الحرب على الإرهاب ليست حرباً أهلية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
دأب أنصار النظام البعثي الساقط ولسنوات عديدة قبل سقوطه يحذرون الغرب من "مغبة" إسقاط صدام حسين، مدعين أنه الحاكم الأنسب للشعب العراقي الذي لم يعرف ولم يمارس الديمقراطية طوال تاريخه. وحجة هؤلاء أن الشعب العراقي يتكون من عدة مجموعات أثنية ودينية وطائفية متصارعة، والشيء الوحيد الذي حافظ على وحدته هو النظام الديكتاتوري وحكمه بالقبضة الحديدية. وإذا ما أسقط النظام البعثي فستغرق البلاد في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر وستصل نيرانها إلى دول الجوار وربما إلى أبعد من ذلك. هذا ملخص ما كان ومازال يروج له أعداء الديمقراطية في العراق وفي المنطقة. طبعاً يحاول هؤلاء نفي دفاعهم عن صدام، إذ دائماً يبدؤون بنقد خجول لصدام ونظامه ووصفه بأنه نعم، كان دكتاتوراً أرعن، ولكنهم في نفس الوقت يبررون جور صدام بأنه جزء من ثقافة هذه الشعوب وأنه ليس الدكتاتور الوحيد في المنطقة التي صارت غابة تعج بالدكتاتوريين المتوحشين.
واليوم، 20 آذار/مارس، ونحن نحيي الذكرى الثالثة لبدء الحرب على النظام البعثي الجائر والتي حطمت الأرقام القياسية في قصر مدتها، حيث أسقطت النظام بسرعة فائقة، فوق ما كان يتصور أشد المتشائمين بها، على أن النظام سيقاوم ستة أشهر على الأقل، وأنه سيلحق خسائر هائلة بالقوات الغازية!! ولكن الذي حصل هو سقوط النظام ووقوع بغداد بأيدي القوات الأمريكية بعد ثلاثة أسابيع فقط من بدء الحرب. وبذلك فقد أثبت النظام البعثي هشاشته وأن جيشه "العقائدي" الذي أدعى أنه رابع جيش في العالم، لم يكن إلا نمر من ورق. ومنذ ذلك اليوم وأعداء العراق الجديد يواصلون دق طبول الحرب الأهلية، مستغلين الجرائم البشعة التي ترتكبها فلول البعث الصدامي وحلفاؤهم الزرقاويون من قتل الأبرياء على الهوية الطائفية وتخريب المؤسسات الاقتصادية واصفين لها بأنها حرب أهلية، طائفية بين السنة والشيعة. وبذلك فهم يحاولون إعطاء المصداقية لادعاءات الإرهابيين بأنهم يدافعون عن حقوق أهل السنة في العرق، وأنهم يحاربون قوات الاحتلال و"المتعاونين" معهم من الشيعة "الروافض" والأكراد.
ليس غريباً أن تصدر دعوات الحرب الأهلية هذه من أنصار النظام الساقط، والذين عرفوا بمثقفي الكوبونات النفطية، لأنهم خسروا مكرمات سيدهم وولي نعمتهم صدام حسين الذي انتهى في حفرة حقيرة. ولكن أن يأتي وصف ما يجري بـ(الحرب الأهلية) من زعيم عراقي مثل الدكتور أياد علاوي الذي عقدنا عليه الآمال أن يقود الجبهة العلمانية الديمقراطية في مواجهة المد الإسلامي الطائفي، هذا أمر محيِّر للغاية. أعتقد أن الدكتور علاوي لم يكن موفقاً في تصريحه لبي بي سي صباح الأحد 19/3/2006 عندما قال: "نحن نفقد يومياً بمعدل ما بين 50 إلى60 في مختلف أنحاء البلاد، إن لم يكن أكثر, فإذا لم تكن هذه حرب أهلية، فالله يعلم ما هي الحرب الأهلية". إن هذا التصريح من شخصية قيادية بوزن الدكتور علاوي عبارة عن موسيقى في آذان الإرهابيين، توحي لهم بأنهم نجحوا في إشعال الحرب الأهلية، كما يتمنون ويخططون.
نعم، نحن نفهم الصراع الدائر بين الدكتور علاوي وبين الجعفري وغيره من الزعماء الجدد، حول المناصب العليا في الدولة، ولكن يجب أن لا يصل هذا الصراع والمنافسة إلى حد التضحية بمصلحة الشعب ويجر البلاد إلى الحرب الأهلية الحقيقية. فالدكتور أياد علاوي معروف بمقارعته للنظام الصدامي الجائر لما يقارب الثلاثة عقود، وتعرض إلى محاولة الاغتيال في لندن من جراء ذلك. وبعد سقوط النظام الدموي كان أول رئيس للحكومة المؤقتة أيام الحاكم المدني لقوات التحالف، بول بريمر. ولا أحد ينكر دوره في مقارعة الإرهاب فترة توليه رئاسة الحكومة المؤقتة وما قام به من دور محمود في شن الحرب على أوكار الإرهابيين في الفلوجة التي حولوها إلى إمارة طالبانية مصغرة كقاعدة ينطلقون منها إلى بقية العراق والدول المحيطة فيما بعد.
فهل حقاً ما يجري في العراق الآن هو حرب أهلية، كما قال الدكتور علاوي؟
الجواب في رأيي، كلا، لأن الحرب الأهلية لها مواصفات خاصة التي لا تتوفر في الصراع الدموي الجاري في العراق. وكنموذج من الحرب الأهلية تلك التي حصلت في لبنان عام 1975 ولمدة 15. الحرب الأهلية تعني حرباً بين مكونات شعب ما، الأثنية والدينية والطائفية والسياسية... الخ. أما ما يجري في العراق فهو صراع بين زمرة محدودة من فلول البعث الساقط وحلفاؤهم الوافدين من خارج البلاد، يشنون حرباً إرهابية ضد جميع مكونات الشعب العراقي بدون تمييز. أكرر (زمرة ضالة ضد جميع مكونات الشعب العراقي بدون تمييز).
فما أن انتهت الحرب يوم 9 نيسان 2003 بسقوط النظام الجائر، حتى بدأت المرحلة الثانية منها وهي الحرب على الإرهاب. فبينما يدعي فريق من الشامتين بأمريكا أنها أخذت على حين غرة ولم تتوقع شراسة هذه المواجهة مع الإرهابيين، يدعي فريق آخر أن الإدارة الأمريكية خططت مسبقاً لجذب الإرهابيين من مختلف مناطق العالم وجمعهم في مكان واحد وهو العراق، لشن الحرب عليهم. وهنا التناقض. فالذي حصل هو أن شاءت الأقدار أن يتحول العراق إلى ساحة حرب بين الحضارة المتمثلة بجميع قوى شعبنا الخيرة وحلفائها من قوات التحالف بقيادة أمريكا من جهة، ضد الهمجية الإرهابية المتمثلة بفلول البعث الصدامي وحلفائهم الزرقاويين من جهة أخرى.، وهذا تحصيل حاصل لعملية إسقاط الفاشية في العراق. فكل خطوة تهيئ وتقود إلى خطوة أخرى لاحقة، وهذه العملية تسير وفق خطة اللاعودة لسحق الإرهاب العالمي بشكل نهائي.
نؤكد أن ما يجري في العراق ليس حرباً أهلية أو طائفية، بدليل أن ما هذا القتل العشوائي حصل ويحصل ضد أبناء السنة في مدينة الرمادي وغيرها من المناطق السنية على يد الإرهابيين مما أدى إلى نهوض العشائر السنية ضد الإرهابيين في مناطقهم. فالحرب ليست بين السنة والشيعة كما يتوهم البعض، بل هي بين الإرهابيين وبين الشعب العراقي ككل. لذا فما يجري في العراق لا تنطبق عليه مواصفات الحرب الأهلية مطلقاً.
نعم، يحاول أعداء شعبنا إشعال فتنة طائفية بين السنة والشيعة، وهذا هدفهم وقد سعوا لتحقيقه منذ سقوط النظام الفاشي بمختلف الوسائل، كما جاء في رسائل الزرقاوي حيث حرض هذا الإرهابي على تحريك السنة "المغفلين" على حد تعبيره، ضد الشيعة!! ولكنهم فشلوا. فهؤلاء الإرهابيون يتصرفون كالصبيان بدون وعي، وقد يزيدون من آلام الشعب العراقي، ولكن في نهاية المطاف لا يقوون على إيقاف عجلة التاريخ، فالهزيمة ستلحق بهم حتماً، خاصة وقد حسم الشعب موقفه من الديمقراطية بذهابه إلى صناديق الاقتراع ثلاث مرات في عام واحد، متحدياً جميع تهديدات الإرهابيين. كذلك قرر أهل السنة المشاركة الفعالة في العملية السياسية واستخدام صناديق الاقتراع لتحقيق مصالحهم كما ظهر ذلك من مشاركة أكثر من 80% من أبناء مدينة الرمادي (السنية) في الانتخابات الأخيرة.
أجل، من المؤسف القول، أن الدكتور أياد علاوي أخطأ في فهم مزاجية الغالبية العظمى من الشعب العراقي. فراح بشكل غير موفق وبتكرار، يمتدح حزب البعث الساقط ويدافع عنه وعن تاريخه الدموي، رغم اعترافه أن حزب البعث، كتنظيم وآيديولوجية قد انتهى إلى الأبد ولا بديل عن النظام الديمقراطي. ولكنه رغم ذلك كرر سخطه على (برنامج اجتثاث البعث)، محاولاً تبرئة البعث من جرائم النظام الساقط وإلقاء تبعات جميع تلك الجرائم على صدام حسين وحده، وهذا غير صحيح، فكما ذكرنا مراراً أن صدام هو نتاج حزب البعث. وكان الدكتور علاوي يأمل من دفاعه عن حزب البعث ليكون الوريث الشرعي لهذا الحزب وضمه إلى صفوف حزبه (الوفاق الوطني) الذي هو بالأساس من البعثيين المنشقين من البعث الصدامي، عدا الملطخة أيديهم بدماء العراقيين. كما راح ينتقد حل الجيش والمؤسسات الأمنية الاستخباراتية وقوات الشرطة وغيرها من مؤسسات البعث الفاشي، علماً بأن حل الجيش وغيره من المؤسسات الأمنية الحساسة كان بتخطيط مسبق من قبل صدام حسين، لعلمه أنه لا يمكن لقواته مجابهة قوات التحالف في حرب نظامية، بل خطط للتحضير فيما بعد سقوط نظامه، يعني الإرهاب عن طريق حرب العصابات والتخريب، وهذا ما كان، كما اعترف به أعضاء قياديون معتقلون للمحققين الأمريكيين ولدي بحث من معهد أمريكي بهذا الخصوص.
هذا الدفاع من قبل الدكتور علاوي عن مؤسسات حزب البعث لم يكن موفقاً ولا سليماً ولم يكسبه شعبية أبداً، بل كسبته سخط الأغلبية العظمى من الشعب العراقي، ولذلك تراجعت قائمته في الانتخابات الأخيرة، كما تعرض له من اعتداء مهين عند زيارته للنجف قبل أشهر. بطبيعة الحال، نحن ندين العدوان على أية شخصية سياسية، ولكن كشفت تلك الحادثة المؤسفة عن قراءة الدكتور علاوي الخاطئة لمشاعر العراقيين ومزاجيتهم الذين اكتووا بحزب البعث والذي صار مجرد ذكر اسم البعث يثير الرعب والتوتر في نفوس العراقيين. فورقة الدفاع عن البعثيين ورقة خاسرة. كذلك من الجدير بالذكر أن (برنامج اجتثاث البعث) ليس انتقامياً، بل هو لصالح البعثيين الذين يرغبون في المشاركة في بناء العراق الجديد. فلم يشمل الاجتثاث 99% منهم كما تفيد التقارير. ومعظمهم أعيدوا إلى وظائفهم. وحتى العسكريون الذين أحيلوا على التقاعد يستلمون رواتب تعادل مئات المرات لرواتبهم عندما كانوا في الجيش في العهد البائد.
كما أود التوكيد أني لست من الذين يدعون للثأر والانتقام من أبرياء لمجرد انتماءاتهم في الماضي. فهناك الألوف من البعثيين الذي تركوا النظام دون أن يتلوثوا بجرائمه وأعيدوا إلى وظائفهم، كما بينت أعلاه. وأنا شخصياً أتمتع بصداقة حميمة مع شخصيات فذة احتلت مناصب عالية في نظام صدام ولكنهم تركوا النظام، سواءً قبل سقوطه أو بعده، ولم تتلوث أيدهم بأية جريمة وكانوا يعتقدون بأهداف الحزب المعلنة عن حسن نية، ولما تأكدوا من كذب العملية تركوا النظام وانحازوا إلى الشعب. وليس من الحكمة أن نفرط بهذا الكم الهائل من أصحاب الخبرات من العراقيين، لسبب أنهم كانوا منتمين إلى حزب البعث في فترة من حياتهم. فهناك من هو مرشح لقمة السلطة في العراق الجديد وكان بعثياً. كما ويجب أن لا ننسى أن فلادمير بوتين كان رئيساً للمخابرات السوفيتية، كي جي بي، أيام الاتحاد السوفيتي والآن هو رئيس لجمهورية روسيا الاتحادية الديمقراطية.
خلاصة القول، أن ما يجري في العراق من صراع دموي هو ليس حرباً أهلية، بل حرب بين جميع مكونات الشعب العراقي ومعها القوى الخيرة في العالم من جهة، وبين الإرهاب العالمي المعادي للديمقراطية والحضارة الإنسانية من جهة أخرى