البغي البعثية والتدييث العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قمة عربية، اخرى. ركام من المشكلات والأزمات والمآزق، تنتظرُ حلاً سحرياً ما. من المفروض، لكي يستقيم المعنى ، أن نجمع كلمة "حل" في الجملة الأخيرة؛ ولكن تأكيدنا على "السحر" ربما يفسر الأمر. إننا أمة من الحالمين، في اليقظة والغفوة سواءً بسواء. ميزان انعكاس هذا السلوك، يتجلى في إيماننا بالكهانة والتعزيم؛ بمعجزات خارقة كما في خرافات الأولين ، كخاتم الجنيّ وفانوس علاء الدين وبساط الريح. لقد تغيّر العالم من حولنا، ولكننا بحَوْل الغيبيات المعششة في ظلام الأدمغة، لا نتغير ولا نتحوّل.لم نلج بعدُ القرن الواحد والعشرين الميلادي، فما فتئنا في قرن الهجرة الأول؛ بكلّ ما كان فيه من أمثولات وعادات وأعراف وقيَم؛ بانشقاقات أولي الأمر وإفتراقات المِلل والفِرق. وما يسمى في حاضرنا "نظرية المؤامرة" وجدَ له أساس في تأكيد أسلافنا على "فتنة إبن سبأ"؛ بيقين أنّ مآسي عصرهم كلها كان مصدرها ذلك القرشي، المُظهر الإسلام والمُبطن يهوديته الأولى.
بين فتنة ومؤامرة، مصدرهما واحدٌ بحسب ما سبق، ينحصر الفكر العربي متقوقعاً على نفسه في عالم معاصر، منفتح ومتلاق. ففيما تترسّخ مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان كونياً وعلى مساحة القارات الخمس، وتتقلص رقعة الأنظمة الديكتاتورية والتوليتارية، فما زال معظم العالم العربي بمنأى عن هذا كله؛ لا بل والأنكى أنّ كل تلك المفاهيم بعرف تفكيرنا الضيّق و"نظريتنا التآمرية" ما هي إلا ذيول للعولمة الإمبريالية المهددة "فرادة" ثقافتنا وتراثنا وقيمنا.. وعقيدتنا، قبل كل شيء. وبما أنّ الفكر فيزيولوجياً مركزه الدماغ، فالرأس بطبيعة الحال هو "القمة" التي تتحكم بجسم الإنسان ككل. هذه القمة - بمنقلبها السياسيّ - هي حكوماتنا المناط بها رعاية مجتمعات الدول العربية، والمفترض حسن توجيهها وعقلانية قيادتها. فلنقلها، إذاً، بلا مواربة : ما أقل الحكومات العربية راهناً، المنشغل كل منها بتطوير شعوبه وتأمين إزدهار بلده والسعي للحاق بعالم مضطرد التقدم والتجدد. المفارقة هنا، أنّ الدول العربية الموسومة، دهراً، بنعوت الرجعية والتخلف والجهل، هي المبادرة منذ عقد ونيّف إلى محاولات الإصلاح والتحديث والإنفتاح؛ المحاولات المغيبة تماماً من قاموس الأنظمة الثوروية العقائدية، والتي ما برحت محكومة بالإستبداد والرعب والإرهاب والنهب والفساد.
إلا أنّ مفهوم "التضامن العربي"، بمعناه الرسمي تحديداً، ما زال هنا وهناك على الوتيرة نفسها من التوصيف والتعريف. فكلا المعسكران في عالمنا العربي، المنقسمان بين الحداثة والجمود، يلتقيان على أرضية ذاك المفهوم؛ مما يجعل من أيّ محاولة لإصلاح الخلل في العلاقات العربية أمراً مستحيلاً. الأدهى من ذلك، أن تعمُدَ النخبُ الحاكمة، المعتدلة والليبرالية، إلى التغطية على جرائم تلك الأنظمة الديكتاتورية وبالحجة السقيمة ذاتها؛ التضامن العربي. إنّ درسَ عراق صدام حسين ماثلٌ أمامنا الآن، فيما نحن نقرأ " الرسالة المفتوحة " للرفيق عزة الدوري، الموجهة لمؤتمر القمة العربية في الخرطوم. لا شك أن كثيرين من أقطاب وممثلي هذه القمة، قد تأثروا بثرثرة تلك الرسالة عن ضرورة الإعتراف بما أسمته " المقاومة " كممثل شرعي للشعب العراقي بدلاً من الحكومة " العميلة صنيعة الإحتلال "، بحسب المصدر نفسه. بيد أننا سنذكر اولئك القادة العرب بمشهد المصالحة، الحميم الحار، مع نظام الطاغية صدام، الذي إحتفل به مؤتمرالقمة العربية ببيروت عشية حرب تحرير العراق؛ وبتجاهل تلك القمة للرسالة الموجهة إليه من لدن المعارضة العراقية، آنذاك، تطالبُ اولئك القادة التضامنَ مع شعب بلاد الرافدين الجاثم تحت عسف الإرهاب والتسلط البعثي. كما هو معلوم لدينا، فقد أصمّتْ الحكومات العربية وقتئذٍ سمعها عن تلك المناشدة، مصرّة في الآن عينه على رفض الحوار مع المعارضة العراقية أو إستقبال قادتها؛ وربما بإستثناء دولة الكويت، لأسباب لا يجهلها أحد. لا يغيب عن بالنا، أنّ الإغراءات المالية المتهاطلة من نظام يدرك قرب نهايته، على دول عربية عديدة زعامات وولاءات ومعارضات..، هذه الإغراءات الممنوحة بسخاء من قبل البعث العراقي لتلك الدول، كانت هي الثمن المجزي لسكوتها عن جرائمه وإستباحاته لأرض الرافدين وجارتها الكويت. في حضيض نكوصه واحتضاره، يلعب النظام البعثي السوري، أيضا، على المسألة الاقتصادية، بسلوك مماثل لشقيقه المدحور في العراق؛ من إغراءات استثمارية متنوّعة لهذا الأمير الخليجي أو ذاك الملياردير المصري، فضلاً عن الاحتفاء " الحاتميّ " بالوفود البرلمانية والحزبية والنقابية القادمة إلى دمشق، تضامناً مع عرين العروبة بوجه الهجمة الإمبريالية الصهيونية الشرسة.
المفارقة هنا، أنّ رسالة الرفيق عزت الدوري للقمة العربية في الخرطوم، سبقتها رسالة إلى الجهة نفسها، مذيلة بإسم جماعة الأخوان المسلمين، السورية؛ هذه المعدة الفصيل الأكثر حيوية وتأثيراً في المعارضة المناهضة لحكم الرئيس الأسد. تلك الرسالة الأخيرة، تشرح واقع الشعب السوري بظل سلطة البعث؛ معددة جرائمها وتخبطاتها داخلياً وإقليمياً ودولياً، منوهة بعدوانيتها وطائفيتها وعنصريتها وبيّنة إرهابها المتجلي، بحسب الرسالة، في لبنان. لقد ألحقتْ الرسالة بمناشدة من لدن لجنة أمهات السوريين المفقودين في سجون النظام الرهيبة، منذ نهاية سبعينات القرن المنصرم، والذين يعدون حوالي عشرين ألفاً وفق أغلب المصادر الحقوقية المستقلة. لاحاجة هنا للجزم، بأنّ رسالة الرفيق الدوري تستعير لسان القيادة البعثية السورية، وأن توقيت إرسالها ما كان بمحض المصادفة؛ بل هو متوافق عليه بين الطرفيْن المذكوريْن تغطية ً على رسالة إخوان سورية من جهة، ومحاولة شرعنة الإرهاب في العراق، تحت مسمى " المقاومة "، من جهة اخرى. وعلى كل حال، لايبدو أنّ حظ رسالة المعارضة السورية لمؤتمر الخرطوم الحالي، سيكون بأحسن من حظ رسالة المعارضة العراقية لمؤتمر بيروت السابق؛ فكلاهما غابا في أدراج التضامن بين الأنظمة العربية، المعتدلة والمتطرفة.
بمناسبة تذكرنا لقمة بيروت، عطرة الذكر، لا بد من التنويه بحال لبنان؛ الضحية الاخرى للنظام الأمني السوري. من النافل هنا إستعادة " مآثر " البعثيين في هذه الدولة الجارة، الشقيقة، وعلى مدى ما يقارب الثلاثة عقود من الزمن. إلا أن ملف العلاقات السورية اللبنانية، المعقد الشائك، كان من المفترض أن يكون على رأس أعمال مؤتمر القمة العربي الحالي، في الخرطوم. ولكن ذلك أستبعد في اللحظة الأخيرة، وأضحى بحسب تعبير وسائل الإعلام، عبارة عن " دردشة أخوية " بين الرئيسْين بشار الأسد وأميل لحود. الملاحظ هنا، أنّ كلا الرئيسيْن أصرا على حضور مؤتمر القمة هذا، لجهة عزلتهما داخلياً وإقليمياً ودولياً. وإذا نحينا جانباً محاولة أميل لحود إثبات " شرعية " مقامه الرئاسي قدام أنداده من الزعماء العرب، على الأقل؛ فإن رفيقه السوري بقسمات وجهه البريئة، المرحة، سيكتسب مصداقية " براءته " من دم الحريري بتغطية من ذات الزعماء العرب، وكذلك بقرار مؤبد من قرارات إختتام مؤتمر القمة، الخاص بحق سورية في إستعادة أراضيها المحتلة من قبل إسرائيل. في كلا الحالتين، يبقى شعبا لبنان وسورية هما الخاسر الأكبر من إنعقاد قمة الخرطوم؛ بما هي عليه - كأي قمة - من دور ضئيل مقتصد، ومقنن في التضامن بين الأنظمة العربية، كما سبقت الإشارة إليه.