الأمة الهابطة والفن الهابط
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نتابع اليوم بحثنا في ظاهرة غناء جيل نانسي عجرم .. هذه الظاهرة التي تُركت لنقاد المجلات الفنية والصفحات الفنية في الصحف الرخيصة، دون أن يتنازل أحد من نقاد الثقافة العربية على التصدي لها، وشرح أبعادها، وأسباب وجودها، وكأن الأمر لا يعينيا استرخاصاً منا لهذه الظاهرة المهمة في حياتنا. في حين أن هذه الموجة تجتاحنا في الفضائيات وفي الشوارع وفي البيوت وفي المدارس وفي كل مكان من العالم العربي، وتؤثر في حياتنا، وتشكّل ذوق شبابنا وشاباتنا الفني.
كتب كثير من نقاد الثقافة العربية المعاصرة التقليديين، يهاجمون أسلوب جيل نانسي عجرم في الغناء، واعتبر معظمهم أن ما يتم تقديمه فن رخيص وهابط. وبرر البعض هبوط هذه الفن ورخصه إلى هبوط الحياة العربية عموماً ورخصها. وكان الملحن والمغني المصري الشهير الشيخ إمام عيسى يقول: لكل زمان فنه (انظر كتابنا: "الأغاني في المغاني" بجزئيه). وما الفن إلا انعكاس لهذه الحياة، تصديقاً لكلام ابن خلدون القائل : "إن الغناء أول ما ينهار عندما يصاب المجتمع بالتدهور والتخلف". في حين يقول برتولد برخت الكاتب المسرحي الألماني: "الفن ليس مرآة تعكس الحقيقة، ولكنه مطرقة تشكّل الحقيقة". وتمَّ النظر النقدي إلى هذه الأغاني بالمنظار الأخلاقي الديني المثالي والقبلي التقليدي. في حين أن الفن عموماً لا يخضع لميزان الأخلاق الدينية أو الاجتماعية. بل إن هناك من يعتبر "الفن هو الخيال الجنسي" كما قال جورج ناثان الناقد المسرحي الأمريكي. ولعل هذا ما أدركه جيل نانسي عجرم. فتماثيل النحّاتين اليونانيين والايطاليين العارية تماماً للرجال والنساء، تعتبر في نظر الناقد الإسلاميين - مثالاً لا حصراً - أعمالاً
لا تُقتنى ويجب محاربتها. ولوحات الرسام الانطباعي ايجون سكايل الجنسية العارية (العناق، وإمرأة مضطجعة، 1917) تعتبر فناً هابطاً ومحرماً ومدمراً في المسيحية والإسلام. فكل الفنون مدمرة All art is subversive كما قال بيكاسو. في حين أن لا فن هابطاً وفناً صاعداً. فمهما كان الفن رخيصاً وهابطاً في موازين الأخلاق الدينية والقبلية، وموازين بعض النقاد، إلا أنه
في الوقت نفسه يظل فناً معبراً عن واقع وحالات. وشرط الفن السليم أن يكون معبراً عن واقع وحالات، فيضيف بذلك وثيقة عن حال أمة أو فرد أو أفراد في مرحلة معينة. وفن جيل نانسي عجرم هو اعتراف ومصالحة مع الواقع العربي القائم الآن. يقول الشاعر الغنائي المصري عنتر هلال: "نحن غير مصدقين أن هناك إيقاعاً جديداً أو عالماً جديداً جدَّ علينا، وعلينا أن نكون أذكى من ذلك، ونتعامل معه بواقعية. علينا أن نتصالح مع الواقع".
هل لنا ذائقة رباب؟
لقد هاجم النقاد الكلاسيكيون الشاعر العملاق بشار بن برد ، عندما نظم بيتين من الشعر تحية لجاريته رباب، وقال لها:
رباب ربةُ البيتِ
تصبُّ الخلَّ في الزيتِ
لها عشرُ دجاجاتٍ وديكٍ رائع الصوتِ
وعندما عاتبه النقاد على هذا الشعر التافه، كان رده بأن هذا الشعر هو ما يعجب رباب، ويجعلها تنشط في رعايتها للبيت. وأن هذين البيتين بالنسبة لربابهما أهم من كل ما قاله من شعر!
فهل هناك أتفه من هذا الكلام؟
ولكن تفاهة هذين البيتين هو ميزان بعض النقاد، وليس ميزان الذائقة العامة التي كانت سائدة في وسط رباب، جارية بشار بن بُرد .
تفاهة جيل عجرم لا ترقى إلى تفاهةسيد درويش
كذلك، فإن سيد درويش العظيم، غنى أغانٍ تافهة جداً. بل هي أكثر تفاهة مما نسمعه اليوم من جيل نانسي عجرم. ومن هذه الأغاني: (شفّتي بتاكلني أنا في عرضك) وأغنية (اشمعنى يا نخ الكوكايين كخ ( وأغنية (الحشاشين) وغيرها من توافه الأغاني. كما لحن الشيخ زكريا أحمد أغانٍ تافه جداً ، منها (أرخي الستارة اللي في ريحنا لحسن جيرانك تجرحنا) التي غنتها منيرة المهدية 1920 . كذلك لحّن طقطوقة "ما تخافش عليّ"، والتي قال عنها الناقد الغنائي كمال النجمي أن كلماتها لا تصلح للنشر في هذا الزمان المختلف.
وهذا الجيل.. جيل نانسي عجرم يغني أغانٍ تافهة في كثير من الأحيان، وأغانٍ سطحية في كثير من الأحيان، ولكن لا أحد ينكر بأن هذه الأغاني نابعة من تفاهة الوضع العربي القائم الآن، ومن سطحية الطروحات العربية في السياسة والاجتماع والفكر. فمن أين يأتي هذا الجيل بالفن الرفيع أو الفن الراقي والحياة العربية في أدنى مستوياتها من كافة النواحي، وتعتريها التفاهة والسطحية. وما جيل نانسي عجرم إلا المُعبِّر الحقيقي والجريء لهذا الواقع التعيس والمتدني الذي نعيشه الآن من كافة النواحي.
لماذا ننتقد هذا الكلام التافه الذي يغنيه هؤلاء المغنون، ولا ننتقد الكلام التافه والسطحي الذي يملأ صحفنا المحلية وبرامجنا التليفزيونية؟
لماذا لا يعتبر هذا الفن العفوي خروجاً على الأنماط الفنية التقليدية، وتكسيراً لقواعد الفن الكلاسيكي الرتيب بعيداً عن التصنّع؟
لماذا لا يعتبر هذا الفن بمثابة الامتداد الطبيعي للتفاهة الدينية التي تتبثها مئات المواقع على الانترنت والتي تأتي كل يوم بإسلام جديد وبدين جديد غريب عنا؟
ثم لماذا لا نعتبر فن جيل نانسي عجرم رداً شجاعاً على أعمال الارهاب التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى اقصاه سواء كان هذا الارهاب ارهاباً مسلحاً أم كان ارهاباً سياسياً واجتماعياً وثقافياً؟
هذا هو سوقكم
لقد بلغ عدد المغنين من الشباب في العالم العربي اليوم الآلاف وليس المئات. وأصبح الانتاج الغنائي من أكثر السلع رواجاً لأمة حزينة مكلومة ومهزومة، تريد أن تفرّج عن نفسها. ونشهد لأول مرة في تاريخ غناء العرب تخصيص فضائيتين لبث اغاني الفيديو كليب. اضافة إلى العدد الهائل من الأغاني التي تبثها المحطات الفضائية الأخرى، وقيام مؤسسة تجارية ضخمة تتولى انتاج وتوزيع واحتكار أغاني هؤلاء الشباب. وأصبح كل الشباب والشابات وفي الوطن العربي يغنون بدون احتراف، في الشارع، والحي، والمقهى، وعلى أسطح المنازل، وفي كل مكان. لم يعد المسرح المعد خصيصاً هو الخشبة الوحيدة التي يقف عليها المعني كما كان يفعل عبده الحمولي وعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ. أصبح أي مكان في هذا العالم صالحاً لأن يكون خشبة مسرح صالحة للغناء.
فأين السبيل للهروب وانكار هذا الواقع الذي يلعب دوراً هاماً وبارزاً في تشكيل الثقافة العربية؟
جيل عجرم بين التقليديين والليبراليين
كان رد فعل المؤسسات الدينية والقبلية التقلدية عنيفاً على فن جيل نانسي عجرم. واعتبر بعضهم أن ما يحصل الآن هو "مصيبة عظمى وطامة كبيرة تضم إلى ما قبلها من البلايا والرزايا، وجب النصح والتذكير أن أنبه على أمر لا ينبغي السكوت عنه، بل يجب الحذر منه والابتعاد عنه وهو مايحصل فى القنوات الفضائيه من خدش للحياء والعفة والكرامة" (سعيد الغامدي، موقع "صيد الفوائد" على الانترنت ). وفي الكويت صدرت فتوى دينية شهيرة بتحريم غناء النساء.
في حين اعتبر مفكرون ليبراليون كعلي حرب المفكر اللبناني في مقاله (ستار أكاديمي ونانسي عجرم: ما الذي جنيناه من ثقافة الأعمدة، جريدة "السفير "، 24/6/2004) أن "ثمة من يتعامل مع هذه الظاهرة بعين السلب والعداء، إذ يرى أنها مظهر يدلُّ على فقر الثقافة وانحطاط الفن، بل هناك من يتحدث عن موت الثقافة وتسليع العقول والأجساد، معتبراً ذلك نتيجة سيئة لعصر العولمة والتقنية. فمن جهتي أنا أقرأ الظاهرة بصورة مختلفة. فالعولمة، بما تعنيه من تشكّل مجتمع المشهد والشبكة والصورة، قد فتحت إمكانات لا سابق لها للتعدد والتنوع والتفرد في مختلف مجالات الانتاج المادي والرمزي. نحن إزاء واقع جديد لا يغني معرفةً ولا يجدي عملاً وصفُهُ بـ "التفاهة" كما ينعته الكثيرون من أصوليي الحداثة والعقيدة، بأفكارهم الحديدية وذائقتهم المتحجرة. الأجدى والأغنى قراءة الواقع لمعرفة ما طرأ عليه من تحولات، من حيث مشهده ونظامه ومفاهيمه وقواه وادواته. وأبرز هذه التحولات هو تغيّر العلاقة مع الواقع والحقيقة، بعد تشكل الواقع الافتراضي والاقتصاد المعرفي وبروز الإنسان الرقمي والفاعل الميديائي. وما تلفزيون الواقع الا ثمرة من ثمار هذا التحول".