الحداثة التونسية في عيدها الخمسين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بعد إعلان الاستقلال في 20 مارس- آذار 1956 بأقل من خمسة شهور صدرت مجلة [= مدونة] الأحوال الشخصية في 13 أغسطس - آب 1956 . التي أسست للحداثة التونسية. لم يقابلها الجمهور ولا حتى النساء بالترحيب. الحداثة لم تكن قط مطلباً شعبياً، في أي بلد في العالم، بل كانت دائماً إرادة سياسية تفرضها النخب السائدة. منذ 1868 فرضت" الحكومة المستنيرة" (الميجي) الحداثة على اليابانيين التقليديين بطبيعتهم . غداة الحرب العالمية الثانية فرض الاحتلال الأمريكي على اليابان دستور 1946 العلماني الذي فصل بين الدين والدولة بتحويل الإمبراطور ، سليل الآلهة، إلى رمز يملك ولا يحكم. كان ذلك صعباً على الشعب الياباني. لكن بعد الاستقلال في 1951 لم يغير اليابانيون دستورهم المفروض بل تكيفوا معه ولازالوا لأن نخبهم أرادت ذلك. لم يهضم الشعبان الهندي والصيني تحديد النسل الصارم الذي فرضته عليهما نخبتاهما. لكنهما تكيفا معه على مضض. أما الحداثة في الغرب فقد ُفرضت بالثورات على شعوب لم ترغب فيها. لكنها شيئاً فشيئاً استبطنتها بالإعلام والتعليم والخطاب الثقافي. والمسار نفسه حدث في تركيا. ألغي مصطفي كمال أتاتورك الخلافة وفرض العلمانية والتغريب على شعبه. وبعد حوالي 80 عاماً تشربت النخبة الإسلامية التركية القيم العلمانية والغربية. وها هي تحاول تسويقها لباقي الإسلاميين بدءاً بحماس الفلسطينية. المسار ذاته تكرر في تونس ، الحداثة التونسية غدت مكسباً لا يجادل فيه إلا الإسلاميون المتطرفون.
دشنت الحداثة التونسية ميلادها بتحديث شرط المرأة ، أكثر المحرمات التي يرفضها الوعي الإسلامي التقليدي الذي تشرب على مر القرون دونية المرأة وعداءها . ألغي قانون الأحوال الشخصية تعدد الزوجات والطلاق الأحادي الذي غدا حقاً للزوجين يفصل فيه القضاء، ورد للمرأة ، لأول مرة في تاريخ الفقه الإسلامي، أهليتها المدنية فغدت قادرة على اختيار شريك حياتها. كما أعطاها حق التصرف في جسدها بالتحكم في الإنجاب عبر الحق في الإجهاض وفي تحديد النسل. هذا الأخير، الذي يعتبره المتطرفون الدينيون كالغنوشي "وأداً معاصراً"، كان العامل الرئيسي في تسريع التنمية التي جعلت من تونس اليوم البلد العربي الوحيد بين البلدان العشرة المرشحة للدخول إلى نادي البلدان المتقدمة.
مثلت قوانين الأحوال الشخصية نقطة حاسمة في تطور الإسلام التونسي المستنير منذ خير الدين، الطاهر الحداد،مؤلف "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، الطاهر بن عاشور،مؤلف تفسير"التحرير والتنوير" وابنه محمد الفاضل بن عاشور، "مؤلف" مجلة الأحوال الشخصية التي أملى معظم موادها على كاتب هذه السطور عندما كان طالباً في الحقوق وكان هو أستاذه في فلسفة التشريع الإسلامي. حتى ذلك التاريخ كان الفقه التقليدي يعتبر المرأة قاصرة أبدية وناقصة عقل ودين. أما الإسلام التونسي فقد سواها بالرجل إلا في الميراث للأسف. لأن الملك فيصل ، كما كشف ذلك مؤخراً محمد المصمودي وزير خارجية بورقيبه، هدد هذا الأخير بقطع العلاقات الدبلوماسية وتحريض فقهاء العالم الإسلامي على تكفيره!
في منتصف السبعينات أصيبت قاطرة الحداثة التونسية بعطل بسبب مرض بورقيبه واحتدام الصراع على خلافته. كانت تلك فرصة سانحة للاتجاه الإسلامي التقليدي لاسترداد أنفاسه فأخذ ينظم نفسه للانقضاض على الحداثة. في 1987 كان على وشك تحقيق هدفه. ُيقال أن انقلابه العسكري كان مبرمجاً ليوم 8/11/1987لكن رئيس الحكومة آنذاك، زين العابدين بن علي، صدفة أو تخطيطاً؟، أعلن قبل ذلك بيوم عزل الحبيب بورقيبه، أو بما هو أدق، إحالته على المعاش في مسقط رأسه محاطاً بكل مظاهر التكريم التي تليق بمؤسس الحداثة التونسية. وهو حدث نادر في حوليات انتقال السلطة في العالم العربي الإسلامي. وهكذا استأنفت قاطرة الحداثة التونسية مسارها بسرعة وتماسك أكبر في المجالات الاقتصادية، الاجتماعية،التربوية والدينية.
الأطروحة المركزية للحداثة التونسية من بورقيبه إلى بن علي، هي القبول بمبدأ الواقع، أي التجاوب مع متطلبات الحداثة بتناغم مع الإسلام التونسي التنويري القائم على اجتهاد بدون ضفاف،عملاً بقول الشاطبي "حيث المصلحة فثم شرع الله". وهكذا ففي 1993 صدر قانون فريد في العالم العربي ألغى ركيزة المجتمع البطريقي:سيطرة الرجل المطلقة على المرأة. لم يعد الرجل هو رئيس العائلة وليس للمرأة والأبناء إلا السمع والطاعة. بل بات الزوجان كلاهما يديران العائلة بشراكة متساوية"في نطاق الاحترام المتبادل". منذ 2003 تبنت مدونة الأحوال الشخصية المغربية هذا القانون التونسي ، وأول الغيث قطر...
تعتبر تونس أن "حقوق المرأة جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان". أيّ احترام لحقوق الإنسان إذا كانت المرأة ،كما هي في أرض الإسلام، نصف رجل في الشهادة والميراث وصفر مواطن محرومة،مثل غير المسلم، من المواطنة الكاملة أو المواطنة أصلاً كما في كثير من البلدان؟ التشريع رافعة أساسية لتحديث شرط المرأة. لكنه يبقى حبراً على ورق إذا لم يواكبه دمجها في الحياة العامة. تمثل المرأة في تونس حالياً ثلث القوة العاملة. وهي نسبة لا وجود لها إلا في بلدان الاتحاد الأوربي. وتحتل 11% من مقاعد البرلمان و21% من مقاعد البلديات. إذا كانت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل،في أرض الإسلام، فإن 24%من قضاة تونس نساء...
في حين يجوب ثلث الأطفال في العالم العربي الشوارع حفاة بحثاً عن لقمة العيش، فإن نسبة التمدرس في تونس بلغت 99% في مدرسة حديثة تعلم التلميذ كيف يتعلم مدى الحياة. وهكذا فربع السكان، في المدارس والجامعات ونصف مليون تونسي، من 10 ملايين، حاصلون على شهادات عليا.
أما التعليم الديني فقد عرف إصلاحات عميقة متلاحقة منذ التسعينات. لم يعد للجهاد ذكر في المناهج إلا في نص وحيد للمستشار سعيد العشماوي يتحدث فيه عن مفهوم الجهاد الصوفي "جهاد النفس الأمارة بالسوء". واختفي منه ضرب الزوجة،إذلال "الذمي"، كراهية غير المسلم،جغرافية تقسيم العالم إلى "دار الإسلام"و"دار الكفر"و"دار الحرب" وكل ما يمت إلى التعصب والعنف بصلة. اختفت القراءة الحرفية للنص الديني المؤسس، القرآن والسنة، وهي القراءة التي تقود إلى السلفية [= عبادة الأسلاف] والإرهاب. والحال أن هذه القراءة مازالت سائدة في المدرسة الدينية في معظم البلدان الإسلامية حيث يدرس الصغار منذ نعومة أظفارهم رجم الزانية، ودق عنق المرتد، والجهاد ضد الكفار ... وقد ألغت الجزائر،بطلب مني، سنة 2005 تدريس الرجم والجهاد. وألغت ليبيا في نفس التاريخ تدريس الجهاد وآيات السيف. أما في الجامعة الزيتونية ، المتخصصة في الدراسات الدينية على غرار الأزهر، فقد عرفت تحديثاً مزدوجاً: تحديث طرق التدريس ومواد الدراسة، فهي أول جامعة دينية إسلامية يدرس فيها الطالب الظاهرة الدينية بالعلوم الحديثة، الحاملة للفكر النقدي، مثل تاريخ الأديان المقارن، السوسيولوجيا الدينية، الإنثروبولوجيا الدينية، علم النفس، اللسانيات والفلسفة الحديثة الكفيلة بزرع ملكة المساءلة في العقول الشابة لتغدو قادرة على تمرير جميع الأطروحات والإدعاءات على محكمة العقل لتفصل في درجة شرعيتها العقلانية.
مصالحة الإسلام التونسي مع حقوق المرأة وقيم الحداثة وفي مقدمتها العقل سيكون لها تأثير عميق خلال جيل يجعل كل محاولة للعودة إلى الوراء صعبة بل ربما مستحيلة خاصة إذا تجذرت الشراكة الأوربية المتوسطية التي تمثل أداة هائلة لنشر وتعميم قيم الانفتاح والحداثة. لم تكن هذه الإصلاحات الجوهرية ممكنة لولا إصلاح الاقتصاد منذ التسعينات بدمجه تدريجياً في الاقتصاد العالمي كما تتطلب العولمة ذلك.كل إصلاح للاقتصاد يعني أمراً أساسياً واحدا:دمجه في الاقتصاد العالمي الموحد . وكل اقتصاد يعجز عن الاندماج أو يأباه يختنق. يحقق الاقتصاد التونسي منذ التسعينات معدلات نمو 5% سنوياً، كل إصلاح اقتصادي يترك ضحايا رواءه. وهكذا وعت النخبة التونسية، التي رفعت منذ التسعينات شعار"اقتصاد مندمج ومجتمع متضامن" إنشاء مؤسسة لتنظيم هذا التضامن "صندوق التضامن 26/26"الذي قلص ما تحت عتبة الفقر من 13% إلى 4,5 %حسب إحصاءات الأمم المتحدة. نجاح هذه التجربة الفريدة في العالم، جعل الأمم المتحدة تتبناها، باقتراح من تونس، سنة 2002 بالمصادقة بالإجماع على إنشاء"الصندوق العالمي للتضامن". لتقليص الفقر الذي يكابده حوالي نصف سكان العالم: 3 مليار.
مراكمة الحداثة التونسية للإصلاحات خلال خمسين عاماً غدا يساوى ثورة إصلاحية هادئة من شأنها إغراء النخب الإصلاحية في أرض الإسلام باستلهامها .
ما هي المخاطر التي تهدد الحداثة التونسية؟ ضعف المعارضة الحديثة التي يمكن أن تضطلع في الوقت المناسب بالتداول على الحكم مع الحزب الحاكم. هذه المعارضة مازالت بكل مجموعاتها، المعترف بها وغير المعترف بها، نخبوية كما قال محمد حرمل ولا تمثل إلا بعض مئات من المناضلين كما اعترف بكل نزاهة البروفسير مصطفي بن جعفر، رئيس أحد أحزاب المعارضة المعترف بها. ما العمل؟ منذ عشر سنوات اقترح الرئيس بن علي على المدى البعيد، 30 عاماً، انقسام الحزب الحاكم إلى حزبين، ليبرالي واشتراكي ديمقراطي، لتأمين التداول الديمقراطي على الحكم. لكن تسارع التاريخ جعل هذا الرهان راهناً. بعد التقدم الذي حققه الإخوان المسلمون في التشريعيات المصرية الأخيرة والفشل الذريع الذي منيت به الأحزاب الديمقراطية ، رأى باحث فرنسي في العلوم السياسية مختص في مصر في الأسبوعية "الاكسبريس" أن الحل الذي قد يعيق استيلاء الإسلاميين على الحكم هو انقسام الحزب الوطني الحاكم لتأمين التداول وامتصاص جناحه المعارض للمعارضات الهامشية.
تونس أيضاً، ولكن بدرجة أقل بكثير، معرضة للخطر ذاته. معارضتها الدينية بقيادة راشد الغنوشي "طالبانية" كما أسماها المؤرخ محمد الطالبي (الأسبوعية جون أفريك 25/12/2005، انظر ترجمة الحديث في "شفاف الشرق الأوسط"). وصف الغنوشي وحركته بالطالبانية حقيقة لا مجازاً."النهضة" تحمل مشروع مجتمع جهادي في الداخل والخارج. يشكل خطراً وجودياً لا على الحداثة التونسية وحسب بل وأيضاً على تونس كوطن ودولة. احكموا بأنفسكم: إقامة دولة دينية فاشية تفتش في ضمائر رعاياها لـ"منع الزواج بالفسقة والملحدين وأعداء الإسلام عامة" (راشد الغنوشي"الحريات العامة في الدولة الإسلامية"ص 54)؛ تكفير معارضة هذه الدولة التفتيشية:"إن طاعة المسلم حكومته في هذه الحالة [عندما تطبق الشريعة] ليست طاعة لشخص الحاكم بل طاعة لصاحب الشريعة يستحق عليها ثواباً، وإن تمرده على تلك الأوامر الملتزمة بدستور الدولة، الشريعة، يجعله آثماً.(نفس المصدر ص 105).الجهاد الخارجي لا يقل فظاعة وخطراً عن الجهاد الداخلي:"الإسلام (...) يأبي عليهم [المسلمين] أن ُيستغفلوا فيقبلوا، وفيهم عين تطرف وقلب ينبض بالتوحيد، أن يعمل أعداؤهم بالليل والنهار على تطوير أسلحة الدمار الشامل واجدين العون من قادة النظام الدولي،بينما هم راضون بهديل الحمام وزقزقة العصافير تنشد أنشودة السلام بينما الصياد على مقربة منا يبرى سهامه ويحكم تصويبها. لماذا تتسلح الهند وإسرائيل بالقوة النووية (...) ويمنع ذلك على باكستان وإيران ومصر والعراق؟ هل لذلك تفسير إلا أن الإسلام وحده ُيراد له أن يعيش في غابة من السباع بلا مخالب على حين أن المسيحية والكونفوشوسية والهندوسية والبوذية واليهودية تكدس تطوير أسلحة الدمار الشامل وتصوبها إلى عواصم المسلمين"(راشد الغنوشي، الأسبوعية المغربية"الراية"الإسلامية 19/4/1994).وصفة مثالية لحرب الأديان العالمية ! منذ أسابيع كتب في القدس العربي باسم أسامة أبو راشد يناشد الحركات الإسلامية أن تتخلي عن تحفظها من إقامة علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية لتسهيل استيلائها على السلطة بالانتخابات. لماذا؟ لكي يتمكن العالم العربي، تحت حكم الإسلاميين من تكوين قوة عسكرية قادرة على محاربة إسرائيل.
التاريخ يتأتىء أحياناً. لنتصور تونس محكومة بهذا المشروع الجهادي:حرباً أهلية في الداخل وحصاراً من الخارج على غرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم المهددة بالانفجار من الداخل وبالانهيار تحت ضربات حرب خارجية تبدو محتملة !!.