كتَّاب إيلاف

فرنسا بين 1968 و2006، وهيمنة نزعات المحافظة..

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

بين حركتين:
تستمر الأزمة الصاخبة في فرنساحول قانون عقد العمل الأول. وبينما يبدي رئيس الوزراء منتهى المرونة ويقترح تعديلات هامة على القانون المعتمد برلمانيا، فإن منظمات الطلبة ونقابات العمل تواصل التظاهر والإضرابات تحت شعار: "اسحبوا العقد أولا!" وبمعنى آخر رفض كل حوار ومحاولة فرض الرأي السلبي على الحكومة والبرلمان وحتى دون انتظار قرار المجلس الدستوري الأعلى، الذي أحال الحزب الاشتراكي القضية إليه، ليقرر هل القانون دستوري أم لا. الجديد في الوضع موافقة لفيف من ممثلي الطلبة على مقابلة رئيس الوزراء في وقت يتظاهر فيه ممثلو المنظمات الطلابية الكبرى أمام مقر رئيس الوزراء احتجاجا على هذا الاجتماع المشترك. والجديد الآخر هو تصاعد ظاهرة العنف من صدامات بالبوليس، لحرق سيارات، لنهب مخازن، وإذ يستمر خطف العدد الأكبر من الجامعات. إن محترفي العنف وخبراءه في الضواحي وبين الطلبة من أقصى اليسار يشوهون الحركة الطلابية ويخطفونها، وهكذا يخوفون الناس والكسبة وأصحاب المتاجر والسيارات الخاصة.
الشعارات الرئيسة للتمرد الطلابي [ ونسميه تمردا من باب المجاز]، هي :"ألغوا العقد"، و"المقاومة فالمقاومة!"، وهو شعار دفاعي لصد خطر داهم موهوم. فهل من عودة لحركات 1968؟

الأكثرية من المحللين يستبعدون هذا. وذلك:
1 - كان طلبة الجامعات والشباب الفرنسيون عموما حاملين لمزيج من الأيديولوجياتالثورية التي تحلم بتغيير فرنسا والعالم كله وبناء الاشتراكية. كانت مظاهراتهم ذات حيوية كبرى، وانتفضوا على كل القيود والتقاليد السائدة ومنها في الحياة الجنسية. كانوا شبابا متفائلا يحلم بالتغير الجذري، وكانت انتفاضتهم جزءا من حركات الشباب في بلدان وقارات أخرى. وللعلم فإن انتفاضة طلابية كبيرة سبقت الحركة الفرنسية في عدد من الولايات الأمريكية. ولا ننسى أيضا ربيع براغ في نفس العام والذي سحقته الدبابات السوفيتية.
أما حركة اليوم فيقوم بها طلبة وتلاميذ محبطون، يائسون، يتصورون أن أرباب العمل والحكومة تنوي تهميشهم ورمي مستقبلهم للعوز. ومن هنا فهم ضد أي إجراء ومهما كان صغيرا لزحزحة ظاهرة البطالة وحالة الركود العام. وقد كتب أحد المحللين الفرنسيين مقالة تحت عنوان " الشباب الذي يفكر كالشيوخ"!

هذا هو الفارق الكبير جدا بين الحركتين، فكريا واستراتيجيا.
2 - وفي أساليب العمل فإن حركة 1968 كانت بوجه عام منضبطة، وكانت للمظاهرات حراسة طلابية قوية تطارد "كاسري" المظاهرات، ممن يمارسون الشغب والعنف. كما أن الطلبة لم يلجئوا لأسلوب احتلال الجامعات إلا في المراحل الأخيرة. وكانت الحركة مقتصرة تقريبا على طلبة الجامعات. أما اليوم، فإن "الكاسرين" من ملثمين وسافرين يكتسحون الميدان ويكادون يطغون على الحركة وكأنما يريدون إعادة حركة الشغب في نوفمبر الماضي.
3 - وعلى صعيد التحالفات كانت الحركة الطلابية عام 1968 منفردة في الميدان في المراحل الأولى، ولم تشترك نقابات العمال إلا في الأيام الأخيرة وكان ذلك يعبر عن تطير الشيوعيين والاشتراكيين من تطرف الحركة، التي وقعت تحت قيادات طلابية من أقصى اليسار الماوي والتروتسكي. وعندما نزل العمال أخيرا فقد حصروا حركتهم في مطالب عمالية صرف، مما مكن الحكومة من عقد صفقة كبرى مع النقابات، مما عزل الحركة الطلابية. أما اليوم فإن الحركة الطلابية، التي بدأت شبه عفوية، قد تحولت بسرعة هائلة تحت سيطرة أحزاب اليسار وقيادات تنظيماته الطلابية وقيادات النقابات الكبرى، الذين يريدون الربح في الرهانين القادمين، رهان الانتخابات النقابية القريبة، والانتخابات الرئاسية للعام المقبل فيما يخص الحزب الاشتراكي وحلفاءه.

بعض التحليلات الفرنسية
نقرأ في بعض المقالات المنشورة أن جيل 1968 قد ربح بعد انتهاء الحركة امتيازات وضمانات كبرى، وهو يتشبث بكل منها ويستميت دفاعا عنها. وإذا كان بينهم من يذكّرون أبناءهم اليوم بحركة شبابهم هم ويحرضونهم، فهم يحاولون بذلك صرف أنظار الشباب عن حقيقة أن الجيل السابق، الموصوف بالأطفال المدللين للدولة، قد خلف للجيل الجديد عشرات المشاكل الحادة، من ديون ثقيلة، وعجز صارخ هو الأكبر في بلدان الاتحاد الأوروبي. فقد حصلوا على ضمانات ضخمة في العلاج الطبي والتقاعد وعقود العمل والوظيفة، بينما "النموذج الاجتماعي الفرنسي" لا يزال متخلفا عن مستلزمات التغيير والتطور الاقتصادي والاجتماعي. ورغم كل الخطوات الإصلاحية الصغيرة للحكومات الفرنسية، فإن كل الطبقة السياسية والمجتمع متشبثون بهذا النموذج الذي يفرّخ البطالة والواسعة وتهميش فئات واسعة من الشباب وأبناء الضواحي. وفي الوقت الذي تستفيد فيه فرنسا من بركات الاتحاد الأوروبي، فإنها ترفض تطبيق العديد من القرارات الاتحادية في مجالات الزراعة والتجارة والاقتصاد عامة. وكان رفض الفرنسيين للدستور الأوروبي مغزى بالغ الدلالة على معارضتهم المزمنة للتغيير باسم الخوف من "شرور اللبرالية"، بعد أن "أبلس" اليسار هذه اللبرالية وشوه حقيقتها، إن ما ينقص فرنسا هو وجوب مواكبة هذه اللبرالية الاقتصادية التي ليست رأسمالية وحشية بل هي نظام لاقتصاد السوق مع ضمانات هامة للمواطنين في ميادين الصحة والعلاج الطبي والعون الاجتماعي، ولا يمكن لفرنسا الادعاء بأن ضمانها الاجتماعي هو أرقى مما في الدول الاسكندنافية، ولا أن سياستها "الاندماجية" نحو المهاجرين تسبق النموذج الأمريكي، الذي نجد فيه كل حامل جنسية أمريكية يعتبر نفسه أمريكيا، أولا ويعتز بمواطنته. كما لا تستطيع الادعاء بأن اقتصادها القائم على أساس قطاعات عامة طاغية محروسة ومحمية من الدولة بشكل مبالغ فيه، وهو ما يقرّب النظام من الاقتصاد المخطط، ويخالف قرارات الاتحاد الأوروبي"، هو أكثر فاعلية وقلة بطالة من تجربة توني بلير.

التوتر العام الراهن: إلى أين؟!
وهل من "جرعة" جديدة من "حرب أهلية"؟؟
يكتب المحلل الفرنسي [ كيرديل Kerdrel ] مقالا تحت عنوان "قانون السي.بي.إي. هو محفز الشعور عام بالمرارة" أن هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها الشعور الغالب على الشباب الأقل من 26 سنة بأنهم يعيشون أسوأ من آبائهم. إن هناك مصادر أساسية لهذا الشعور بالمرارة والقلق والغضب ومنها:
أولا- إن هذه الفئات الشبابية ليست فقط تبحث عن عمل بل وعن مسكن مستقل أيضا. حاليا إن نسبة قليلة منهم يسكنون شققا تابعة للبلدية، فيلجأ البقية لتقاسم الغرف والإيجار أو لاستئجار غرفة لدى عائلة. وإذا دفع الشاب الذي يعمل وفق قانون الحد الأدنى للأجور كل النفقات الخاصة بالإيجار والكهرباء وغيرها فلا يبقى له شهريا غير 100 - مائة - يورو للعيش كل شهر. إن متوسط ما يدفعه شاب بعمر أقل من 25 عاما عن الإيجار هو 4 أضعاف ما يدفع المسنون [ 65 وما فوق ].
ثانيا - إن "النموذج الاجتماعي الفرنسي الشهير" بالذات لابد من إصلاحه يوما. فمثلا إن عجز الضمان الصحي سيبلغ هذه السنة 110 مليار يورو تراكم بين 1990 و2006. هذه الأموال دفعت لضمانات جيل 1968 وسابقه، وسترث تبعات العجز حتى عام 2020 الأجيال المقبلة، إضافة لكون تلك الأجيال عليها في الوقت نفسه تدبير ضماناتها الصحية.
ثالثا- هناك شعور عام بالعزل الاجتماعي لدى هذه الفئات الساخطة من الشباب وصعوبة الوصول لسلم الصعود الاجتماعي الذي تسلقه جيل "الأطفال المدللين" ـ جيل 1968. إن ثقل الديون العامة المتراكمة في الربع الأخير من القرن سوف تفرض على الشباب العامل الأكثر نشاطا وشغلا أن يدفعها على شكل ضرائب. وعلى صعيد آخر، فإن قلة نفقات الدولة على التعليم العالي والأبحاث العلمية سوف تضيق من فرص الاستفادة من الفعاليات ومجالات العمل الدولية المستقبلية.
ويرى الكاتب أن هذا الشعور العام بالمرارة ترافقه ظاهرتان متطرفتان: الأولى رغبة أكثر من 75 بالمائة من أعمار ما دون 30 سنة يرغبون في الوظيفة بعد التخرج. وثانيا هناك مظاهر مقلقةأخرى كهجرة مليون شاب للعمل في الخارج.
من هذا كله يتولد مناخ القلق العام الذي يسبح فيه الشباب، ومن ثم فإن الغضب العارم على قانون العقد المذكور ليس إلا محفزا ظرفيا لهذا الغضب المتراكمة أسبابه ودواعيه.
ونود أن نضيف من جانبنا أنه في هذا المناخ، ومع حيرة الشباب وضياعه الفكري والسياسي، يأتي المتطرفون والساسة المحترفون والانتهازيون لاستغلال الوضع لحساباتهم الانتخابية، وتعزيز مواقعهم المهزوزة منذ انتخابات 2002. إن للشباب مبررات للشعور بالمرارة، ولكن ضياعه يجعله يعارض حتى تلك الإجراءات الجزئية التي هي لصالحه، كما رأينا في سلسلة "معاركهم" خلال العشرين سنة الماضية، والتي أوردنا قائمتها في مقالنا السابق، [ 21 مارس الجاري].
إن حالة المرارة والسخط الراهنة، التي تلف شرائح واسعة من الشباب، يستغلها ساسة المعارضة الذين يستخدمون للغة الديماغوغية وشعارات أقصى ثورية، بينما ما يريدونه هو الحفاظ على النموذج الاجتماعي الراهن، وما يعنيه من استمرار مآسي التلاميذ والطلبة الذين تثقفهم الرطانة الثورية بأن أرباب العمل وحوش كاسرة تنتظر افتراسهم، وأن أي إجراء إصلاحي جزئي للحكومة هو ضدهم ولصالح أرباب العمل.
أما النظام المدرسي، الذي ثبته وكرسه عهد ميتران والحكومات الاشتراكية، فقد بالغ في التساهل باسم همّ تحقيق أوسع مساواة وتكافؤ فرض، ولكن على حساب النوعية والانتقاء الدراسي، وعزل المدرسة تماما عن عالم العمل. وقد استبدلوا بعض المواد الصعبة بكثرة في مواد الرياضة البدنية ومواد فرعية أخرى. ولكن هناك أعدادا كبيرة من أبناء الضواحي ممن لم تستطع إتقان اللغة الفرنسية، [ما يوصف بعدم الأمان اللغوي]، وتجد صعوبة في استيعاب بعض مواد البكالوريا، فيتسرب هؤلاء من المدرسة وهم بلا مهارة فنية تذكر.
إن عالم التاريخ الفرنسي جاك مارسيل أصدر عشية الأزمة الجديدة كتابه تحت عنوان "ممارسة مناسبة من الحرب الأهلية في فرنسا"

ـ Jacques Marseille

Du bon usage de la guerre civile en France

ويربط المؤلف في حواره يوم 21 مع الفيجارو الأحداث الأخيرة بمسار التاريخ الفرنسي من سلسلة حروب أهلية بالسلاح وسلميا، وما بين انشطار وصدام، مؤكدا أن فرنسا تفتقر لثقافة المساومات المفيدة والمفاوضات التي يتقنها مثلا عمال دول الشمال، وحيث النقابات تكاد تضم الغالبية العظمى من العمل. فالثقافة السياسية السائدة حسب رأيه مزيج من الثورية اليعقوبية والمحافظة اليمينية الملكية. إن من مظاهر ذلك الموقف المتطرف والمتشنج للنقابات اليوم و أبلسة اللبرالية. كذلك استخدام العنف لحد صار الفرنسيون يخافون معه انتشار عنف نوفمبر الماضي لباريس وبقية المدن الكبرى. وقد أعرب حوالي 60 بالمائة منهم عن الرأي بوجوب سحب القانون خوفا من انتشار العنف وما يرافقه من نهب وحرق وصدام أتقنت فنونه الأقلية الصاخبة في الضواحي والمتطرفون من أقصى اليسار. ولكن السؤال هو إذا كان السحب سيهدئ الوضع مؤقتا، فهل سيمنع نشوب أزمات قادمة متتالية أخرى يفتعلها اليسار بانتظار الاستحقاقات الانتخابية؟! غير مؤكد أبدا وستظل الدوامة إياها، وحيث موجودة داخل النظام عوامل للانفجار.
يرى المؤلف أن كل الظواهر والمواقف التي يشهدها الوضع اليوم يجعل فرنسا على حافة حرب أهلية، لا بالسلاح المتبادل بل بين المجددين وبين المحافظين الذين ينامون على بركات النظام الاجتماعي القائم. والمشكلة أيضا عدم شجاعة بقية الساسة والحكام، وقلة وضعف بصيرتهم، ومحدودية مشاريعهم الإصلاحية، وتشبثهم هم أيضا ب"النموذج " العتيد وبأوهام عظمة فرنسا حتى لغويا، لحد أن الرئيس الفرنسي غضب على رجل أعمال فرنسي يمثل أرباب العمل في الاتحاد الأوروبي لكونه تحدث باللغة الإنجليزية في الاجتماع الأخير للقمة الاتحادية وبحضوره!! ناهيكم عن الانفصام عن فهم تعقيدات الوضع الدولي، وعن العقدة الأمريكية المزمنة لدى الطبقة السياسية، وهو ما جعل الفرنسيين يقللون من شأن الإرهاب الإسلامي الذي نفذ جرائم تفجيرات نيويورك وواشنطن، متوهمين أن فرنسا منيعة ضد هذه الحرب الإرهابية. ومع مرور الزمن وتفجيرات لندن ومدريد، واكتشاف خلايا إرهابية ترسل الإرهابيين للعراق، شرعت فرنسا باتخاذ تدابير فعالة لمواجهة هذا الخطر الذي صار دوليا.
يرى المؤلف مارسيل أن الاستلام الراهن لنظام راكد وجامد الحركة يعني رفضا للمنافسة الدولية، وهو ما يضر بفرنسا نفسها اقتصادا وسوق عمل واتساع بطالة.
إذن لا بد من جرعة "حرب أهلية" سياسية وفكرية لتحقيق الإصلاحات الضرورية، يقودها مجددون شجعان وذوو صفاء وروح تضحية. إن الإصلاح أصعب من الثورة في نظره لكونه يصطدم بمواجهة من سيفقدون بعض امتيازاتهم لصالح الأعمار الصغيرة من الشباب. لقد قدم الحكم الاشتراكي وعودا ضخمة عن التغيير، وأوهم الشعب بقدرته على ذلك، ولكنه ظل في نفس النظام برغم الخطاب اليساروي الشعبوي المتطرف، بمهاجمة أرباب العمل "الذين يربحون وهم نائمون" كما قال زعيمهم ميتران!! كانت مواقف الاشتراكيين كما يقول تتميز بأقصى دهاء وخبث جعلا من شعار " أنا أولا" البرنامج المشترك اليساري.
من رأي المؤلف وغيره أنه يجب تحديث العقد الاجتماعي الفرنسي السائد، حيث أن المسألة لم تعد كما في القرن التاسع عشر رهانا بين الفاعلية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي. يجب "هز فرنسا المحميين " لحد النخاع لتحسين أحوال الآخرين، لاسيما ذوي الأقل عمرا، أي يجب إحداث انقطاع تام مع النظام لقلب "الباستيل الجديد" [ النظام]، "الذي يضم سكانا هم أضعاف الباستيل القديم."
من سيفعلون هذا الانقطاع ويجرؤن عليه؟
يقول المؤلف في آخر كلمات الكتاب: "وأخيرا، لا يهم لون الذي سيفرض هذا. وكما يقول مثل صيني: ـ " لا يهم أن يكون القط أسود أو أبيض، فالجوهري هو أن يصيد الفئران." ـ "!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف