دمشق، قامشلي.. وربيعٌ آخر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
1
لن يأتيكَ الربيعُ، مُختالاً ضاحكاً..، سيتضرّجُ منه النوروزُ، أوانَ الزهر، بدَم قومكَ على مذبح آذار الإنقلابيّ، العروبيّ..، سيعصفُ ريحُ الحقدِ بالورود الزاهيّة الألوان؛ ريحٌ أحَديّ لا فضاءَ لديه إلا لونه الأسوَد، يبتدهها كخطفِ مناجل ٍ ويُخلفها كدَرْس ِ رمال. يا غريباً، ففديتُ تباريحَ أشجانه: أفي كل دورةٍ من الزمان لنا موعدٌ مع آذار قاتل ٍ، يجتمعُ في كل جارحة منه دمُ الكردِ؛ آذارٌ كابوس، تهيم في دجاه الخطى الخفيّة لأطياف ضحايانا؟
أينَ منا، إذاً، طريقٌ يقينٌ إلى ألق المعيّة الغابرة لأترابنا، رفقتنا، إخوتنا، بيوتنا، جنائننا، أزقتنا، جبلنا، نهرنا، غوطتنا، تربتنا؛ كي نرددَ مع صوفيّنا الدمشقيّ، " العفيف "، الموسومُ بإسمه الحَيّ المجاور لحيّنا الكرديّ: " يا بائعَ الموتِ، مُشتريه أنا ".
2
هي ذي مثابة ٌ آذاريّة اخرى.
ليسَ لنا أن نسلوَ فيها، بطبيعة الحال، وضعَ الإسم في عين المسمّى: نوروز دمشق / 1986؛ ربيع القامشلي / 2004؛ إسمان لشقيقتيْن مولودتيْن من رحم واحدٍ؛ تقادَمَ عهدُهُ الإسطوريّ، وفرُط قِربهُ الزمنيّ بفاصل يُطابق الثمانية عشر عاماً؛ بينهما ما كان ثمّة مجاز أو حجابٌ؛ اللهمّ إلا الحضور الغائب للشقيقة " حلبجة " ذات الربيع السادس عشر من جرحها المفتوح.
3
نوروزُ دمشق، إذاً.
فجرٌ غامضٌ أستعيدُهُ نوعاً، مغسولاً بالندى ومضمّخاً بفوْح ٍ أليفٍ ليقظة جنينة الدار، الكسلى؛ أصواتُ طبل وزرناية، تتحدّر من الجبل الأكثر حيويّة؛ الرامش على عين مغارته السوداء أهدابَ شمس ٍ صديقة؛ أصواتٌ تصدى بإيقاع مُعيّدٍ ولحن شجيّ، كأنما تقولُ للمُحتفل: " ذبْ طرباً، غِبْ سُكراً ! ". هاهي جادّة " أسد الدين شيركو "، ترتجّ جوانبها بخطى المعيّدين؛ جمْعُ لجْبٌ يموجُ بألوان شتى، يتحرّكُ ببطء نحوَ صفّ من الحافلات المتناعسة، المتبدي تحت ألق الصبح كعَقدٍ نضِر، في إمتداده من ساحة " شمدين آغا " إلى مشفى " إبن النفيس ". بيْدَ أنّ عيناً اخرى، أكثر سواداً من الحقدِ، كانت ترصُدُ الجموعَ المتهيئة لركوب الحافلات التي ستتوجّه بهم إلى الغوطة؛ ضاحية دمشق الخضراء، المتحوّلة مساكبها المُعدّة لإستقبال نوروز ذلك العام، إلى بركة من المياه إثرَ فتح السواقي عليها: هكذا إبتدأ الأمنُ حملته على الربيع الكرديّ، بمقتضى القرار الفوقي، العليّ القدير. لتتدفق على الحيّ من ثمّ، سياراتُ " بيجو ستيشن "، بيضاء، ذوات العلامات المُرعبة. يندفع من تلك المركبات أربابُ القمع، مُستهلين مهمتهم بمصادرة أوراق سائقي حافلاتنا، ملتفتين بعدئذٍ نحونا؛ نحنُ الجموع الذاهلة لوقع المفاجأة، ليُرهبوننا كالمعتاد كي نقرّ منصاعين لذل القرار الشوفيني ذاك، القاضي بمنع إحتفالات النوروز؛ وهي الفسحة الضئيلة من الحريّة، التي كانت بالكاد مُتاحة بعُد لكرد سوريّة.
الجموعُ الواجمة تفيق رويداً من وهلة الصدمة الأولى؛ توقظها صيحة ٌ كنفير القيامة: " هَرْ بجي نوروز " ( عاش نوروز )؛ تمورُ الجبالُ بصدى هدير مُرددٍ نواطق كل حرْفٍ من تلك الصيحة. الحماسة تعصف على الأثر، خاصة ً حينما إنبثق من بين الجموع فتىً أغرّ، في يده عصا معقودٌ فيها شرائط ملونة بألوان الكرد الحميمة، يلوّح بها كرايَة " كاوا " الحدّاد، المُخلّص؛ كبارق خاطفٍ من سيف " فريدون "، زاهق الشرّ ودامغهُ؛ كشارق من نار نوروز، الخالدة. هي ذي صيحة اخرى، بالعربيّة هذه المرّة: " إلى القصر الجمهوري، يا شباب ! "؛ صيحة تخلّف صمتاً مسكوناً برهبة الفكرة وجرأتها. لم يدم الصمت أكثر من ثوان، فما لبث أن توارى إثر إلحاف آخرين بصيحاتٍ مماثلة، واتتها الجموعُ بزحف حثيثٍ عبر الشارع الرئيس؛ قِبلتهُ الحَرَم المقدّس لصاحب القرار، العليّ القدير. المسيرة، إذاً، تواصلُ تقدمها خلل " الصالحيّة "، شبه المُقفرة بحكم يوم الجمعة؛ يومٌ لا ترامُ مُداومته، ملأه الكردُ بغضبتهم العارمة، مُخلفين الذهولَ أينما تولوا وصدىً من هتافهم: " بالروح بالدم، نفديكَ يا نوروز "؛ هتاف يلتبسُ على شوام المدينة المتجمهرين بفضول داهش؛ فيظن بعضهم أنّ " نوروز " إنْ هوَ إلا إسم زعيم كرديّ ما؛ على العادة التي أصلها فيهم حكمُ عبادة الفرد، المديد !
طرفة ٌ هي، أمْ مأساة؛ تحيلنا إلى حقيقة تاريخية يجهلها الآن ساكنو العاصمة الأقدم في سجل البشر، ويذكرها بالمقابل مؤرخها من القرن التاسع عشر: " ومن أيام التنزه العمومية وقتُ النيروز، ويبتديء في 12 آذار، فيخرج الناس في أيامه باكراً إلى البراري والبساتين المجاورة ويرجعون بعد الغروب بوقت قصير " _ من كتاب: الروضة الغناء في دمشق الفيحاء، لمؤلفه نعمان أفندي قساطلي _ هو إذا تقليدٌ شعبيّ، بدأه ورسخه السلطان الكردي صلاح الدين، في الشام ومصر؛ إلى أن أتى دعاة العروبة في ستينات القرن المنصرم، فنمّ إبطاله ثمّ إستئصاله من الذاكرة.
4
أكثر من مفارقة شهدها نوروز دمشق؛ منها أنّ أصحاب الجسارة المشهودة، المعرّفين بـ " الزكَرتيّة "، في التعبير الشامي، هم من أججَ الغضب والإحتجاج؛ فيما ترددَ العديدُ من المثقفين والسياسيين، فراحَ بعضهم يُقدّمُ رجلاً ويؤخرُ الثانية، هامساً بضرورات الحكمة والتعقل وعدم التطرّف؛ جسارة رجوليّة منزهة عن الإدعاء، إفتتحت المواجهة قدّام القصر الجمهوري بوابل من الحجارة التي تهاطلت على أفراد الحرس، كغيثٍ مُبشر بموسم الغضب الكردي، الآتي؛ جسارة المرأة الكردية، التي تجلت كخطيبة مفوّهة أو مفاوضة جريئة، مُستلهمة ً تقاليد بنات قومها في شدائد الأمور. ولا يمكن نسيان ذلك الموقف المؤثر، حينما تقدّمت الصفوفَ إمرأة مسنة، بزيّها الكردي الجميل وبعربيّتها الهجينة، فحاذتْ حواجزَ حراس القصر، غير مبالية بالإطلاقات الناريّة الكثيفة، هاتفة ً مُجهشة: " نريدُ نوروز ! ".
5
هوذا ربيعٌ آخر.
موسمُ الغضب الكرديّ، حل حقاً. ومن غرائب الإتفاق أن يكون " وقت النيروز " الدمشقي، المصاقب يوم 12 آذار، هو اليوم نفسه الذي ستنطلق منه شرارة ربيع القامشلي؛ وأن يكون شهيدُ نوروز دمشق، الفتى سليمان آدي، من مواليد " جرنكي "، في ضواحي القامشلي؛ مدينة جكَر خوين ومحمد شيخو، التي أبصرتْ عيونُ العالم من خلال إنتفاضتها، مأساة َ شعبٍ كامل ٍ؛ التي كانت ذلك الهلال، فنما بدراً كاملاً، ليضيء ليل سوريّة، وكان شهداؤها نجوماً نهتدي بهم في هذا الليل:
" اولئك هُمو، طوبَى لهمُ
{ وربطنا على قلوبهم إذ قاموا }
للغرباء الشهداء، طوبى
المنازلُ ترابط، والطواغيتُ تطوى ".