كتَّاب إيلاف

إبنى وأنا حر فيه!!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مرة كنت أتسوق فى أحد الأسواق المركزية فى المدينة التى أعيش فيها فى بلاد الفرنجة، وفوجئت بحالة نادرة من الردح بالإفرنكى المتبادل بين سيدتين واحدة فى منتصف العمر والأخرى شابة فى مقتبل العمروكان بجوارها فيما يبدو زوجها يجر أمامه عربة التسوق وقد وضع عليها طفله الصغير والذى لا يتعدى الثلاث سنوات، وفهمت من الخناقة أن السيدة متوسطة العمر ضبطت الشاب يقرص إبنه من خده بقسوة وأخذت تهدد بإبلاغ رجال الأمن تمهيدا لإبلاغ البوليس، ولم (يتلم عليهم لا أمة محمد ولا أمة عيسى ولا أمة موسى)، ولكن وقف بعض الأشخاص (الحشرين) أمثالى عن بعد يتابعون ما يحدث، وأم الطفل الشابة تدافع عن زوجها وتقول إن: خده أحمر نتيجة أن درجة حرارته عالية، والشاب يقول لها: سيبينا فى حالنا، ولكن لم يعترف أيا منهما بقرص خد الطفل، وأنا شخصيا لم أشاهده وهو يقرص طفله، ولكن من المرجح أنه قرصه (لأن مش معقول الست بتتبلى عليه)، وتذكرت أنه من عدة سنوات كان العنوان الرئيسى للجريدة المحلية على الصفحة الأولى:" القبض على أم تصفع طفلها داخل السوق المركزى"، لذلك توقعت أنه إذا حضر البوليس ربما يأخذون الأب بتهمة الضرب، والأم بتهمة التستر عليه والطفل يأخذونه إلى أحد ملاجئ الأطفال الذين يتعرضون للإيذاء الجسدى من قبل الأهل، تذكرت هذه الواقعة وأخذتنى الرأفة بالشاب والفتاة الذين تجاوزا العشرين بقليل، لذلك إقتربت من الشاب وأخذته على جنب وقلت له: "خذ إبنك ومراتك وزوغ قبل ما ييجى البوليس"، وفعلت هذا وأنا لم أدرك أن تصرفى هذا قد يضعنى تحت طائلة القانون بتهمة: "تسهيل هروب متهم، والتستر على جريمة الإيذاء الجسدى للأطفال، والتحريض على الهرب من البوليس"، وهنا رغم جو الحرية التام إلا انه ما أن تقع تحت طائلة القانون، تكثر السكاكين عليك وتظهر لك عشرات التهم، المهم أن الشاب أخذ بالنصيحة وأخذ ديله فى أسنانه وأخذ طفله الذى توقف عن البكاء بمجرد أن حمله، وقال لزوجته:" حصلينى ع العربية". وحتى اليوم لا أدرى إن كان ما فعلته هو لمصلحة الوالدين أم لمصلحة الطفل أم لمصلحة من بالضبط، كل ما فكرت فيه أننى أشفقت على الأم والأب و يبدو عليهما من الطبقة العاملة التى يطلع روحها لمجرد الطفو فوق سطح الماء، وأنهما قد يتبهدلا فى البوليس والمحاكم وقد يحرما من طفلهما، وقلت لنفسى أن هذا ربما يكون درسا مفيدا لهما لعدم التعرض لهذا الطفل بالإيذاء فى المستقبل.

....
وقد يبدو بالنسبة لبعض المجتمعات التى نشأت على ضرب أطفالها أن ما يحدث فى بلاد الفرنجة من حماية مطلقة للأطفال أمر مبالغ فيه ودلع ومياصة، لدرجة أن معظم مدارس بلاد الفرنجة تطلب من التلاميذ أن يبلغوا المدرسة لو تعرضوا للإيذاء الجسدى فى البيت من أى نوع، وأحيانا يبلغ الجار عن جاره إذا سمع صراخا مما يوحى أن جاره يعرض أطفاله للإيذاء الجسدى، وعادة ما يحضر أخصائى إجتماعى للتحقيق أولا، وإذا شك فى حدوث إعتداء جسدى يقوم بإبلاغ البوليس، ولكنى أعتقد أن مبالغة بعض المجتمعات فى حماية أطفالها أفضل كثيرا من مجتمعات اخرى تترك الأمر كليا فى أيدى الأهل، ويصل الإيذاء أحيانا إلى القتل مثلما يطلق عليه جرائم الشرف، وهى فى الحقيقة عار على بعض المجتمعات التى تعطى الحق للأب أو الأخ أو الأم بقتل إبنتهم عند الشك فى أخلاقها، وبهذا يضع الأهل أنفسهم وكلاء نيابة وشرطة وقضاة وجلادين على فلذات أكبادهم، وإذا قبض عليهم يتم الحكم عليهم بعقوية مخففة ويصبح القتل شرفا وحلا للمشاكل، وتنسى تلك المجتمعات أديانها التى تحرم القتل.

.....

وأعترف أن أبى رحمه الله كان يضربنى، وفى مرة كاد من ثورته وهياجه أن يسبب لى عاهة مستديمة لولا تدخل أخى الأكبر، والذى ناله من الحب (صفعة) لتجرأه على أن (يحوش) عنى، وبالرغم من ذلك فإن أشقائى كانوا دائما يعايروننى بأننى (الدلوعة) لأننى لم أضُرب بما فيه الكفاية مثلهم لأننى كنت آخر العنقود!!

والحقيقة أن ضرب الأهل للأطفال الصغار هو مسألة (إستسهال)، فبدلا من مناقشة أطفالنا ومحاولة تربيتهم بالإقناع (ناخدها من قصيرها) ونضربهم لإنهاء أى مشكلة، وبهذا ننشأ مجتمع مقتنع بأن (العنف هو الحل)، ثم أن مسألة ضرب الأطفال هى مجرد (جبونية ولا مؤاخذة)، نحن نضرب أطفالنا لأنهم صغارا ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، بدليل أننا نتوقف عن ضربهم بعد أن يصبح الواحد منهم طول الباب خوفا أن يردوا لنا الصاع صاعين !! وكذلك الزوج الذى يضرب زوجته، يضربها لأنه يعتقد أنه أقوى منها ولن تستطيع الرد عليه.

وضرب الأطفال ُينشء أطفالا يخافون من السلطة من جهة، ويرغبون فى التمرد على السلطة والقوانين بصفة دائمة سواء علانية أم فى الخفاء على شرط ألا (يتقفشوا)، وتنشأ أجيال بالكامل فى حالة خوف وعداء مع السلطة بدون سبب، وبما أننا لم نستطع أن نواجه سلطة الأب خوفا فيستمر هذا الخوف من السلطة أيا كانت سواء كانت سلطة فى المدرسة أم فى العمل أم فى الحكومة أم البوليس.

وطريق الإصلاح يجب أن يبدأ من البيت، إذا عاملنا أطفالنا بإحترام ومودة ومحبة، فسوف ينشأ لدينا مجتمع جديد تماما، واثق بنفسه يعرف حقوقه وواجباته، ساعتها يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه، ولكن المجتمع الذى نشأ على الضرب لحل مشاكل أطفاله، سوف يستمر فى ضرب معارضيه عند اللزوم بدافع المحبة والحرص على الأمن والمصلحة العامة، تماما مثل الأب الذى لا يتوقف عن ضرب إبنه فى الشارع العام ويقول للناس:
"ده إبنى وأنا حر فيه!!"

وبالمثل فإن المجتمع الدولى لن يستطيع أن يغض الطرف عن الحكومات التى تعتقل وتعذب وتغتال معارضيها، ولن يقبل إدعاء تلك الحكومات الظالمة أن تلك مسألة سيادة ومشاكل داخلية، لأن إنتهاك حقوق الإنسان الداخلى، لا بد أن تؤثر على مشاعر الإنسان العالمى، ولن يسمح المجتمع الدولى بعد الآن أن يقول له حاكم ظالم: " ده شعبى وأنا حر فيه!!"

samybehiri@aol.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف