كتَّاب إيلاف

الإرهاب في العراق: الانحطاط بصفته ثقافة!!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عندما تتجاوز الجريـمة حدودها، حتى بصفتها البشعة كجريمة، فهي تؤدي بالضحية إلى موقفـين. الأول هو الدفاع الـمشروع عن النفس من موقع الواعي لـموقفه وحقه الطبيعي هذا. أما الموقف الثاني فيقوده الى واحدة من حالتين، هـما وجهان لعملة واحدة، الأولى أن يتلبسه مناخ الجريـمة التي تعرض لـها، فيصبح منتقماً لا مدافعاً فقط، حيث يسقط تحت وطأة ثقافة الإجرام ذاتـها لأنه يتجاوز على القوانين والأعراف. والثانية هو أن يتواطأ ضد نفسه، بـمعنى أن يـبرر للمجرم جريمته ويـخضع لنتائجها، أي أن يتخاذل تاركاً للمجرم أن يكرر جريـمته بقدر ما يستطيع !! وعلى أساس هذه الاحتمالات التي تحرك طرفي الدراما، أي الجلاد والضحية، نستطيع أن نلاحظ حركة الخط البيانـي لنوعية وتأثيـر القيم الأخلاقية عند كل طرف، وفي كل موقف والـمضاعفات الـمترتبة عليه، الـمضاعفات التي تتراكم فتأخذ على عاتقها حفر ملامح جديدة للشخصية الـمعنية بطريقة يصعب معها توقع التراجع عن تأثير تلك الـمضاعفات والعودة الى الشكل الذي كان عليه ذلك الطرف قبل أرتكاب الجريمة أو أستقبالـها .
لنتذكر (صورة دوريان جراي) في رواية أوسكار وايلد الشهـيرة، حيث لـم يعد أمام جراي في النهاية سوى أن يقتل نفسه، بطعن صورته أي ذاته، بعد أن تحولت إلى مسخ، لكثرة ما انعكست عليها مضاعفات ذنوبه وجرائمه التي كان يرتكبها دون أن يجد من يردعه فتعفنت براءته دون أن يشعر بذلك !! لكن وبعد أن وصل الأمر به لحدود لا تـُحتمل، ولـم يعد بالإمكان التراجع عنها، كان لا بد أن يُفاجَأ، في اللحظة الأخيرة، ببشاعة صورته التي تـحولت الى مسخ أكثر من كونـها صورة، فكان لا بد من أن يطعنها، أي أن يقتل نفسه لكي يستريح منها ومن ذنوبه التي لم تعد تحتمل.

هذا السياق المضطرب من الفعل ورد الفعل، من الأسباب والنتائج الذي صاغه أوسكار وايلد بطريقة منطقية جداً وإلا لما كانت روايته مقنعة ومتفردة، هذا السياق يظل يتداعى إلى ذهني كلما تأملت الشخصية الدميمة للتكفيري الانتحاري وما تنطوي عليه من خطورة، ليس على شخصيته الانتحارية فقط، بل وعلى الثقافة العربية برمتها، على الجمهور العربي وسوية مشاعره، فنحن أمام جرائم مدوية بحق الإنسانية يذهب ضحيتها مئات الأبرياء في العراق شهرياً، ولكن وسط صمت عربيّ ٍ غريب، صمت الاكاديميات العربية والمراجع الدينية والمثقفين والمفكرين والأدباء، ما ساعد على أرتفاع أصوات إعلامية مبحوحة بالرشوة والطائفية بين وقت وآخر، تدافع عن هؤلاء المجرمين التكفيريين والصداميين مدعيةً التفريق بين (المقاومة) والارهاب، في حين نقلت جريدة (الحقيقة الدولية) الأردنية قبل أيام من أن الأرهابي المعروف بتطرفه الاجرامي (أبو مصعب الزرقاوي قد تعهد لقادة المقاومة العراقية بأنه سوف لن يأمر بتنفيذ عمليات إنتحارية في الأردن لأنها تؤثر على مصالح العراقيين في الأردن) لن نسأل عن أي نوع من العراقيين يحرص الزرقاوي على مصالحهم !! بل ما يهمنا هو الدلالة الواضحة لهذا الاتفاق الذي يعني وجود تعاون وتنسيق مباشر بين (قادة المقاومة العراقية) وبين الارهابي الأردني الزرقاوي. ولو قارنا بين مئات الضحايا المدنيين الذين يسقطون شهرياً في الأسواق ومواقع العمل وبين العدد الضئيل من الجنود الأمريكان، سنرى بوضوح أي نوع من (المقاومة الشريفة) هذه !! ومقابل هذه الحقائق نجد الوقاحة المفرطة التي يجاهر بها بعض الإعلاميين العرب في دعم الإرهاب، فقبل أيام شاهدنا على (قناة الجزيرة) حواراً مع صحفي فلسطيني صدر له كتاب عن القاعدة مؤخراً، وحين يسأله مقدم البرنامج مستغرباً عن تغافله لهذه الجرائم المروعة التي ترتكب في العراق يومياً، يقول الصحفي الموقر (أصبحت الأساليب مختلفة لأن الظروف أختلفت) !! وحين يزداد استغراب المقدم يقول الصحفي الموقر (حدثت تجاوزات من جميع الأطراف وليس من القاعدة فقط) فهل هناك دفاع عن القتلة والارهابيين أكثر وضوحاً من هذا ؟!

أن بعضاً آخر من الإعلاميين يريد لوي عنق الحقيقة لتبرير منطقه، فيدعي أن ما يجري في العراق هو حرب طائفية !! بينما يأتي أرهابي ليفجر نفسه في تجمع من العمال المياومين في الكاظمية ببغداد فيقتل أكثر من مائة وعشرين عاملاً بينهم أكثر من ثلاثين من أبناء الطائفة السنية والبقية من الطائفة الشيعية !! فلأي طائفة ينتمي هذا الإرهابي وعن أية طائفة يدافع ؟! بعد أيام من هذه المجزرة تقوم القوات الأمنية بإلقاء القبض على أكثر من مائة إرهابي في محافظة ديالى ويكون ما يقارب ثلثهم من الشيعة حسب تصريحات الضابط الذي قاد العملية !! فهل تحمل هذه الحقائق ومثلها الكثير طبيعة طائفية للصراع حقاً ؟! وماذا يعني قيام الإرهابيين بتصفية العديد من الشخصيات السنية المعتدلة بما فيهم رجال دين ومسؤولين في (الحزب الإسلامي) وبتأكيد مسؤولين وناشطين في الحركات السنية !! فعن أية حرب طائفية يتحدث البعض حقاً ؟! والإرهابي اليمني الذي ألقى القبض عليه حارس مدرسة أبتدائية قبل أيام في بغداد وهو مزنر بحزام ناسف وكان يريد تفجير نفسه بأطفال المدرسة !! إلى أية طائفة ينتمي هذا المجرم ؟! أية طائفة تبيح قتل الأطفال الأبرياء بهذه الطريقة الهمجية.
أن هؤلاء الإرهابيين المثقلين بمشاعر الذنب وسوء التربية واضطراب السلوك إنـما يفعلون ذلك ضمن آلية تدفـعهم دفعاً لارتكاب الجريـمة دون أن يكونوا قادرين على التحكم بـها، هي آلية أو مناخ البراءة الـمتـعفنة التي أصبحوا يعيشون داخلها كما لو كانت أمراً طبيعياً !! إنها عقدة دوريان جراي، شخصيات مضطربة مثقلة بالشعور بالذنب بسبب سوء التربية والتدين المتخلف حيث تنقلب صورة الإسلام العظيم دين الرحمة والمحبة في مرايا عقولهم المقعرة إلى مجرد رعب من العقاب الإلهي !! فيحدث أن يتلقفهم دعاة الإرهاب فتتم تربيتهم على مباديء (القاعدة) المعروفة لينخرطوا في الأعمال الجهنمية (فالرعب الناتج عن هذه الأعمال سيهز الجماهير كي ترى الحقيقة) !! و (كل من يشارك في البرلمان أو له علاقة بالانتخابات فهو رافض للقرآن جملة وتفصيلاً، وكل مسلم يرفض القرآن يجب قتله) هذه هي مباديء التكفيريين التي يبررون بها إرهابهم !!
لقد تم تشويه الحقائق دائماً فيما يدور في العراق، فبدل الحديث عن جرائم الإرهابيين وفضحها، يدور الحديث عن حرب طائفية، أو عن ما يسمى ب (فرق الموت) الذي يدعي البعض إنها تابعة لأجهزة حكومية، في حين تؤكد وزارتا الدفاع والداخلية بالوقائع والمسميات اختراق الارهابيين لأجهزتهما وقيامهم بتنفيذ العديد من الجرائم وهم بالملابس الرسمية بقصد تشويه سمعة النظام الجديد، وأصبح واضحاً بموازاة ذلك استخدام الارهابيين للملابس الرسمية للوزارتين وهي سهلة المنال لأنها تباع في الأسواق، للقيام بجرائمهم المروعة لنفس الأسباب: أشاعة الرعب والرعب والرعب ليتحول الرعب طريقة حياة لهم ولضحاياهم !! ويأخذ هذا العصاب الـمرضي البغيض طابعه الـمبرمج بشكل متصاعد مادامت عصابات النظام البائد جاهزة للتستر على أماكن الارهابيين وتسهيل نشاطهم ودعمهم بكل ما يحتاجون إليه ما دام هناك من يدعم هذا الإرهاب بالمال والإعلام مباشرة أو مداورة !!
إن حالة الـهستيريا الجماعية الكامنة في أعماق هؤلاء الـمجرمين، وهي حالة اضطراب شاذة، تحولت بالتراكم الى ثقافة، أي طريقة حياة، وهي حياة مـهددة دائماً بـهواجس الرعب من الآخرين، لا تجد خلاصاً لـها من الكوابيس والذنوب إلا بأوهام الدخول إلى الجنة، فهناك المزيد من الفتاوى الرخيصة التي تبيح الإرهاب يقدمها (رجال دين) لا يقلون مرضاً وانحطاطاًً عن هؤلاء المجرمين.
إن مشكلة هذه الثقافة الـمضطربة تكمن في كونـها لا تستطيع العودة بـحامليها الى سويتهم الطبيعية فقد وصلوا بذنوبهم إلى نقطة اللاعودة، لذلك فهم غير قادرين إلا على إنتاج الإضطراب والرعب وتعميمه على الآخرين، والأخطر من ذلك أنهم يجدون من يسمي جرائمهم هذه مقاومةً وجهاداً !! فهل هناك فضيحة أكبر من هذه ؟!


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف