كتَّاب إيلاف

هل العلمانية الإسلامية هي الحل؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

اعترف بأن كثيراً من القراء سوف يرفعون حواجب أعينهم إما تعجباً وإما استنكاراً لهذا العنوان ولهذه المعالجة. سيما وأن معظم رجال الدين وفئة أخرى من الليبراليين الرومانسيين الطفوليين قد رسخوا في الرأي العام العربي فكرة العداء المطلق بين الدين وبين العلمانية منذ فجر القرن العشرين وحتى اليوم. ولكن لا بُدَّ لهذا الاستنكار والتعجب أن يزول بعد أن يعرفوا أن لا قراءة واحدة وحيدة للقرآن. وأن (القرآن الكريم حمّال أوجه) كما قال عمر بن الخطاب ومن بعده عثمان بن عفان ومجموعة من الصحابة. وحتى الآن لم يفهم جمهور المسلمين المعنى الحقيقي من عبارة (القرآن حمّال أوجه) وهو معنى اطلاق الحرية الكاملة لقراءة القرآن الكريم بالطريقة التي يختارها القراء من أهل العرفان والبرهان وعدم الحجر أو الاقتصار على طريقة واحدة وتوجه واحد. ولكن ما زال المسلمون من عرب وعجم يحاربون ويقتلون كل من يقرأ القرآن الكريم على وجه غير وجه السلطة الدينية الحاكمة في بلد من البلدان.

وفي العصر الحديث أفرز القرآن الكريم عدة قراءات رئيسية. وما نعني بالقراءات هنا ليست القراءات الترتيلية السبع المعروفة، ولكن القراءات التفسيرية والقراءات العلمية الموضوعية. فالقرآن نص تاريخي أمامنا. وهو كأي نص تاريخي خاضع لتنوع القراءات العلمية الموضوعية لأي نص تاريخي، لا تقف مع النص ولا تقف ضده، وانما تقف منه موقف الحياد، حيث تدخل عليه مجردة من أي سلاح أو فكرة مسبقة أو نية مبيتة، صادقة كانت أو كاذبة. فهناك عدة قراءات للقرآن منها القراءة المعرفية التي تقوم على سيسيولوجيا الأديان وعلم الأديان المقارن. وهناك القراءة الأيديولوجية التي تدخل إلى القرآن الكريم إما إلى صفِّه تماماً أو ضده تماماً. وهناك القراءة الحرفية للقرآن والتي لا تخرج عن المعنى الحرفي للكلمة، وهي القراءة التي يأخذ بها كثير من السلفيين وكثير من الملحدين أيضاً دون ملاحظة خصوصية اللغة القرآنية، ودون الاطلاع على القاموس اللغوي القرآني . وهذه القراءة الحرفية للقرآن لا يمكن إلا أن تقود إلى الارهاب الذي نراه اليوم. وهناك القراءة التأويلية الاعتزالية. وهناك القراءة التأويلية الفلسفية التي تستعين بتاريخ الفلسفة الإنسانية لفهم القرآن الكريم. وهناك القراءة المقاصدية للشيخين التونسيين الطاهر عاشور والشاطبي والمغربي علال الفاسي الذين كتبوا ثلاثتهم كتباً عن مقاصد الشريعة، والعبرة عندهم بمقاصد الشريعة هي "درء المفسدة مُقدمٌ على جلب المصلحة". وهناك القراءة التاريخية، وهي قراءة القرآن الكريم ضمن قيم العصر والسياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي جاء فيه، وخاصة فيما يتعلق بالتشريع الاجتماعي والاقتصادي. وهناك القراءة الصوفية الرمزية. وكل هذه القراءات لا تنطبق على القرآن الكريم فقط، ولكنها تنطبق على كل كتب الأديان السماوية والأرضية كذلك، بل وينطبق جزء منها على التاريخ البشري أيضاً القديم والحديث.

فهل العلمانية الإسلامية من المعاني التي تضمنها القرآن الكريم؟
الإسلام أقرب الأديان إلى العلمانية!
"العلمانية الإسلامية" مصطلح جديد نطرحه اليوم. وهو مصطلح مُفزع ومقلق لكثير من رجال الدين وبعض الليبراليين الرومانسيين. وهو مصطلح جديد في التسمية ولكنه قديم في التطبيق. نرى أن العمل به الآن هو الدواء الناجع والواقعي والعملي للرد على بعض رجال الدين من اتهام العلمانية والعلمانيين العرب بالالحاد. ومن ذلك قول راشد الغنوشي من أن "الطرح العلماني لعلاقة الدين بالدولة متأثر بالنمط الغربي ولا سيما في صورته الفرنسية والشيوعية المتطرفة" (مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام) وقول الشيخ يوسف القرضاوي من أن "العلمانية إلحاد" كما في كتابه (الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه ، 1987).
فإذا أردنا الاصلاح العلماني السياسي على وجه الخصوص، فليكن من داخل الإسلام وليس من خارجه. والعلمانية هي طريق الإصلاح. ولا طريق لعلمانية تطبيقية غير طريق "العلمانية الإسلامية" التي نجح في تطبيقها أول الحكام العلمانيين العرب المسلمين، وهو الخليفة معاوية بن أبي سفيان.
مصطلح "العلمانية الإسلامية" إذن جديد، ولكنه كان واقعاً موجوداً ومطبقاً جزئياً وفي الناحية المالية، منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان الذي فصل جزئياً وخاصة في مجال المال العام بين الدين والسياسة وقال قولته المشهورة: "لقد كان عمر بن الخطاب يمنع أهله عن بيت المال إرضاءً لله، وأنا أعطي أهلي من بيت المال إرضاءً لله". وذلك تعليقاً على الذين احتجوا وثاروا عليه لتخصيصه بني أمية بأكبر حجم من أموال بيت مال المسلمين، وتخصيص المناصب العليا من ولاة وغيرهم لهم، وهو يعتبر بذلك أول حاكم عربي في التاريخ العربي الإسلامي أقرَّ وطبَّق سياسة "المحاصصة" المعروفة اليوم في العالم العربي بين الطوائف الدينية والعرقية، والتي ورثها عثمان عن أبي بكر في "حادثة السقيفة" يوم قال له الأنصار "منكم أمير ومنا أمير" فقال لهم "منا الأمراء، ومنكم الوزراء" وأردف: " إن الخليفة يجب أن يكون قرشيّاً، إذ إن الناس لا يطيعون إلا هذا الحيّ من العرب " . وأبو بكر ورث نظام "المحاصصة" من الرسول الذي وزع غنائم "غزوة حنين" على أهله وعشيرته وحرم منها الأنصار، حتى ظنَّ الأنصار أنه لقى أهله فنسى ما عداهم. وجعل من قبيلة قريش صاحبة الحق الوحيدة في الخلافة عندما قال (الآئمة منَّا أهل البيت)، وكذلك (الآئمة من قريش). والخليفة عثمان هو الذي كان يعذب المعارضة وينفيها كما فعل بأبي ذر الغفاري، حين نفاه إلى صحراء "الربذة" شرق المدينة المنورة، لأنه كان يقول له "اتقِّ الله ". والخليفة عثمان، هو أول من ابتدأ باقامة العقوبات السياسية، فاصلاً الدين عن الدولة. كما يعتبر الخليفة عثمان الحاكم العربي الأول الذي صنع تاج بني أمية الملكي، ووضعه على رأس معاوية بن أبي سفيان الذي أكمل علمانية الخليفة عثمان، وزاد عليها، وفصل كليةً بين الدين والسياسة. وهزم السياسي معاوية رجل الدين التقي علي بن أبي طالب بمؤازرة أحزاب سياسية كانت على الساحة منها حزب عمرو بن العاص، وحزب السيدة عائشة زوج الرسول وغيرهما. وسار على هذا النهج كافة خلفاء بني أمية ما عدا عمر بن عبد العزيز. وتبعهم خلفاء بني العباس، وكان الأمويون في الأندلس على المنهاج نفسه. وهذه الأحداث كلها من "غزوة حنين" إلى انتهاء الدولة العباسية كلها دالة على فصل الدين عن الدولة، وهي علامة من علامات العلمانية. وكذلك كان ملوك الطوائف بعد سقوط الدولة العباسية 1517 وبدء الاستعمار العثماني للعالم العربي على هذا المنوال . وكانت الخلافة الإسلامية العثمانية قد فصلت الدين عن السياسة بأكثر مما فعلت الخلافتان الأموية والعباسية بحيث أن كمال اتاتورك عندما أسقط هذه الخلافة الإسلامية عام 1924، لم يجد شيئاً جدياً يسقطه فقام ببعض التصرفات الشكلية الحمقاء منها منع الحج لعدة سنوات، وتحويل بعض المساجد إلى متاحف، وخلع اللباس التقليدي.. الخ، مما دفع بعض المفكرين كمحمد أركون إلى إطلاق صفة "الشيوعية" على حركة أتاتورك وليس "العلمانية" والتي كانت من أهم الأسباب في تعثر تقدم العلمانية في العالم العربي إذ يتخذ رجال الدين من المثال الأتاتوركي العلماني - وهو قياس فاسد- وسيلة لتنفير الشارع العربي من العلمانية كما قلنا في كتابنا (الفكر العربي في القرن العشرين ، الجزء الثاني، 2001). ويعجبني في هذا المقام قول راوية الحديث الأشهر أبي هريرة، وكأنه كان يضع أسس العلمانية الإسلامية دون أن يدري فيقول : " أصلي وراء علي فالصلاة وراء علي أفضل، وآكل على مائدة معاوية فالأكل على مائدة معاوية أدسم، وأجلس على الربوة والجلوس على الربوة أسلم".
والمسلمون الذين بايعوا معاوية على الخلافة، بعد استشهاد علي بن أبي طالب، كانوا يضعون بذلك أسس العلمانية الإسلامية عندما قالوا لمعاوية كشرط لمبايعته: "نحن للأمة في أمور دينها، وأنت للأمة في أمور دنياها". وهذا التقسيم للعمل بين الخلفاء والفقهاء، بذرة علمانية إسلامية واضحة، يا ليتنا اليوم نسمعها من فقهائنا الذين غرقوا في السياسة، وأغرقوا معهم الشارع العربي.
ومعاوية نفسه أسس مقدمات العلمانية الإسلامية عندما توقف عن الصلاة بالناس، وسمّى إماماً يصلي بالناس بدلاً منه. وهذا التقسيم بين إمامة الدولة وإمامة الصلاة كان مشروع دولة علمانية، لم يكتمل بعد. ومن المعروف أن الخلفاء بعد معاوية توقفوا عن الصلاة بالناس .

مستقبل العلمانية في العالم العربي
الطريق إلى العلمانية في العالم العربي مستقبلاً لن تكون إلا من داخل الإسلام وليس من خارجه، بعد أن فشلت جهود الكثيرين من اليساريين من قوميين وماركسيين وشيوعيين وحتى إسلاميين (علي عبد الرازق وخالد محمد خالد واليوم جمال البنا مثالاً) في المناداة بالعلمانية بعيداً عن الإسلام، وبعد أن نجحت دعوة الكثير من رجال الدين في مهاجمة العلمانية من داخل الإسلام واتهام العلمانيين بالإلحاد، وأنهم خوارج هذا الزمان. وبذا، يكون الرد الشافي على رجال الدين المتعصبين هو الدعوة للعلمانية من داخل الإسلام، وليس من خارجه كما أخطأنا في الماضي، وضاعت جهودنا سدىً على مدار أكثر من نصف قرن مضى. وهذا يستدعي العلم الوافي، وهو السلاح الذي تسلّح به الشيخ علي عبد الرازق والشيخ خالد محمد خالد والشيخ خليل عبد الكريم ويتسلح به الآن الشيخ التنويري جمال البنا وأحمد صبحي منصور الذي يقول بأن "أقرب دين إلى العلمانية هو الإسلام".
ولعل تجديد الدعوة إلى "العلمانية الإسلامية" سوف يقود إلى دعوة "العلمانية الدينية" التي ستضم غير المسلمين وغير العرب إلى صفوفها، كما سوف تترجم معنى الدعوة إلى "الليبرالية الجديدة" من داخل التراث وليس من خارجه، بعد أن تُعاد قراءة التراث قراءة علمية نقدية منصفة، وبتم فرز الواقعي الصالح من الخيالي الأسطوري.

أين عَلمانية الإسلام؟
فهل هناك الآن علمانية داخل الإسلام تصلح لنا في هذا الزمان ويمكن تطبيقها على واقعنا المعاصر لكي نحييها وننفض الكِلس الذي تراكم عليها منذ 1400 سنة، ونرى مدى صلاحيتها للاتباع والتطبيق في عصرنا الحديث؟
وهل الإسلام دين عَلماني في منشئه وقيامه وانتشاره؟
أن المظاهر الإسلامية التالية دليل على أن في داخل الإسلام علمانية نحن نبحث عنها الآن، ومنها:
1- إن حرية الاعتقاد التي منحها الإسلام القرآني وليس اسلام الفقهاء للانسان، هي جزء من حرية الاعتقاد التي تنادي بها العلمانية التي تتيح هي الأخرى للانسان أن يكون حراً فيما يعتقد. والقرآن فضّل الإيمان على الكفر، ولكنه لم يُجبر على الإيمان : ) فإن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر ( (الزمر:7) وقوله: ) إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( (القصص:56) والمشيئة هنا ليست لله ولكنها للانسان الذي يشاء أن يهتدي، أو لا يشاء. وإن الله يهدي من العباد من يشاء أن يهتدي. وتلك أيضاً من حرية الاعتقاد والايمان التي هي جزء من الحرية التي تنادي بها العلمانية. وهنا نرى أن الفعل والمشيئة الإنسانية تسبق الفعل الإلهي الذي يأتي في النهاية لكي يبارك هذا الفعل وهذه المشيئة. ) والذين اهتدوا زادهم هدى ( (محمد:17). وهو دليل على أن الفعل الانساني سابق على الفعل الإلهي، وأن الفعل الإلهي يأتي لاحقاً ليبارك الفعل الانساني. وسنرى بالمقابل أن كثيراً من الملحدين يردون على الآيات بآيات تبدو لأول قراءة حرفية لها بأنها آيات متناقضة مع الآيات التي أوردناها . ولكن يبقى الطابع العام لمبادئ الحرية التي نادى بها الإسلام القرآني هو طابع الحرية العامة في المعتقد. وما مثال حروب الردة الذي يسوقه البعض للتدليل على عدم الحرية بالمعتقد إلا (قياس فاسد) كما يقول الفلاسفة. فحروب الردة لم تكن ردة على الإسلام بقدر ما كانت ردة عن دفع الزكاة وهو أمر مالي بحت كان يمكن معالجته بالطرق السلمية، لولا حاجة الدولة الإسلامية الفتية الملحة لأموال الزكاة في ذلك الوقت.
2- وإرادة التغيير لا بُدَّ أن تكون في البداية من داخل الانسان ) إن الله لا يغير ما في قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( (الرعد:11). لقد كان الخطأ المعرفي الأكبر للشيخ علي عبد الرازق أنه أنكر في كتابه (الإسلام وأصول الحكم، 1925) كليةً علاقة السياسة بالإسلام، كم أنكر أن الخلافة من الإسلام. وقد ردَّ عليه في حينها الشيخ محمد رشيد رضا بقوله في مقاله بجريدة (اللواء المصري، 8/6/1925) (إن أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه، أنه هدمٌ لحكم الإسلام وشرعه من أساسه وتفريق لجماعته وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية الدنيوية من أحكام شخصية وسياسية ومدنية وجنائية وتجهيل للمسلمين كافة). وهي نفس التعليقات التي تقال اليوم عن الكتب العلمانية تقريباً. وردد ما قاله علي عبد الرازق مفكرون معاصرون أيضاً مثل المفكر التونسي ووزير التعليم السابق محمد الشرفي في كتابه (الالتباس التاريخي في اشكالية الإسلام والحرية، 2002). فعلي عبد الرازق في كتابه، لا يدعو إلى فصل الدين عن الدولة فقط، بل ينكر صلة الدين بالسياسة أصلاً. وربما كان هذا المنحى الذي ذهب إليه قد أضعف حجّته أمام خصومه ومنتقديه. والمنطق الشارح السليم هو الاعتراف بعلاقة الإسلام بالسياسة وبأن الإسلام كان دولة قبل أن يكون ديناً مكتملاً، والدليل قيام "دولة الرسول بالمدينة" قبل اكتمال الدين، وفي الأيام الأولى للهجرة. ولكن هذه الدولة وما تبعها من دولة الراشدين (أبو بكر وعمر) لا تصلح لنا الآن لتغير الضرورة التاريخية. وما يصلح لنا هو دولة قريبة من دولة معاوية العلمانية، ولكن بطابع حديث.
(للبحث صلة).

Shakerfa@Comcast.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف