كتَّاب إيلاف

الحملة المسعورة ضد دمقرطة العراق

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قلت في مناسبة سابقة أن للجغرافية دوراً كبيراً في مسار أي بلد في تطوره الحضاري. فموقع العراق الجغرافي هو الذي اختاره ليكون مهداً للحضارة البشرية قبل 7 آلاف سنة، ولنفس السبب، صار العراق مهبط الأنبياء، ثم عاصمة الدنيا في العصر العباسي، ومركزاً لتأسيس المذاهب الإسلامية والحركات الفكرية في الإسلام... الخ. ولذلك ليس صدفة أن يصبح العراق في بداية القرن الحادي والعشرين البلد الأول في الشرق الأوسط الذي تولد فيه الحداثة والديمقراطية ويتحول إلى ساحة حرب طاحنة بين الحضارة والهمجية، بين أنصار الحداثة والديمقراطية ضد أنصار الاستبداد والإرهاب.

وما أشبه اليوم بالبارحة. يوم 14 تموز 1958 انطلقت الثورة العراقية ضد التخلف وحكم الإقطاع لإدخال العراق إلى عصر الحداثة والديمقراطية. الثورة التي قال عنها المستشرق الفرنسي، مكسيم رودنسون، أنها الثورة الوحيدة في البلاد العربية. فتكالبت عليها الدنيا وتحالفت ضدها أكثر من أربعين جهة لا يجمعها أي جامع سوى العداء لدمقرطة العراق وتحريره من التخلف. فتشكل حلف غير مقدس يجمع الجهات المتناقضة من عبدالناصر إلى شاه إيران وكميل شمعون والإستخبارات الغربية إلى الحركة الكرستانية والحوزة العلمية في النجف وغيرها. كل هذه الجهات ناصبت العداء للثورة العراقية ولأسباب مختلفة.. إلى أن تضافرت جهودهم فاغتالوا الثورة الوطنية التحررية في انقلابهم الدموي يوم 8 شباط 1963 الأسود. ومنذ ذلك اليوم الدامي دخل العراق في نفق مظلم وبلغ الظلم ذروته في عهد جرذ العوجة جلاد شعبنا صدام حسين.

واليوم يعيد التاريخ نفسه وعلى شكل مأساة وملهاة. ذات الجهات والجماعات التي تحالفت على ذبح العراق قبل 43 عاماً تحالفت اليوم لذبحه ولكل طرف أسبابه الخاصة به لإفشال تحرير العراق ودمقطته. والغريب أن حتى ضحايا صدام حسين من السنة والشيعة تقوم اليوم بذات الدور الذي لعبته قبل أكثر من أربعة عقود، فلم يتعلموا درساً ولم يستخلصوا عبرة من أخطائهم الماضية وهي مازالت حية في الذاكرة.

نعم، الكل يعمل جاهداً لإفشال العملية السياسية في العراق ويسيرون نحو الهاوية وهم نيام ويرقصون رقصة الموت وهم سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله لشديد. زعماء الدول العربية رغم كرههم لنظام صدام حسين، إلا إنهم يفضلون عراقاً منهكاً مفتتاً على عراق ديمقراطي مستقر مزدهر، وذلك خوفا من وصول عدوى الديمقراطية إلى شعوبهم وانهيار أنظمتهم المستبدة، لذلك يبعثون الإرهابيين للإمعان في قتل العراقيين وإفشال العملية السياسية.
إيران وسوريا تعملان على تدمير العراق وتثيران فيه القلاقل وتدعمان الإرهاب خوفاً من أن تعيد أمريكا التجربة ذاتها في بلديهما فأصرتا على إفشال العملية السياسة وبأي ثمن كان.
الأحزاب العربية السنية العراقية تعمل على إفشال العملية السياسية لأن السنة العرب يرفضون أن يكونوا متساوين مع بقية مكونات الشعب العراقي، بل يريدون أن يعيدوا عجلة التاريخ إلى الوراء لإعادة مجدهم الغابر في حكم العراق لوحدهم والاستحواذ على السلطة والثروة ومعاملة الآخرين كمواطنين من الدرجة العاشرة وأن يكون هم السادة وغيرهم عبيد.
الأحزاب الشيعية تريد إفشال الديمقراطية لأنها تحلم بحكم ولاية الفقيه وتسبح بحمد سيدها علي خامنئي وتدين له بالولاء وليس للعراق. فكما ذكر السيد أياد جمال الدين أن الأحزاب الشيعية الحاكمة في العراق أبقت في دساتيرها المادة الخاصة بالولاء لحكم ولاية الفقيه، أي مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران. ولا ننسى أن إيران تدفع الملايين بل المليارات للمليشيات الشيعية، مثل فيلق بدر وجيش المهدي، والتي تعمل ضد مصالحها الوطنية لخدمة القادة الإيرانيين، أولياء نعمتهم.
الحركات الإسلامية العربية ضد العراق الجديد لأنها تحلم بإقامة دولة الخلافة الإسلامية في العراق على غرار إمارة الطالبان في أفغانستان، ومنه ينطلق "المجاهدون" لتوسيع دولة الخلافة المنتظرة إلى باقي الدول الإسلامية وبقية العالم. وفلول البعث يحاربون العراق لأنهم فقدوا "فردوسهم" فيعملون لهدم المعبد عليهم وعلى أعدائهم متمثلين بقول شمشون "عليّ وعلى أعدائي يا رب، وليكن من بعدي الطوفان".

اليسار الأوربي والعالمي، يجهد ليل نهار لإفشال التجربة العراقية لأنها جاءت على يد أمريكا، فهي حاقدة على أمريكا ولا تريد النجاح لأية عملية تأتي عن طريق أمريكا حتى وإن كانت ديمقراطية لصالح الشعوب. فهذا اليسار مازال يلعق جراحه بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ويلقي باللائمة على أمريكا أنها هي التي عملت على إسقاط الاتحاد السوفيتي والأنظمة السائرة في فلكه. بينما الحقيقة أن المعسكر الاشتراكي أنهار من الداخل ولأسباب داخلية بحتة تتعلق بالإفلاس السياسي والاقتصادي والاخلاقي للأيديولوجية الشيوعية الشمولية. وكما فشلت هذه الأيديولوجية، فسوف تفشل جميع الأنظمة الأخرى ذات الأيديوليجيات الشمولية، الفاشية والنازية والإسلاموية وغيرها، إذ يجهل هؤلاء أن المستقبل للإنسانية وللعلم. ولم تبلغ الشعوب الغربية من تطور مدهش في الحضارة والحداثة والتقدم العلمي والتكنولوجي إلا بعد أن تحررت من الفاشية وفصلت الدين عن الدولة وتبنت الليبرالية والعلمانية الديمقراطية التي أطلقت العنان للعقل البشري للإبداع في جميع المجالات.

أجل، هناك تحرك مسعور في الغرب ضد تحرير العراق وتحت مختلف المسميات والذرائع والحجج. من ضمن هذه الحملة المسعورة، أثار الصديق جواد خلف انتباهنا إلى تحرك مشبوه في فرنسا، يقوم بها خليط من جهات لا يجمعها أي جامع سوى العداء لتحرير العراق وتحت اسم (مناهضة الحرب على العراق ولدعم الشعب العراقي). كتب الأخ جواد خلف مقالاً بهذا الخصوص، (الرابط في نهاية هذه المداخلة)، أنه دعي لحضور ندوة في مدينته في فرنسا، يتحدث فيها عريف أمريكي خدم في العراق وقام بتأليف كتاب "يفضح" فيه ممارسات الجيش الأمريكي. وكانت الأمسية من تنظيم اللجنة المعادية للحرب... تضم شيوعيين وأشتراكيين، وإسلامويين ومواطنة عراقية ادعت أنها أستاذة جامعية ... والمتحدث هو العريف الأمريكي، الذي اعترف أنه قتل عدداً من العراقيين بأوامر من قادته، وأنه نادم ولذلك ألف كتاباً لفضح الحرب. وما أن بدأ الصديق جواد خلف يوجه أسئلة محرجة للعريف الأمريكي حتى (أعترض المنظمون الشيوعيون الفرنسيون على أسئلته ولم يتمكن من مواصلة حديثه فانسحب). والمقرر من مناهضي الحرب أن يقيموا هذه الندوة في جميع المدن الفرنسية والترويج لكتاب هذا العريف الأمريكي، لإثارة الرأي العاما الفرنسي ضد القوات العربية التي حررت العراق من نظام البعث الفاشي، و ربما لتجنيد إرهابيين للذهاب إلى العراق وقتل شعبه وجمع التبرعات للإرهابيين، بحجة الدفاع عن الشعب العراقي.

حكاية العريف الأمريكي هذه تذكرني بقصة كتب عنها قبل سنوات الصديق يوسف أبو الفوز عن مقابلة صحفية مع تلميذة روسية في السنة الأخيرة من الدراسة الإعدادية. سألها الصحفي عما تريد أن تكون في المستقبل. فأجابت أنها تريد أن تمارس الدعارة لمدة عامين، لتجمع كمية من المال لكي تشتري شقة لها ومن ثم تتزوج وتعيش بشرف!!
هذه قيمة الشرف في زمن ضاعت فيه المعايير والقيم. فيمكن للإنسان ممارسة أخس الأعمال انحطاطاً ومن ثم يعيش "بشرف" . فأي شرف هذا؟ الجندي الأمريكي تطوع في الجيش بملء إرادته وتوجه إلى العراق وقتل عراقيين على حد زعمه، ولم يقل لنا من هم هؤلاء العراقيون الذين قتلهم. هل هم من الإرهابيين من أتباع الزرقاوي؟ هل هم من فلول النظام البائد؟ أم من الأبرياء؟ فإن كان الضحايا أبرياء فهو عاهر ومجرم حرب ولا يستحق كل هذه الحفاوة به وبكتابه، وإن قتل إرهابيين فهذا واجبه ولم الندم؟ فهذا هو واجب الجندي في الحرب، خاصة في الحرب على الإرهاب. ولكن لهذا الجندي قصد آخر.. فكما استفاد من دوره في الحرب، يريد الآن أن يضاعف أرباحه لما بعد الحرب، فبعد أن تسرح من الجيش، ألف كتاباً وراح يبيع شرفه لمن يشتريه من مناهضي الحرب على البعث، ليعلن أنه كان "مجرم حرب". فهل حقاً تأنيب الضمير هو الدافع وراء تأليف كتابه هذا وخيانة واجبه ووطنه كجندي؟ أم أنه تصرف مثل تلك التلميذة الروسية، تمارس الدعارة يوماً لتعيش "بشرف" يوماً آخر وتستفيد من جميع الظروف؟

أجل، نحن في زمن ضاعت فيه القيم والمعايير وتساوى فيه الشرف والدعارة. فالانحياز للإرهاب والقيام بحملات جمع تبرعات تحت مختلف المسميات هي عملية إنسانية وتقدمية تسمى (مناهضة الحرب على الشعب العراقي)، لتذهب هذه الأموال إلى الإرهابيين الذين يذبحون العراقيين وغير العراقيين من الأبرياء، ذبح النعاج وأمام الكاميرات لتنشر على شاشات التلفزة وبصيحات الله اكبر وبمباركة من اليسار الأوربي وأئمة المساجد وفقهاء الإرهاب ودعاة الموت وأعداء الحياة.

مسألة أخرى تشير إلى ضياع المعايير في هذا الزمن الأغبر. إذ سمع الجميع بقصة نورمان كمبر Norman Kember الإنكليزي المناهض للحرب و الذي ذهب إلى العراق مع ثلاثة زملاء له، أمريكي وإثنين من كندا يعملون في منظمة تطلق على نفسها (فرق صانعي السلام المسيحي Christian Peacemaker Teams)، فتم اختطافهم من قبل جماعة إرهابية في بغداد تدعى بـ(كتيبة الحق) في تشرين الثاني/نوفمبر 2005 وقتلوا الأمريكي توم فوكس، وتم تحرير الثلاثة الآخرين من قبل قوات SAS البريطانية قبل أيام في عملية معقدة استغرقت عدة أشهر وكلفت دافعي الضرائب البريطانيين عدة ملايين من الدولارات. ولكن بعد تحريرهم، رفض نورمان كمبر حتى تقديم الشكر إلى منقذيهم، مما أثار سخط الرأي العام البريطاني عليه، فاضطر أخيراً توجيه الشكر للجنود تحت ضغط الرأي العام وعلى مضض. وبهذا الخصوص كتبت الصحفية البريطانية ميلاني فيليبس، في الديلي ميل اللندنية يوم 27/3 مقالاً بعنوان (مناهضو الحرب المزيفون The phony pacifists) انتقدت فيه منظمة (فرق صانعي السلام المسيحي) قالت فيه: "أن غرض هؤلاء (كمبر ورفاقه) من الذهاب إلى العراق ليس لتنبيه العالم ضد شرور العنف في العراق، بل لإثارة سخط العالم ضد القوات الغربية، ليس ضد شرور الإرهاب، بل ضد الحملة في مواجهة الإرهاب، ليس ضد شرور القاعدة، بل ضد الديمقراطية الغربية..." وأضافت الكاتبة: "وكما قال العراقيون في كندا في بيان لهم عن "صانعي السلام، أن هؤلاء يشاركون الجهاديين في خطابهم، وحتى لو كانت بدافع السذاجة. إن فرق السلام المسيحي وقفوا بقصد إلى جانب الفاشييين، الموالين إلى صدام حسين والقاعدة في العراق" وأن موقف مناهضي الحرب ضد الغرب ليس بالأمر الجديد، إذ له سوابق. ففي عام 1945، كتب جورج أوريل: إن دعاية مناهضي الحرب تميل إلى القول أن أي جانب من المحاربين لا يقل سوءاً عن الجانب الآخر، ولكن إذا نظرنا بتأمل وعن قرب إلى كتابات الشباب من مناهضي الحرب، نرى أنهم ليسوا محايدين في رفضهم، بل إن رفضهم موجه كلياً ضد بريطانيا وأمريكا." وتواصل الكاتبة قولها: " نشكر الله أن نورمان كمبر حي وآمن. وعلى أي حال، فالأيديولوجية التي قادته إلى هذا الخطر، تبقى تهديداً خطيراً لأولئك الذين ساهموا في النضال العسير من أجل الحياة والحرية".
أجل، إن أيديولوجية مناهضي الحرب ومعاداة تحرير العراق ودمقرطته، وتحت مختلف الأسماء، تدعي أنها ضد الحرب وتذرف دموع التماسيح على الشعب العراقي، ولكن في الحقيقة هي تدافع عن الإرهابيين وأعداء الحرية والديمقراطية والذين يعملون على تدمير الحضارة وعودة البشرية إلى شريعة الغاب.

عود على بدء، أود تذكير الجهات والجماعات المتحالفة في هذا الحلف غير المقدس، أن هناك حقيقة واحدة لصالح دمقرطة العراق ونجاح العملية السياسية فيه. نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين وقد دارت بوصلة التاريخ 180 درجة في الاتجاه المعاكس لما كانت عليه قبل 43 عاماً. فإذا كانت ظروف الحرب الباردة والصراع مع المعسكر الاشتراكي آنذاك قررت وقوف أمريكا وبريطانيا إلى جانب أعداء العراق وذبح ثورتنا، ثورة 14 تموز المجيدة وقيادتها الوطنية المخلصة وعلى رأسها الشهيد الزعيم عبدالكريم قاسم، فاليوم وبعد انتهاء الحرب الباردة لصالح الغرب وانهيار المعسكر الاشتراكي، فالدولة العظمى، أمريكا وحليفتها بريطانيا اقتضت مصلحتهما أن تقفا إلى جانب شعبنا في معركته المصيرية من أجل الحرية والديمقراطية. لذلك وبجهود الطلائع المتنورة من قوى شعبنا ودعم حلفائنا فستكون الهزيمة من نصيب أعداء، والنصر المؤزر سيكون حتماً إلى جانب شعبنا المناضل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف