاء وهبي، أفضل بكثير من الوقوع في شِباك ابن لادن والظواهري والزرقاوي، بل أكثر آماناً وأمناً للشباب الموعودين بحوريات خيالية وسحرية في الجنة من طراز هذه الحوريات الحقيقية؟
وهل مهاجمة بعض أشياخ الدين وخاصة في منطقة الخليج لهذا النوع من الغناء الراقص أو الرقص المُغنىّ، سببه أن هذا "الفن" يُقصي الشباب الطالع عن الانخراط في صفوف "المجاهدين"، ويضمهم إلى صفوف "الراقصين" و "المغنين"، ويحفظ دموع أمهاتهم ولوعة آبائهم، يوم يقيمون لهم أعراس الدم، بدلاً من أعراس العطر؟

تحية كاريوكا وإدوارد سعيد
دُهش معظم المثقفين من الدينيين والليبراليين على السواء، عندما كتب ادوارد سعيد مقاله الجميل (تحية إلى تحية ، 1990) عن الراقصة الشهيرة تحية كاريوكا، بعد أن قابلها في القاهرة 1989، وأجرى معها حديثاً مطولاً، ونشر المقال بعد ذلك في كتابه (تأملات حول المنفى، 2004). وتساءل معظم المثقفين: كيف تكتب قامة من قامات الثقافة العالمية كإدوارد سعيد عن راقصة شعبية مثل تحية كاريوكا، لا دور لها في الثقافة العربية عموماً. ولكن حجة سعيد كانت أنه يكتب عن رمز من رموز الفن والتسلية الشعبية التي كان لها دور في الحياة الفنية العربية، من خلال تحليل سعيد للغة الجسد - حيث ينتج الجسد لغة بيئته - التي كانت تقدمها كاريوكا، ثم دور آخر سياسي/ثقافي عندما تحولت تحية كاريوكا إلى ممثلة مسرح سياسي مكشوف ومباشر. وكانت تبريرات سعيد تنصب في أسباب ثلاثة كما رصدها علي بدر في ( ادوارد سعيد وتحية كاريوكا : البوب آرتس وبولطقيا الجسد في الدراسات ما بعد الكولونيالية) :
1- بروز دراسات البوب آرتس والثقافة الشعبية وأبحاث الفن الشعبي العفوي والمجاني كفرع من فروع تيار ما بعد الحداثة.
2- بروز تيار ما بعد الكولنيالية في دراسة بولطقيا الجسد، حيث يكون جسد تحية كاريوكا هو السطح الذي تنقش عليه الأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية نفسها.
3- الاهتمام الذي أولته النظرية النقدية المعاصرة للكيانات المقموعة والمهمشة من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، مثل النساء، الزنوج، الفقراء، الأقليات الدينية والعرقية والأثنية.

من العباءة إلى الجينـز
وإذا كان إدوارد سعيد يدرك أن "دور تحية كاريوكا هو نوع من النصيّة التي ما من سبيل قط إلى تجاوزها على الإطلاق أو إهماله وإخفائه، أو التنكر له ومجافاته والتحايل عليه". فكذلك هي أغاني جيل نانسي عجرم المستهجنة والمرفوضة من قبل المؤسسات الدينية والفنية التقليدية.
وإذا كان ادوارد سعيد يعتبر أن فن الرقص عند تحية كاريوكا "نَصٌ كامل ومنجزٌ في الإطار النصي- الثقافي الذي يحرك ميداناً كاملاً من الأفكار والعلاقات ويبرزها في إطار خطابي متجانس من التاريخ الثقافي العربي في الحقبة الأولى من تشكّل المدينة العربية وتأسيسها على أساس كولنيالي. وهو منجز مكتمل، تم تحققه من خلال بنية خطابية متكاملة من علاقات اجتماعية وثقافية وسياسية وتاريخية وأدبية وإثنية"، فكذلك كانت أغاني جيل نانسي عجرم، وجمهورهم الذي خلع ربطات العنق والبدلات الداكنة اللون وفساتين السواريه وعقود اللؤلؤ (جمهور أم كلثوم وعبد الوهاب) وارتدى قمصان نصف كم (تي شيرت) الملونة والجينـز (جمهور جيل نانسي عجرم) . وأصبحت أغاني هذا الجيل تعبر عن مرحلة اجتماعية وثقافية عجر الشعر وعجزت الرواية والمقالة وعجزت السينما العربية عن التعبير عنها. بدليل انصراف الجمهور عن هذه الأجناس الثقافية، واقباله اقبالاً كبيراً على أغاني جيل نانسي عجرم الذي أصبح يوزع ملايين النسخ من انتاجه الغنائي.

"عوالم" القرن الحادي والعشرين
كان القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يعجُّ بـ "العوالم" من الراقصات المغنيات في الوقت نفسه. وقد تحدث عن دور العوالم الرحالون الأوروبيون الذين زاروا الشرق في القرن التاسع عشر أمثال الباحث السيسيولوجي الانجليزي ادوارد لين، والروائي الفرنسي غوستاف فلوبير. وكانت "العوالم" كما قال ادوارد سعيد ذوات انجازات بارزة في الرقص والغناء معاً. وفيلم (لعبة الست) بطولة تحية كاريوكا كان أصدق من صوّر واقع "العوالم" في مصر. وجيل نانسي عجرم من المغنيات الراقصات هنَّ "عوالم" القرن الحادي والعشرين. وهنَّ نموذج للنساء الخود الفاتكات للرجال بجمالهن وسحرهن. فلا يبعثن في الناظر غير المتعة الجنسية. و"الفن هو هذا الخيال الجنسي"، كما يقول الناقد المسرحي الأمريكي جورج ناثان. والجنس هو محرك رئيسي في الحياة العربية المنغلقة منذ 14 قرناً وإلى الآن. والإسلام استعمل شتى الوسائل لكي يُقبل العرب على الإسلام. وأغرى الإسلام العرب بالجنس. فسمح بالزواج بأربعة نساء دون بقية أديان السماء الأخرى. وعبّر عن الزواج بكلمة "النكاح" وهي كلمة دالة ومثيرة للفعل وللخيال الجنسي ، خاصة في قول القرآن الكريم ) وانكحوا ما طاب لكم من النساء ( . واستعمل هذه الكلمة 16 مرة في القرآن. ولم يستعمل القرآن كلمة "الزواج" بدلاً من "النكاح". إضافة لذلك، فإن العرب بُشروا بالحور العين إذ هم أسلموا كوسيلة من وسائل استعمال الجنس لكسب مزيد من الداخلين في الإسلام، وباعتبار أن التاريخ يشكله عنصران: الجنس والمال. والحور العين في الجنة اللائي ذكرن أربع مرات في القرآن (سورة الدخان، الطور، الرحمن، والواقعة) هنَّ الدافع الرئيسي للذين ينتحرون، ويقودون السيارات المفخخة في شوارع العراق والسعودية وغيرها. وقد قيل أن هؤلاء الانتحاريين يربطون على أعضائهم الذكرية حين ينتحرون، وذلك لكي تبقى سليمة وقوية وصالحة للاستعمال يوم القيامة!

ما الجديد لدى جيل نانسي؟
رقص جيل نانسي عجرم الايحائي المصاحب للغناء أو الرقص الغنائي، ليس بالجديد ولا يستأهل كل هذه الضجة الإعلامية التي يقيمها ولا يقعدها بعض رجال الدين صبحاً ومساءً. ولكنه الزمن الرديء يا صاحِ. فأغاني الأفلام المصرية القديمة والجديدة مليئة بالغناء الراقص أو الغناء المصاحب لراقصة ثلاثة أرباع ونصف الربع من جسدها عارياً. وهذا الرقص يذكرنا بجواري الأمويين والعباسيين والعثمانيين والمماليك. وقد اتقنَّ الرقص الشرقي الايحائي الذي شبهه ادوارد سعيد بمصارعة الثيران، ذات الحركات الذكية القليلة البطيئة. ونحن لم نكن نستمتع بمنظر أم كلثوم، ذات القسمات الصارمة والجسم المكتنـز، والرقبة الغليظة، والذقن اللحيمة، وهي تغني. وكنا نفضل أن نسمعها لا أن نراها. ولو كانت أم كلثوم، ذات قد ممشوق كنانسي عجرم، أو أمل حجازي، أو إليسا، أو هيفاء وهبي، لكانت بمثابة معجزتين في معجزة ضخمة : معجزة الصوت، ومعجزة الجسد.

(للبحث صلة)

Shakerfa@Comcast.net


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف