ممدوح بيك وصديقه زكريا باشا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عشرات الريفيات متشحات بالسواد، لن تكون بحاجة إلى حس فني نادر لتكتشف حجم البؤس والهمّ الذي يسكن قلوبهن، هذا ليس مهماً، المهم أنهن كن يفترشن مدخل نقابة المحامين، سألت عنهن فقيل لي إنهن يشاركن في "ندوة" لإحياء ذكرى الأربعين على ضحايا "العبارة"، فحدثتني نفسي الأمارة بالسوء قائلة ربما كان أحد تجار المآسي جلبهن من قرى مصر وأريافها، ليظهر صاحبنا عبر الفضائيات، يلعلع ويعارض على المذاهب الأربعة، وابتسم شيطاني ـ قاتله الله ـ قائلاً : "لا تهتم فهذا أهون الشرور، فهناك من حرمهن طلة الابن والزوج والأب، وها هو الآن يبرطع في أوروبا، وحكومة مصر المتعوسة لم تتذكر الأمر إلا بعد أربعين يوماً وبعد أن هرب خارج البلاد، لترفع عنه حصانة لم يكن يستحقها بالأساس، ليس فقط لأنه غير منتخب، بل عينه الرئيس حسني مبارك بالاستعانة بصديق، أو بتزكية من هذا الصديق" .
حكاية الصديق هذه لم تبرح ذاكرتي، خاصة وأن صوت زكريا عزمي باشا، رئيس ديوان رئاسة الجمهورية ظل يحاصرني وهو يردد بثقة إن ممدوح إسماعيل مالك العبارة المنكوبة "ليس أكثر من صديقه وجاره، وأنه اتصل به فعلا بعد تلقيه نبأ غرق العبارة، لكنه لا يتستر على المتسبب في هذه الكارثة"، ومرة أخرى يبتسم شيطاني ومعه شيطانة حلوة لا أعرف من أين أتى بها، قائلاً : "ألا تقولون في أمثالكم .. إذا كان اللي بيتكلم مجنون، يبقى اللي بيسمع عاقل، فكيف يكون صديقه فقط ثم يتصل به بعد غرق الباخرة، هل كان مثلاً يريد أن يبشر صديقه بهذا الخبر السعيد ؟!، أم أنه طلب الاستعانة بصديق على طريقة صاحبنا جورج قرداحي" فاستعذت بالله من الشيطان، واستبعدت هذا الاحتمال الشيطاني، ليقيني التام بسلامة نوايا ونقاء سريرة الدكتور رئيس ديوان الرئاسة، وقلت في نفسي إنه حتى رغم تردد اسم زكريا عزمي باشا في قضايا مريبة سابقاً مثل قضية "حوت مدينة نصر" وهو لمن لا يعرفه المدعو فوزي السيد، وقضية الدكتور ممدوح حمزة الذي يحاكم في بريطانيا حالياً، وغيرها من القضايا المشبوهة، لكن لا يمكن أبداً أن يكون الدكتور زكريا عزمي باشا ـ وفي أسوأ الفروض ـ سوى ضحية أصدقاء السوء قاتلهم الله أنى يؤفكون !.
..........
لعلها المرة الأولى التي يقف فيها بجلبابه الصعيدي، أمام ميكرفون، يتحدث بينما مئات من الأفندية المحترمين يستمعون إليه، لهذا ارتبك في البداية قليلاً، وما أن شرع في السرد حتى تحولت القاعة إلى قبر، بكل صمته وهيبته وجلاله .. ولاحظت العشرات وقد أخرجوا المناديل يمسحون بها دموعهم .. وهم يستمعون إلى شهادة الشاب الذي احترف كغيره من ملايين المصريين الترحال جرياً وراء لقمة العيش، واحتمل سخافات العربان واستعلائهم وتعمدهم إهانته، وطالما هوّن الأمر على نفسه قائلاً إن "أكل العيش مر"، وحمد الله على نعمة الصحة والستر، حتى عاد يوم غرق الباخرة وكان قد لف "تحويشة العمر" تحت إبطيه، بضع ورقات من فئة المائة دولار، كان يفكر في ما تساويه من جنيهات مصرية، وكيف سيبني بيتاً ويتزوج، ويرتاح قليلاً من شتائم الكفيل، وعبودية العمل في ديار العرب، وأمجاد يا عرب أمجاد ..
يتوقف سعد، وهذا اسمه، عن السرد وتدمع عيناه وهو يروي ضمن شهادته كيف شاهد طفلاً في السادسة أو السابعة من عمره يغرق بين يدي أمه، والماء المالح يملاً رئتيه، والطفل يصرخ "خلاص هاسمع الكلام يا ماما"، كأن الطفل يتصور الأمر عقاباً من أمه، وليس محنة ستنتهي خلالها حياته وحياة أمه وحياة أبيه، وهو ما حدث بالفعل .. شاهد سعد جثة الطفل وأمه تطفوان بعد ساعات طويلة ظل خلالها سعد يكافح الأمواج والقروش ويتشبث ببرميل يقذفه الموج يميناً ويساراً .
لم أكن في حاجة إلى شيطاني ولا إلى شياطين الآخرين لأتخيل الفندق الدافئ النظيف، وكأس النبيذ الفاخر والاسموكنج سالمون الذي "يطفحه" من تسبب في غرق هذا الطفل بهذه الوحشية، ولا دفء أحضان الزوجة الجديدة للصديق الذي استعان به، وتخيلت ابني أو ابنتي موضع هذا الطفل، وتدفق الدم إلى رأسي، واستبد بي الغضب وكدت أحطم الطاولة بقبضة يدي، لعن الله الصمت والخنوع والخوف من هؤلاء الطغاة المتبلدين، لماذا تتحول مآسينا إلى لغو وأرقام في أروقة المحاكم، حتى يطويها النسيان، ويصبح الخوض فيها كمن يجتر ذكرى الحرب العالمية الأولى ؟
...........
في اليوم الأول الذي سمعت فيه صوت ممدوج بيك إسماعيل، كان عبر اتصال هاتفي أجراه معه التلفزيون الحكومي المصري، كان المذيعان يتسابقان في توجيه أقسى الاتهامات إليه، حتى وصل المذيع إلى سؤال "بايخ" عن ثروته، وكيف كونها وعدد السنوات التي استغرقها في تكوينها، ليصبح صاحب كل هذه البواخر، حينها أغلق ممدوح بيك الهاتف في وجه المذيع، وربما كان لسان حاله يردد "يا ناس يا شر كفاية أر"، وفي اليوم التالي حضر ممدوح بيك، ومعه البيك الصغير ابنه، والمثير أنهما كانا ضيفان على المذيع الذي تطاول عليهما اليوم السابق، ومع أن هذا المذيع "مسنود" وابن مسؤول عتيد في قطاع الإعلام، غير أنه ظهر في هذا اللقاء مهذباً مؤدباً ومستمعاً جيداً، خلافاً لما كان عليه الأمر في الحوار الهاتفي اليوم السابق، مما جعل كل الفئران والشياطين والقرود تلعب في صدري، ماذا جرى ؟، وما سر هذا التحول الرهيب ؟، ولماذا يجتمع مذيعان وثلاثة في تلفزيون مصر المنكوبة على ضيف واحد، بينما يتذكر المواطنون البريطانيون القائمون على شؤونه فجأة "قواعد المهنة"، فيكتفون بمذيع واحد في لقاء ممدوح بيك "كعب الغزال" ونجله "الشملول"، اللذين راحا يصولان ويجولان دون مقاطعة من المذيع المؤدب، خاصة وقد علمت في ما بعد أن ممدوح بيك اشترط على التلفزيون عدم استقبال أي مكالمات هاتفية حتى لا تشتت أفكاره، وكي يستطيع عرض قضيته بوضوح، ويبرئ ساحته من مسؤولية الألف قتيل، وليكن القبطان هو المسؤول، أو حتى القضاء والقدر، وربما الركاب الغرقى هم الذين تسببوا في الكارثة، المهم أن ممدوح بيك وابنه الجنتلمان ليسا مسؤولين عما حدث، وأنهما مع ذلك سيدفعان التعويضات كاملة لكافة الضحايا، مع أن شركات التأمين هي التي ستدفع، لكن الخير والبركة في ممدوح بيك فهو خبير في التعامل مع هذه الشركات، التي لا يعرف هؤلاء الصعايدة دهاليزها وقوانينها وطرقها الوعرة التي تدرب عليها ممدوح بيك وولده "ليمتد" لصناعة الكوارث البحرية .
...........
تريدون الحق أم ابن عمه ؟
الحق أنني تعبت ـ وربما يئست أيضاً ـ من الكتابة، وارتفع مستوى الضغط والسكر .. وخلاصة القول إن شعوباً لا تستطيع الدفاع عن حريتها فلا تستحق هذه الحرية .
وشعوباً لا تريد دفع ثمن الديموقراطية "كاش"، وتتتظر أن تصلها الديموقراطية "دليفري"، فإنها سنتطر طويلاً دون أمل .
وشعوباً لا ترى بأساً في نهب وسرقة قوت أبنائها، فينبغي عليها ألا تشكو من الجوع والعوز والحاجة .
وشعوباً باتت تتغنى بمن يهينها ويدهس كرامتها بحذائه، فهي شعوب فقدت بوصلتها .. وليس لها أي حق في الحديث عن الكرامة .
والله غالب على أمره
Nabil@elaph.com