التنقيب والنبش في التأريخ الأيزيدي القديم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
القسم الأول
كمدخل للغور في عمق الديانة الايزيدية لمن يريد التعرف على تفاصيل اكثر سعة وعمق للكشف عن تاريخ نشوء هذه الديانة العريقة والغارقة في القدم، ينبغي التوقف ملياً أمام ظواهر لايمكن لها ان تكون عابرة في الميثيولوجيا الايزيدية أو في ثنايا التأريخ المطمور. مما يوجب متابعة الاسس الروحية والفكرية لهذه الديانة الغارقة في القدم والتي تجد لها الأمتداد والترابط من خلال الأعتقاد بالالهة المتعددة التي تتشكل دون الاله الكبير (الله - خدا في اللغة الكردية)، وان الملائكة الارباب سبعة مع أهمية أعتماد الرقم في جميع الديانات، ومن خلال تقديس بعض الظواهر الكونية، ومن خلال الأيمان بالحلول والتناسخ، ولايمكن الأقتناع أو القبول من أن مثل هذه الديانة تؤسس من الفراغ أو انها تشكلت من المجهول، او أنها تكونت من رغبات شخصية أو ذاتية، ومن يقرأ جزء من أسس الديانة الأيزيدية يستطيع ان يتلمس معالم ديانة لها جذور تدعو الى توظيف حركة الأنسان الى أعمال الخير، كما تنظم حياته وفق هذا الأساس، وتضع معايير لأعمال الحلال والحرام، والذاتي دائماً يعتريه الخلل والنقص من خلال محددات الرغبة والقصد، وغالباً ما ينتهي ويضمحل مع انتهاء الذات التي شكلته أو التي ساهمت في تكوينه لأنه يرتكز عليها ويستمد ديمومته منها، غير أن المقياس الذي نستطيع أن نرسمه في سماء مثل هذه الديانة القديمة، هي قضية التوحيد والأيمان بأن الله واحد وهو الخالق الأزل الذي خلق الكون وجلس على عرشه فوق الماء، وتتمسك الأيزيدية بالتكوين التدريجي، أذ تؤمن بأن الله خلق عدد من الملائكة، وكل ملاك له وظيفته واختصاصه، كما تؤمن الأيزيدية بأن الله خلق الكون من العناصر الأربعة، وهي الماء والهواء والتراب والنار، ومثل هذا الأيمان الدقيق في تفصيل اهمية المواد التي تتشكل منها الحياة، لاتأتي أعتباطاً، أنما تتكون من خلال دلائل عميقة تؤكد معرفة تفصيلية بالعقيدة والخلق وتفاصيل الكون.
ثمة من يسأل عن أسماء الأوائل الذين جاهروا بهذا الدين، والذين نشروه بين الناس، وثمة من يسأل أن كانت هناك أسماء قبل الشيخ عدي بن مسافر برزت في خضم الصراعات التي واجهت الديانة الأيزيدية، فأن كان زرادشت قد نشر ديانته في المنطقة، فأنه واجه الايزيدية التي تشبثت بديانتها، وتباهوا من انهم اول من ابدل عبادة الظواهر الكونية باله التوحيد، وهم ايضا اول من توصل لفكرة طاؤوس ملك، فأطلق زرادشـــت على كل من لايؤمن بديانته لقب ( عبدة العفريت ) أو عبدة الشر، ويمكن ان يكون زرادشت أول من أطلق هذه الالقاب التي لحقت بالأيزيدية والتي تم ترويجها واستخدامها للنيل منهم وايجاد الذرائع لقتالهم والقضاء على ديانتهم بعده، علماً بأن الزرادشتية أتخذت من آلهة الظواهر الطبيعية ملائكة لها بينما تمسكت الايزيدية بالملائكة الخاضعين لارادة الله، ومن الطبيعي ان يحدث التصادم والتأثير بحكم الوجود الفعلي لديانتين يدين بهما الناس في المنطقة، غير ان الايزيدية بقيت قائمة ولم تتأثر بالدين الجديد بالرغم من الانتشار الواسع للزرادشتية واعتبارها ديناً للدولة الأخمينية والساسانية والميدية فترة لاتقل عن قرن من الزمان، ويبدو ان العقلية الدينية السائدة كانت منفتحة وواعية وحريصة على التطبيق السليم في أقناع الناس بدلاً من إجبارهم وقسرهم على تغيير ديانتهم، ولذلك لم نقرأ عن مجازر وحروب وملاحقات وقتل للأيزيدية مثلما حصل لهم في الزمن الحديث، وبعد ذلك انحسرت الزرادشتية في حين بقيت الايزيدية قائمة رغم مالقيت من مصائب واهوال.
يقول الكاتب ماكس هورتن في كتابه الفلسفة ص 127 ان هناك من يذهب ليؤكد ان العقيدة الايزيدية ماهي الا تاكيد لعبادة النور وتمثل طورا للثنوية الفارسية القديمة والتي نراها واضحة المعالم في الزرادشتية والمانوية، ولو كانت الايزيدية كما ذكر ماكس هورتن لصار تقديس الضوء أو النار بديلاً عن الأرباب وبديلاً عن تقديس طاؤوس ملك وحتى عن الخالق الاله الكبير، ولكن الأشتراك الفعلي في تقديس الظواهر الكونية دون أشراكها بوحدانية الله فيما ورد حيث يكون الاله الكبير الخالق الأزل فوق جميع الأرباب وتليه المقدسات متدرجة حسب أهميتها وقربها من الاله دليل على تقادم هذه الديانات وأشتراكها في مكونات تناقلتها وألتزمت بها بدليل أن عبادة تموز كانت شائعة في وادي دجلة وفي المنطقة المحيطة بجبل سنجار وحتى نصيبين (مجلة المقتطف المجلد 49 سنة 1916 ص 325) بالاضافة الى الفوارق الكبيرة في تشكيل صفات الاله تموز لدى البابليين وبين صفات وشكل طاؤوس ملك لدى الأيزيدية.
كما أن أسماء الالهة التي كان يطلقها الأيزيدية عليها ينسجم مع أسماء الالهة السومرية والقديمة، فالالهة آنو وأنليل (اله الشمس) وأنكيدو ونانا وأنانا وآتو، والتي تزاحمت فيما بينها ليحل احدها محل الاخر كان كل منها يشير الى معنى معين في الفكرة الاساسية، فانانا سيدة السماء والهة النور، وتمـــوز العائد من الموت دليلاً على عدم فناء الروح التي تعود حتما، كما ان انكيدو صار بشرا حين اكل القمح الذي عده القدماء وشاركهم الايزيدية بهذا الاعتقاد مقدساً، وهذا الأمر يدحض الأفتراض الذي يزعم أن الأيزيدية مذهب منحرف أنشق عن اليهودية أو المسيحية أو الأسلام، وتمسك الأيزيدية بالتناسخ والحلول دليل على أنها كانت تلتزم بهذا الأعتقاد قبل أن تحل كلا الديانتين، وهذا الأعتقاد ربما يخالف العديد من الديانات التي سادت في المجتمعات في القرون الأخيرة حين حل الدين الأسلامي وماقبله من العقائد التي لاتؤمن بالحلول والتناسخ، وهذا الأمر يقود للأعتقاد بأن الديانة الأيزيدية كانت تعتقد في عقيدتها على خلاف كبير مع الديانات والعقائد الأخرى ويمكن أعتبار قضية تقديس الشمس في العقيدة الأيزيدية من القضايا التي لم تلتزم بها الأديان المتسلسلة، كما نلفت الأنتباه الى قضية غاية في الأهمية تكمن في قضية الأنغلاق الديني للعقيدة الأيزيدية حين لاتقبل الأنتماء اليها من خارج ابنائها، كما لاتقبل عودة من خرج منها لأي سبب كان، بالأضافة الى محرمات صارمة للزواج بين الطبقات الايزيدية نفسها ومع هذا الأمر الصارم بقيت الأيزيدية تتكاثر وتتوسع يوماً بعد يوم، ولم تلتزم بهذه الطريقة في محرمات الزواج سوى الديانة المندائية فقط من بين الاديان، وهي ايضا من الديانات العريقة والقديمة التي حافظت على قوامها الديني وحيويتها، بينما أحل الأسلام الزواج من غير المسلمات وأحلت المسيحية الزواج من غير المسيحي مع بقاء المسيحية على دينها، وجعلت اليهودية الأبناء من الزوجة اليهودية المتزوجة غير اليهودي يتبعون دين أمهم اليهودية فهم يهود بالولادة.
وتشكل فكرة الرمز ربما اشتراك مع بقية الديانات، غير أن رمزية طاؤوس ملك وما يعنيه ويشير اليه في الميثولوجيا الأيزيدية، يعبر عن خصوصية هذه الديانة وقدمها، ومن اللافت للنظر أن يكون الطاووس رمزاً منرموز الديانات القديمة كالديانة السومرية وكان على الاغلب يمثل فكرة الخير والجمال، ولم يكن يشير الى الشر التي يتناقض معها مطلقاً، وحين صارت الايزيدية تسمي الملاك الكبير طاؤوس ملك قبلة التقديس، اتهمهم اعداؤهم بعبادته اولا ومن ثم افتراءهم من كونه اشارة الى ملك الشر، واذا كان الايزيدية يحتفلون بعيد راس السنة كل عام والذي يصادف اول يوم اربعاء من نيسان الشرقي، لكون هذا اليوم في اعتقاداتهم الدينية يوم خلق الملاك طاؤوس، مما يوجب نبش العديد من التلال التأريخية لمعرفة المزيد من الحقائق عن هذه الديانة، فليس اعتباطاً أن ينتشر أتباع الأيزيدية في عدد من البلدان المجاورة للعراق، مع ان ثمة من يجد أن هذا الأنتشار سببه الأضطهاد الديني والملاحقة وهروب الأيزيدية بأرواحهم من الموت الى تلك المناطق، غير أن أيزيدية لم يزلوا يقيمون في مناطق أرمينيا (أريفان) وفي تركيا وسورية، بل هناك أقوام تتشابه مع ما يعتقد به الأيزيدية في الهند وفي جمهورية الصين، ولعلهم حقاً من الأيزيدية، غير أن التباعد والغربة وعدم وجود ترابط بينهم أدى الى عدم انسجامهم وتطابقهم، مع أن هناك قواسم مشتركة في بعض العقائد والطقوس والأمر بحاجة الى تحقيق وتدقيق.
يتحدث بابا الأرمن في أرمينيا (فاسكين الأول) بتاريخ 11/9/1992 فيقول : أن الأيزيدية في ديارنا موجودين منذ القدم، وهم من اهل أرمينيا المنسجمين مع بقية الديانات، ومن المشتهرين بالنزوع نحو الخير، وعددهم في أرمينيا لايستهان به، وكان عدد من عائلة الأمراء قد زارهم والتقى بهم وحثهم على الأتصال بالقيادة الدينية للأيزيدية.
ولايغب غن بالنا المعاني الدقيقة للأعياد والمناسبات الدينية لدى الأيزيدية، والعديد منها تترابط نع الأعياد التي يتمسك بها السومريين والبابليين القدماء في وادي الرافدين، بالأضافة الى حلول العديد من الأساطير التي كانت سائدة في العراق القديم بين الأيزيدية، ولم تزل المجتمعات الايزيدية تتداولها كنمط من أنماط التراث الشعبي.
ثمة من يسأل عن الفترة التي سبقت مجيء الشيخ عدي بن مسافر قدس الله روحه الى لالش ليجدد الديانة الأيزيدية، ثمة من يلح في كشف تلك الفترات التي تعاقبت منذ انتشار الديانة الأيزيدية بين الناس، وعلاقتها بالديانة الزرادشتية التي حلت في منطقة فارس وكردستان وأنتشرت بشكل واسع وعميق، ثم علاقتها بالديانة اليهودية التي كانت منتشرة في كل المنطقة، وخصوصاً في منطقة كوردستان قبل ان تحل الديانة المسيحية، وهي كما نعلم من الديانات التبشيرية، بالأضافة الى مجيء الاسلام وأنتشاره بين المنطقة، وأيمان الناس به بالأضافة الى كون الأسلام من الديانات التي تقبل الأيمان والأنضمام به ولايقبل الخروج او الأرتداد عنه، ومع مجيء مثل تلك الديانات ماهو تأثيرها وفعلها على الديانة الأيزيدية، وماهو القاسم المشترك بينها؟ وكيف تعاملت تلك الديانات بينها؟
وحين يتم اختلاق القصص حول اصل المعبد المقدس، فأن الأمر لايعد الا الأستمرار في منهج التحريف وأعماء الحقائق بحق الأيزيدية، ولو تركنا معبد لالش وتربة الشيخ عدي بن مسافر ودخلنا الى تلك الغرفة المنقورة في الجبل والتي تضم اصل المعبد كما يقول الباحث والاثاري السيد عبد الرقيب يوسف، مع ان بعض الاثاريين اشاروا من انها مخزن لحفظ زيت الزيتون الذي يستخدم لانارة المعبد، كما انهم لم ينتبهوا الى الاشكال والرموز المنقوشة على الجدار الغربي للمرقد، وقد يكونوا أنتبهوا وصرفوا النظر، ولكن الحقيقة الواضحة تكمن من كون موضع (الجله خانة) المؤلف من عدد من الغرف الغارقة في الظلام الدامس هي قديمة أقدم من قبر الشيخ عدي ومن كل بناء المعبد الجديد، ويذكر السيد عبد الرقيب أن جوانب وأسطح بعض الصخور منقوشاً عليها رسوماً للشمس وبعض الأشارات الدينية القديمة الأخرى، ولو كانت تلك الرموز تخص ملة من الملل في اقصى الأ{ض لتمت دراستها وفحصها والأهتمام بها، ولكن الأمر يختلف مع الأيزيدية الذين ظلمهم الزمن وتكالبت عليهم المحن وجار عليهم الناس المجاورين لهم.
كما كنت قد شاهدت مع كريفي الأيزيدي الأستاذ عمر خضر حمكو في العام 1994 نقوشاً وكتابات أيزيدية على الجدار الخارجي للمعبد المقدس، وهي بارزة ولافتة للنظر، غير أن الطبيعة كانت تعمل على أخفاء معالمها وأتلافها لتعرضها للمطر والشمس والتقلبات مما يتلفها ويجعلها في طي النسيان، ولم نكن نحمل جهاز تصوير حينها حيث كانت زيارتنا للمعبد سرية دون علم السلطة التي ربما حكمت علينا بالموت وهي تعلم بأن قاضياً يزور معبد الأيزيدية المقدس الواقع ضمن منطقة كوردستان المحررة.
ومن هذه النقطة نعود نكرر ندائنا الى المنظمات الدولية والجهات المختصة في الأمم المتحدة ونوجه أنظارها لما يحتويه المعبد المقدس وما يجاوره من التلال من أسرار ونقوش ورسوم جديرة بالدراسة والحفظ لكونها تعود لأزمنة غابرة وقديمة سحيقة، وأن لم تكن بقصد البحث والتقيب الاثاري لأثبات قدم الديانة الأيزيدية، فأنها خدمة للأنسانية والتراث البشري.
وبأستثناء محاولات الدكتور الباحث خليل جندي وهي من المحاولات الجادة والمهمة لم يحاول أحد النبش في التأريخ الأيزيدي القديم، مع ان الباحث والمفكر السوري الموسوعي فراس السواح ساهم في أرساء دعائم التحليلات واسماء الالهة والبحث في ماهية الديانات ومنشا الدافع الديني في كتبه العميقة مغامرة العقل الاولى ولغز عشتار ودين الانسان ليؤسس ارضية تاريخية للبحوث التي تريد النبش في تاريخ الديانات القديمة ومنها الايزيدية على سبيل المثال.
وأذا كنا نستطرد العلاقة بين الديانة المثروية التي سادت في مدينةالحضر (Hatra )، والتي كانت ضمن مناطق أنتشار الديانة الأيزيدية، وبتدقيق المتقاربات بين الديانتين وقوة التأثير التي تجسدها الطقوس والأعياد، سنجد العديد من الشهادات والقرائن التي تدلل على وجود الأيزيدية في مناطق الحضر ومنها تسللت الى مناطق شرق سوريا، ومن يتمعن في طقس التضحية مع ان الطقس يمكن ان يكون قاسماً مشتركا بين الديانات، الا أن اشتراك المثرائية مع الديانة الأيزيدية من أن يكون التضحية بثور، حيث كان اهل بابل يتمسكون بالتضحية بالثور بينما لم تتمسك بمثل هذا بقية الديانات.
وكان الأعتقاد الروحي متجذراً منذ اللحظات الاولى للخليقة، فقد كان الأنسان دائما بحاجة الى إلهام ودوافع روحية يؤسس عليها أعتقاده، ويتمسك بها لتعينه روحياً على موجبات الحياة والطبيعة وظواهرها الخارقة، ومع هذه الأعتقادات الروحية تتطور العلاقة بين الأنسان والالهة أو الرموز الروحية، وبين الذات الأنسانية وبين التطور الأنساني في فهم الدوافع الروحية للأعتقاد في وجود خالق للكون ونظام يكون الانسان جزء منه.
واذا كان الله هو الخالق الازل الذي يقول للشيء كن فيكون فانه حين يخلق الانسان ويسويه يلهمه الفجور والتقوى، وحين يخرج الأنسان الى الدنيا يحمل بين جنبات روحه بذور الخيرونوازع والشر، أذن أن الله لم يرد أن يزرع الشر بين الناس ولايعقل ان يعلمهم بأرادته أن يرتكبوا أفعال الشر، انما يلهم الأنسان ويترك له الخيار في السلوك ليتحمل وزر أعماله فلا مقيد له ولامسير أجباري لأن أعماله تسجل له في اللوح المحفوظ ليحاسب عليها، ولو كان مقيداً ومجبراً على أرتكاب المعاصي وأفعال الشر لما بقي هناك منطق او قبول محاسبته.
ولهذا فقد كانت جميع الأديان تدعو للأصلاح والتمسك بقيم الخير وأشاعة المحبة والتآلف بين الناس والحرص على الحياة البشرية والسلام والتأكيد على تجنب قيم الشر وكل الافعال التي تحدث ضرراً للأنسان، كما تزين الحياة الأخرى، فأنها تتوعد لمن لايتمسك بهذه القيم بالعذاب الأبدي.
وأذا أسلمنا بأن الأيزيدية تؤمن بان الله واحد وهو خالق الكون، مما يجعل هذه الديانة من الديانات التوحيدية التي لاتشرك مع الله احد في كل الأمور، وهي أضافة الى هذا الجانب تهتم بالحياة البسيطة التي تتناسب مع بساطة الحياة التي يعيشها المجتمع الأيزيدي، وكل المغالاة تم أضافتها بشرياً ودنيوياً لأسباب أجتماعية أو لظروف مر بها المجتمع الأيزيدي ولاعلاقة لها بالدين، مما يوجب أستقراء الماضي بدقة وذهن صافي متخلص من تخرصات وعقد الفترات التي اشاعت الدجل والتي انتشرت بين الناس بقصد الحط من قيمة ديانة تدعو للتوحيد وتؤمن بكل المقدسات ودون ان تحط او تنال من اية ديانة أخرى.
كما يتمسك الايزيدي بطلب المعونة من الله الكبير الأزل، فانه لم يزل كغيره من البشر ممن يؤمنون بديانات وعقائد أخرى، يطلب المعون والمدد من أولياء وملائكة ورموز تقل عن درجة الالوهية، وفي هذا الأمر انسجاماً مع المطالب النفسية للأنسان غير بعيد عما تمارسه الجماعات البشرية في العديد من الديانات.
كما تشكل قضية المكان المقدس والرمزية في الديانة الأيزيدية، قضية مهمة ودقيقة، قد تتشابه فيها مع عدد من الأديان، ممن تتبع قضية المكان المقدس الذي لايمكن تغييره ويرتبط بالأساطير والقصص التأريخية، وكذلك بالرموز التي أكثرت منها الأيزيدية بحكم انعزالية مجتمعها وتعرضه للعسف والقتل ولجوءه الى الكهوف والحياة المحفوفة بالمخاطر، وبقاء الأنسان الأيزيدي تحت رحمة وفتاوى رجال الدين ووفق مشيئتهم ومصلحتهم.
ولم نجد من بين الكتابات الأيزيدية القديمة كتابة جريئة تعزز الوجود الأيزيدي القديم قبل الديانات الأخرى، ليس لعجز في الأثبات، ولاتقصيراً في نبش زوايا التأريخ الأيزيدي، وانما تخلصاً من حكم الذبح والموت الذي يصدر بحق الكاتب، وعدم قدرة الاقلام العلمية من الخوض في غمار الحقيقة والتصدي للزخم المظلم الذي يعم عقول المجتمع في ذلك الزمن، ممايجعل الواجب اليوم أن يتحمل المثقف (مهما كان دينه او قوميته) واجبه الضميري في التنقيب وأغناء الحقائق وأثراء المكتبة والدوريات ببحوث ودراسات من شأنها أن تحقق ليس فقط الفائدة، وأنما تنوير العقول التي لم تزل تعتقد بصدقية الثقافة الظلامية التي كانت سائدة.
والظاهرة الملفتة للنظر في المجتمع الأيزيدي هي قضية المساواة والتقشف التي يعيشها المجتمع القديم، فلا آثر للغنى والفوارق الطبقية، والتراتيبية الدينية لاتقسم المجتمع الأيزيدي طبقياً بقدر ما أنها سعي لتكريس وضع ديني يؤسس الحياة الأيزيدية ببساطتها، مما يجل رجال الدين يحكمون قبضاتهم على المجتمع الرازح تحت قيادتهم، وهم بدورهم فوضوا الأمر الى أمير على مر العصور.
ووضع مثل هذا لم يزل سائداً مع فارق بعض التطورات الراهنــة التي افرزها التطور الأنساني، لايمكن أن يكون دون وجود رابط روحي قوي ومتماسك، والدليل الذي كان يراهن العديد عليه، أن الأيزيدية في العصر الراهن الحديث، وبالرغم من التطور الثقافي والأنفتاح وبروز طاقات وعقول متنورة ومثقفة، الا انها لم تزل يشدها الرابط الروحي مع ميل نحو التطور وتهذيب مالحق هذه الديانة من تشوهات، ومالحقها من أساطير وقصص وروايات سلبية لاعلاقة لها باساس الديانة الأيزيدية، ولم يزل الأيزيدية يتمسكون بالتقويم الشرقي، وهذه السنة تسبق السنة الميلادية بثلاثة عشر يوماً، وهذا التقويم يسبق التقويم الميلادي.
ومن بين أهم القضايا التي ينبغي دراستها وتحليلها، العلاقة بين الظواهر الكونية وبين الأيزيدية، أذ ليس من المعقول ان تنشأ علاقة أزالتها الديانات التي لاتقديس لها للشمس مثلاً، لتعود للتقديس عند الأيزيدية ان لم تكن مؤسسة قبل تلك الديانات.
كما أن ظاهرة الموت وهي اللغز الكبير الذي يرافق متزامناً مع الولادة، أذ تقف الأيزيدية متمسكة بقضية عدم نهاية الروح مع الجسد الفاني، أذ ان دورة الحياة لم تزل قائمة، مما يستحيل معه نهاية الناس قبل المعياد الكبير، ولهذا فأن الأرواح التي تبقى هائمة فوق المكان المقدس عند الأيزيدية، حتى تجد استقرارها وفقاً لطبيعة ما قدمته من عمل، ووفقاً لتمسكها بمباديء الخير وقيم الديانة الأيزيدية، ومن الطبيعي ان تلقى النفس المحبة للخير والسلام والمحبة لتكون روحاً تحل في جسد جميل وسعيد وكريم، على العكس من ذلك تكون الروح التي دنسها الشر والأعمال المنكرة التي حذر من ارتكابها الدين الأيزيدي.
ولم تزل الديانة الأيزيدية تتمسك بالأبتعاد عن الملذات النفسيــة في الكثير من الطقوس والشعائر، بالأضافة الى كون طبقة من رجال الدين ممن ينذر حياته للتقشف والتصوف والأفتقار والذل والمسكنة والصيام وعدم التفكير بالتملك، مما تفتقدهم الديانات الموجودة في منطقة كوردستان ومايجاورها من البلدان.
واذا كانت الديانة المندائية تقدس الماء الجاري، فان الايزيدية تقدس النور والشمس مما يؤكد علاقة هذه الاديان بالظواهــر الخارقة التي كان الانسان السحيق يقدسها ويعتقد بقدرتها الخلاقة، علماً بأن كلا الديانتين تؤمن بوحدانية الله كما ان فلسفة الوجود وما يترتب على الكائن من قدرة على العودة لممارسة الحياة وهي فكرة تنبع من اصل العقيدة الايزيدية مع ايمان الايزيدية بالجنة الخالدة، وتسري الظاهرة المذكورة على الحيوان والانسان وعلى الطبيعة ايضا، اذ يعتقد الايزيدية ان الله الذي خلق الكون لم يأمر بنهايته، ولهذا فان فلسفة انفصال الجسد عن الروح التي آمنت بها ديانات قديمة وحضارات قديمة لم تزل راسخة في العقيدة الايزيدية.
ومن يستقرا الاعياد الدينية لدى الايزيدية يتاكد من نفاذ ما له علاقة بالطبيعة فيها، اذ تجد ان للقمح اثرا مهما في عيد خدر الياس وعيد البيلندا، وقد يقسم الايزيدي بالقمح ومن لاياكل القمح حسب اعرافهم لادين له، كما يبالغ اخرون من ان سر الملاك طاووس ملك يكمن فيه لقدسيته ربما لأضفاء نوع من القدسية العالية الرمزية على القمح والخبز بأعتباره مادة أساسية في الحياة، و كما يدخل في صناعة الخبز المطلي بالدهن (صه وك)، وفي ملحمة كلكامش حين اقنعت المراة الاله انكيدو ان يأكل الخبز المصنوع من القمح، تحول حينها الى كائن بشري وفقد منزلته الالوهية، مما يجعل للقمح مكانة مقدسة بين الايزيدية، بالأضافة الى وجود نبع ماء في لالش يعتبره الأيزيدية نبعاً مقدساً ويسمونه (زمزم)، وهذا النبع قديم لم يزل جارياً حتى اليوم من أغوار الأرض وأعماقها السحيقة ولم يتم التعرف على مصدره وأساسه، وفي كل الأحوال فأن الديانة التي تجعل من الظواهر الطبيعية ركناً مهما ً في طقوسها ومقدساتها لايمكن ان تكون من الديانات الحديثة التي أعتبرت هذه الظواهر جزء من الحياة والكون ونهت عن عبادة هذه الظواهر وتقديسها، ولايمكن لديانة حديثة ان تتراجع عن ديانات حديثة أخرى لتتمسك بما يخالف زمنها وظروف انبثاقها قطعاً لأن التمسك بالقديم أكثر منطقياً من التعارض مع الجديد، ويمكن ان نتفق مع ماذهب اليه الباحث الدكتور خليل جندي من ان الديانة الايزيدية من ديانات الطبيعة ومن ديانات التوحيد الاولى، ( أنظر مقالة للدكتور خليل جندي بالصفحة 22 من دورية روز العدد الاول 1996)، لأن الأشارات والعلاقة الخيطية التي تربط الأيزيدية بالديانات القديمة التي تعتمد عبادة الظواهر الكونية علاقة مشتركة في العديد من ظواهرها، مما يوجب البحث أكثر تفصيلاً وعمقاً من هذه الناحية.
ولعل العلاقة المشتركة بين الديانة الايزيدية والمجتمع البابلي في تقديس يوم الاربعاء تشير لنا امتداد هذا التقديس الذي لم يجد له اثراً في الديانات التي تتالت على المجتمع في المنطقة، فالحية السوداء المنقوشة على الصخر في الجانب الايمن من الباب الخارجي للمعبد المقدس والتي تخرج من بين الصخور لترتفع الى الاعلى التي رسمها الايزيدية على باب معبدهم المقدس لم تكن من غير معنى، فقد كانت المعابد البابلية تعتمد الحيـة لحراسة بوابات المعابد والمقابر، بالأضافة الى تكثيف للمعاني الرمزية في الديانة الأيزيدية والتي ترتبط بظواهر حياتية او كونية أو تتعلق بقدم المجتمعات التي تؤمن بمثل هذه الديانات، أذ تشكل الحية السوداء في الديانــــــة الزرادشتية علامة للموت والحياة وورد ذكرها في كتابهم المقدس (الأفستا) ومن بعده الزند.
وقصة الخلود في الاساطير البابلية واضحة في سعي كلكامش للحصول على عشبة الخلود وبقاء الشباب والحياة بشكل دائم، وبعد ان عثر كلكامش على عشبة الخلود في عمق البحر وتمكنه من استخراجها سرقتها الحية التي كانوا يعتبرونها خالدة لأعتقادهم أنها تتجدد وتغير حياتها بتغير جلدها كل عام، كما ان الحية كم ورد في القصص هي من انقذت سفينة نوح من الغرق بأن ادخلت جسمها في الفتحة التي كادت ان تغرق السفينة بمن عليها وتنتهي الحياة البشرية كما تروي الاساطير القديمة، وكان المصريين القدماء يضعون الافعى فوق تيجان رؤوس ملياكتهم وملوكهم من الفراعنة، وكما لقصة عصا سيدنا موسى التي تحولت بقدرة الله الى افعى التهمت كل افاعي السحرة في ذلك العهد، ولاشك أيضاً أن القصة التي تداولتها الكتب المقدسة والاديان من تمكن الحية اغواء آدم وحواء ليأكلا من الثمرة المحرمة وليخرجا بعدها من الجنة دليلا اخر على مكانة الحية المهمة في الوجود والخليقة، ويبدو ان مجتمع الأيزيدية أكثر من نسج الأساطير عن الحية وعلاقتها بالموروث الأجتماعي والأساطير الشعبية التي يتداولها الأيزيدية، ولايغب عن البال علاقة الحية بالرمز المقدس طاؤوس ملك أو بالاساطير الدينية التي تداولها رجال الدين الايزيدي حول قدسية الحية كقوة نازعة للخير في حين صورتها بعض الاقلام والعقول المريضة انها رمز للشر.
ولاشـك ان معبد (ايزيدا)(ويعني البيت الرفيع - الكاتب) في مدينة بورسيبا الواقع على نهر الفرات مقابل مدينة بابل حيث كان يعبد الاله مردوخ والذي قلل من شانه وجود هذا المعبد بالنظر لتعدد الالهة التي تختص كل واحدة منها بظاهرة كونية محددة، وبالأضافة للتعدد فأن تنوع اعتقاد الناس بوجود قوى خفية وكامنة في ارواح الالهة جعل قضية تقديسهم ورفعتهم في البيت الرفيع معبد ايزيدا اكثر من تعظيمهم للاله البابلي مردوخ، وفي نفس الوقت أنتشرت عبادة نابو في بلاد آشور التي تشمل منطقة الشيخان والزابين والجزيرة، فأقيمت تماثيله في مزارات بنيت لهذا الغرض، وفي نهاية القرن التاسـع قبل الميلاد بلغت هذه العبادة على ما يبدو اوجها، فنجد أن لنابو هيكلا في كالح (نمرود) وهي لاتبعد عن لالش بأكثر من سبعين كيلو متر (جورج حبيب - بقايا دين قديم ص 17)، ويسترسل الباحث جورج حبيب ليذكر بان مذبحا مكرسا للاله نابو كان في ( قرية شدوة) التي تحولت الى شنكار (قضاء سنجار) وان احد قادة (تراجان المدعو شاور الثاني ) شاهد الطقوس التي يؤديها اهل المنطقة تكريما للاله نابو في بداية فصل الربيع، ولن نستغرب ان عرفنا أن عبادة الشمس والظواهر الكونية كانت منتشرة في النمرود، ومن الطبيعي ان تنتقل العقائد مع انتقال من يعتقد بها، وفي انتقال الاقوام التي تعتقد بالديانات القديمة في منطقة شمال آسيا الى مناطق البابليين حيث كان هؤلاء القوم يعبدون (اله السماء دياوس او تياوس ولاحظ أن الكلمة قريبة من لفظة تاووس أو طاؤوس) (TAOOS )، بينما كان اهتمام البابليين اضافــة للاله ( نابو) فانهم يعبدون (الاله شمش والاله سين والذين يعنيان الشمس والقمر)، ومن يدقق في أسوار المقابر البابلية يجد انها تحتوي على فتحات على شكل مثلث للسماح بدخول ضوء الشمس الى باحة المقبرة، وهو نفس ما نجده اليوم في مقابر الأيزيدية القديمة وأضرحة الاولياء والرموز الدينية والتي بدأت تندثر ودون أن تلقي العناية والأهتمام من المؤسسات العلمية والعالمية التي أهتمت برمزيات وآثار أقل قيمة وأهمية منها.
وإذا تتبعنا سفر التكوين في سيرة النبي أبراهيم عليه السلام، وأتفقنا على ولادته في أور الكلدانيين والتي لم يختلف عليها سوى القليل، فأن أبراهيم واخوته ووالدهم تارح غادروا أرض الكلدانيين وأتجهوا الى أرض كنعان حيث مات والدهم فيها، غير أن ابراهيم عاد ليغادر أرض كنعان لتتبارك به جميع أمم الأرض، ومن النصوص التي حفظها العهـــد القديم ماورد في كتب ( المشنا القديمة ) (وهي نصوص تحفظ عن طريق الذكر والأستظهار تخصص بها رجال الدين )، ولم يعتمد هذه الطريقة التي تحملها رجال الدين سوى الأيزيدية من الأديان، وقد مارسها رجال الدين والفقهاء العبريين المنفيين في بابل، ويبدو أن الأشتراك والتشابه في طريقة حفظ النصوص الدينية بين الديانتين يجعل من المتابع دفع أحتمال وجود الأيزيدية منذ العهد البابلي والعبري القديم حيث لايمكن ان تكون الطريقة التي تم اعتمادها اعتباطاً أو بالصدفة وخصوصاً أذا ما وجدنا عدم التزام جميع الديانات التي تتالت على المنطقة بهذه الطريقة.
ومن المفيد الأشارة الى أن الأيزيدية تعتبر أن أبراهيم الخليل هو من أسس ديانتهم ونشر مبادئها ومقدساتها اليهم، وبالنظر لكون النبي أبراهيم أعتقد في باديء الأمر أن النجوم هي الرب، فلما طلع القمر قال هذا هو الرب، فلما أشرقت الشمس قال هذا هو الرب وليس تلك التي شاهدتها من قبل، فلما أفلت قال أن من خلقها هو الرب، وما النجوم والقمر والشمس الا مخلوقات مقدسة وأزلية للرب الأزل الذي يسيرها ويخفيها، وهو ما تعتقده الأيزيدية اليوم من كون النجوم والقمر والشمس من الظواهر المقدسة التي اوجدها الله خالق كل الأشياء.
ولم يكن للنبي أبراهيم عليه السلام نصوصاً محفوظة ومنسوبة اليه، ولهذا فأن ماتبنى أستمرارية العمل في القيام بالشعائر والمراسم والطقوس هم رجال الدين المتخصصين في هذا المجال، ودون أن يجرأ احداً منهم بزعم أنه موكل من النبي أو من غيره، وهم جميعاً من البشر المنتمين الى أحد الطبقات الدينية التي يختص بها الدين الأيزيدي ويتمسك بها تمسكاً صارماً، فالتراتيبية الدينية من أسس المجتمع الايزيدي، ولم يخرج من رجال الدين من لايحث على الأصلاح والأستقامة وعبادة الله وملائكته السبعة.
والأيزيدية من الديانات التي لم تعبد الأوثان أو الأصنام ولا اتخذتها علامات ورموز كغيرها من الديانات القديمة، مع أن والد النبي أبراهيم كان صانعاً للأصنام، وتذكر القصص أنه قال لأبيه أن النار أحق بأصنامك من عبادتها، ولكنه لم يحسب النار ألهاً لأن الماء يطفئها، ولم يحسب الماء ألهاً لأن الارض تبتلعها، ولم يحسب الأرض آلهاً لأن الشمس تجففها وتنشر أشعتها فوقها، ولم يحسب الشمس آلهاً لأن الظلام يحجبها، ولم يحسب القمر والنجوم آلهة وأنما الاله القادر على كل شيء هو خالق الشمس والقمر والنهار والأرض وماعليها، وكان اهل اليونان يعبدون من الكواكب المشتري ويطلقون عليه أسم (جوبيتر) بمعنى ابو الاله، وكانت الديانة الزرادشتية قد جارت الأيزيدية في إتخاذها الهة أعوان كل من الاله ديو و اهورامزدا وهما يستمدان قوتهما وسرهما من الاله الكبير، غير أن الأيزيدية أعتبرت الملائكة السبعة هم المكلفين بشؤون الدنيا بأمر الاله الكبير، مع أن كلتا الديانتين تؤمنان بوجود الصراع الأزلي بين الخير والشر، وأن الأنتصار في النهاية سيكون للخير.
وتشترك كلا الديانتين أيضاً في أختيار الضحية (المقدسة) ثوراً تحديداً وليس غيره من الحيوانات، أذ لايشترط في الضحية أن يكون ثوراً في بقية الديانات، بينما يشترط حتماً أن تكون التضحية عند الأيزيدية بالثور في كل عام، والثور يدل على اعادة الحياة وقوة الخصوبة لدى البابليين.
غير أن مايلفت النظر أستمرار بناء القبور والأضرحة المقدسة على الشكل المخروطي بما يجعل الشمس تنزلق الى كافة جوانب القباب، وبقي البناء المخروطي مستمراً حتى في زمن الخلافة الأسلامية حيث قبر السيدة زبيدة وبعض الأضرحة، ثم التفت المسلمين الى شكل القباب والمآذن التي أتخذت شكلها الذي وصلنا، وقضية الأقتباس والتقليد مسألة غاية في الأهمية وتدل على تحديد الفترات الزمنية، ولو كانت الأيزيدية قد تشكلت بعد مجيء الشيخ عدي أو بعد مجيء الأسلام لما أستطاعت الشذوذ في شكل البناء المتميز واللافت للنظر وعلى الشكل المخروطي، كما أن جميع الدراسات والأبحاث والتحريات الآثارية تشير الى أن المكان المقدس وجد وبوابته الرئيسية تواجه مشرق الشمس، وقباب الأضرحة بهذا الشكل المخروطي المتميز لم تتغير مطلقاً، وخصوصاً أذا عرفنا بالواقع الأجتماعي والديني والسياسي الذي كان يعيشه المجتمع الأيزيدي الذي يمنع تطوير العمارة والبناء والأهتمام بها بالشكل الذي وجدت به منذ ذلك الزمن السحيق.
إن الاشوريين والأكديين والبابليين والكلدانيين هم أفواج متلاحقة على فترات متباعدة تتراوح الفترة بينها بين 600 - 1000 سنة، واقدمها ما أقام في الشمال، لأن الأقاليم الشمالية في وادي النهرين كانت أخصب الأقاليم وأصلحها للزراعة والمرعى خلافاً لأقاليم الجنوب التي كانت مغمورة بماء البحر المالح وظلت كذلك زمناً طويلاً قبل أن ينحسر عنها الماء وتصلح فيها الأرض للسكن والزراعة، ومن شمال العراق كانت قبائل المهاجرين الاوائل تنحدر الى بادية الشام أو الى شواطيء البحر الأبيض المتوسط، ولم يظهر لنا مايدل على هجرة كبيرة من طريق الحجاز وشواطيء البحر الأحمر قبل الدعوة الأسلامية (انظر عباس محمود العقاد - أبراهيم ابو الأنبياء / مطابع دار الهلال ص 120).
فأذا كانت هذه الهجرة تأتي من الشمال!!! فأي دين كان يدين به المهاجرين الى تلك الأصقاع؟ وأي تأثير ديني نقله المهاجرين معهم؟ وأذا كان القوم يتحدثون بلغة تختلف عن لغة أهل الجنوب فكيف أنتقلت تلك اللغة وتعاليم الديانات القديمة خلال تلك الهجرات؟
كما تعج منطقة بلاد مابين النهرين بالديانات التي أكدتها الأحافير والآثار والتي دلت على اضمحلال بعضها ونشوء بعض على أنقاض الأخرى، بالأضافة الى انتهاء العديد من الديانات بأنتهاء السلطة التي كانت تدين بها، ومامن عقيدة دينية تبرز الى الحيز المادي بين الناس مالم ترتكز على أسس ومساند، كما أنها تخاطب النفوس بأسم الاله الكبير الذي يتوجب على الناس كافة الخضوع له والأنقياد الى تعاليمه وطاعته، وهذا التخاطب مهمة من مهمات الأحبار ورجال الدين الذين يحفظون التعاليم والكلمات المقدسة الواردة في مصحف روز أو ضمن تعاليم كتاب الجلوة في صدورهم ووسط ضمائرهم وتلك مهمة عصية لم يزل يتناقلها رجال الدين حتى اليوم.
ومن خلال الأطلاع على ما أوردته أغلب الديانات حول قصة الخليقة وطريقة الخلق وقصة الطوفان وعبادة الشمس والكواكب وقضية التضحية والختان والمكان المقدس والحلول والتناسخ والتوحيد سلباً أم أيجاباً، دليل عقلي على انفصال احدها عن الأخرى، ويتضح أن التوافق والتطابق الحاصل بين الديانة الأيزيدية وبين الديانات القديمة انها من الديانات القديمة التي انتقلت بفعل عوامل عديدة بالرغم من تحديد الأنتماء اليها.
ولم يكن اختيار الطاؤوس رمــزا للجمال والخير ليتخذه الايزيدية تعبيرا رمزيا عن شكل الملاك، وأنما تطابق اللفظ بين تموز وتاووس، وشمش وشمس، حتى نجد العديد من الاسماء التي لم تزل متجددة مع حياة الايزيدية لدى القدمـاء من النبطيين والبابليين والسومريين، بالاضافة الى وجود بعض الطوائف والملل التي تعتبر ان الطاووس هو من اغوى آدم وحواء في الجنة، وللتأكيد فأن المنزلة الرفيعة التي يضعها الايزيدية لطاؤوس ملك مهما علت قدسيتها والاعتزاز بها والتمسك والتضحية في سبيلها، فانها لايمكن ان تلغي الاله الكبير وتوحيدهم للخالق واعتقادهم بقدرته الكلية، وهو الذي سيقرر القيامة في يوم ما ليحاسب الكائناتالحية على اعمالها لياخذ كل كائن مايستحقه من الثواب او العقاب في الجنة او في النار.