كتَّاب إيلاف

فقه الكراهية والحب .. رياضياً

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ليبدأ كل منا - إذا أراد - بعملية رياضية يسميها علماء الرياضيات "مسألة تصغير القيمة العظمى للخطأ". والمقصود بالخطأ هنا هو كمية الكراهية الموجودة داخل النفس الإنسانية. وذلك لأن الكراهية قادرة بما تملك من صفات نوعية على التعاظم في الكم والكيف بطريقة دراماتيكية حتى تصل إلى قيمتها العظمى بسرعة فائقة فتدمر الإنسان الذي يحملها. ويمكن القول أن حالة التخلف التام في جميع نواحي الحياة وضياع الهدف والإحباط وعدم وضوح الرؤية التي نعيشها اليوم في عالمنا العربي هي نتيجة حتمية لثقافة الكراهية بمفاهيمها الواسعة الشاملة التي تغلغلت في نفوسنا بطريقة بشعة. وبطريقة علمية بسيطة مجردة نسلط الضوء على المفهوم الرياضي للكراهية لعلنا نصل إلى وسيلة تمكننا من تقليلها حتى تصل إلى أقل قيمة لها ـ هذه القيمة سوف تختلف من شخص إلى آخر تبعاً لتكوينه الثقافي ولن تكون صفراً أبداً لأنه لا يوجد مثل هذا الإنسان على سطح الكرة الأرضية.

والكراهية قوة تخرج من الفضاء النفسي للإنسان متجهة إلى الفضاء الفكري للآخر فإما أن تصيبه أو لا تصيبه ـ طبقاً لمستوى ثقافته ـ، وفي كلا الحالتين تعود من حيث خرجت فتصيب الإنسان الذي ولدت منه بما تحمله من طاقات سلبية مدمرة مثل السم الذي يشربه الإنسان ليقتل أعداءه". وتتولد القوة (أية قوة) وتظهر إلى الوجود كنتيجة حتمية لاندماج ثلاثة عناصر معاً وهي: الكم المادي، الاتجاه، ونقطة التأثير. والقوة تؤثر على العناصر المادية فتغيرها من حالة إلى حالة أخرى، ومن موضع إلى موضع آخر، ومن شكل إلى شكل آخر. ومن طبيعة إلى طبيعة أخرى... وإذا فقدت القوة أية خاصية من هذه الخواص الثلاث فإنها تفقد قدرتها على التأثير. والمقصود بالكم المادي هو المقدار الذي تحمله القوة، بينما يُقصد بنقطة التأثير هو وجود عنصر يخضع ويقبل تأثير القوة عليه فيتغير وضعه وموضعه ... و القوة ضعيفة المقدار يكون تأثيرها ضعيفاً، والقوة كبيرة المقدار يكون تأثيرها كبيراً، ولذلك يجب أن يكون مقدار القوة مناسباً للعمل الذي ستؤديه. والقوة بغض النظر عن مقدارها تصبح بلا تأثير إذا لم يكن لها اتجاه واضح وهدف محدد. أيضاً فإن شرط وجود العنصر الذي يقبل تأثير القوة عليه هو شرطا ضرورياً لكي تقوم القوة بوظيفتها. في الحياة العملية نجد أن معظم تصرفات وسلوكيات الإنسان هي عبارة عن قوى أفعال وقوى ردود أفعال فإذا كان الفعل أو رد الفعل الذي يصدر عن الإنسان يمتلك المكونات الثلاثة للقوة فإنه يكون قوة ويكون له القدرة على التأثير ويستطيع أن يغير طبيعة الأشياء وإلا فإنه يصبح بلا تأثير وبدون فائدة، وتكون نتيجته مضيعة الوقت. ويتعامل الإنسان في كل لحظة مع قوى الخير وقوى الشر؛ وأياً من هذه القوى لها مقدارها ولها اتجاهها المحدد والواضح، ولها خط عمل. بيدَ أن اتجاه قوى الشر هو دائماً وأبداً الاتجاه العكسي لقوى الخير. والكراهية ومع أنها قوة ذاتية تنبعث من داخل الإنسان غير المتسامح تجاه الآخر، إلا أنها سرعان ما تتحول إلى قوة خارجية تؤثر عليه هو نفسه. فنجد الإنسان المملوء بالكراهية قد فقد سلامه الداخلي وهدوءه النفسي وتنتابه حالة من الكآبة والشعور بعدم الرضا.

ويؤكد العلماء أن قوى الرغبة في الانتقام الناتجة عن كمية الكراهية الموجودة داخل الإنسان تؤدي إلى زيادة إفراز هرمون الأدرينالين (adrenaline) مسببة بذلك تغيرات فسيولوجية وكيميائية، ونفسية مضرة للإنسان. في المقابل نجد أن الحب والذي ينتمي إلى فضاء الخير هو قوة مؤثرة وفعالة وتستطيع أن تنتصر بأقل مقدار على قوى الكراهية والانتقام مهما كبر مقدارها. ويمكن للمرء أن يكتشف أن الأصل في الوجود هو قوى الخير، ومن المستحيل أن يتحول الخير إلى شر، غير أن العكس هو الصحيح. ولذلك نجد أن معالجة الإساءة بإساءة هو إضافة شر إلى شر فتكون المحصلة قوة شر مضاعفة في المقدار. وبالمناسبة فإن مقولة "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" لا تعني مقاومة الشر بالشر لأن المعنى هنا ليس حرفياً فالذي أخذ ـ على سبيل المثال ـ بواسطة الحرب والقتال ليس من الضروري أن يسترد بالحرب والقتال ـ فالظلم الذي تحدثه الحروب المدمرة ـ مثلاً ـ يمكن لقوى التفاوض والدبلوماسية الهادئة أن ترده بطريقة أفضل من الحروب. والكراهية يصنعها فكر الإنسان عندما يسمح لقوى الشر بالوصول إليه ويخضع لها ويقبلها. فالإساءة مثلاً ـ تأخذ طبيعتها الشريرة من ضعف المستوى الثقافي للإنسان المستقبل لها والذي خضع وسمح لها بالوصول إليه وليس من الإنسان الذي صدرت عنه. وفي اعتقادي أن الإنسان الحكيم ليس من يرفض قبول الإساءة الموجهة إليه فقط بل الذي يستطيع أن يستثمرها بتحويل اتجاها لتصبح طاقة موجبة ينتقد بها نفسه ويعالج نقائصها وبذلك يتشدد كيانه الإنساني وتنتعش قواه النفسية ويتناقص الكم الشرير بداخله ويكف هو نفسه عن توجيه قوى الإساءة للآخرين، وهذا يتأتى بالتفكير العقلاني والمنطقي وليس بالعاطفة والانفعالات. ويقول الكثير من العلماء أن قوى الشر داخل الإنسان إذا تزايدت وتعاظمت في المقدار ووصلت إلى قيمتها العظمى النسبية داخل الإنسان فإنها سرعان ما تتحول إلى قوى شر شيطانية وهي قوى عشوائية مدمرة بطريقة الانشطار النووي يكون أول قتلاها هو مصدرها إي الإنسان الذي يحملها.

أمامنا طريق واحد واتجاه واحد وخط عمل واحد هو الحب .. حب الحياة .. حب الأخر.. أن نعرف كيف نتعامل مع العالم المحيط بنا أن نحب الحيوان والنبات والماء والهواء ونحافظ عليهم وأن نشجع أولادنا على حب الموسيقى والفنون بكل أنواعها.. وأن نحصنهم ضد الخطاب الديني المتحجر ونعلمهم فن الاستفادة من خبرات وثقافات الآخر وليس فقط الاستفادة من علمه واكتشافاته. فثقافات وخبرات كل الشعوب هي ملك لكل إنسان، وعليه أن يفتخر بها لأنه شارك في صنعها بطريق مباشر أو غير مباشر. أراني أجزم أن الكراهية هي السبب الرئيسي أو الجين الأساسي المتسبب في حالة التخلف العربي المذري والذي جعل الأمة العربية بمفردها دون بقية كل شعوب العالم تسير في الاتجاه العكسي الذي تسير فيه كل شعوب الأرض قاطبة. علينا أن نعلم الأجيال الجديدة أن قوى الحب سوف ترتد ألينا قوى حب طبقاً لقواتين نيوتن وبالتالي تتضاعف كمية الحب بداخلنا، وأن قوى الكراهية ترتد ألينا قوى كراهية فتزيد من كمية الكراهية الموجودة أصلاً حتى إذا ما تعاظمت بداخلنا كمية الكراهية وتضخمت وجدنا أنفسنا نكره الحياة ونقتل أنفسنا بأيدينا.. مأساة .. مأساة. علينا أن نعلم أولادنا أن الرغبة في الانتقام وطلب الموت للآخر تزيد من كمية الكراهية بداخلنا فتؤذينا ولا تؤذي الآخر. وأن الإنسان لا يحق له أن ينتقم لأن ذلك ليس من صفاته أو اختصاصاته الطبيعية الفطرية. لنحترس من الوقوف على خط عمل أي قوى كراهية تأتي من الآخر حتى تفقد هذه القوى خاصيتها ولا تؤثر فينا. لنعلم أن الحب يولد الفرح والبهجة داخل نفوسنا فنشعر بالقوة والانتصار، وان الكراهية تولد الحزن والكآبة فيشعر حاملها بالضعف والانهزام. ما أروع ما قال عالم الرياضيات والفيلسوف الرائع أرشيميدس "إن كلاماً كثيراً، فيه الطالح وفيه الصالح، يطرق مسامع البشر.. فلا يساورنَّك خوف منه، ولاتَحِدْ كذلك عن دربك لكي تجتنب سماعه، والزم الهدوء إذا سمعت كلاماً كاذباً.. و ما أعذب ما قاله العظيم تشيكوف "إذا كان في وسعك أن تحب .. ففي وسعك أن تفعل كل شيء.." إذا لم نستطع تغيير اتجاه كل الخطب الدينية والسياسية، والاجتماعية، والثقافية .. لتتحرك في اتجاه زيادة كمية الحب وتصغير كمية الكراهية فالنهاية حتمية ومعروفة وهي "التلاشي (to vanish)". وبحسبة رياضية بسيطة نجد أن سعادة الإنسان دالة في الحب والكراهية في آن واحد بحيث تساوي خارج فسمة الحب على الكراهية. فكلما كبرت كمية الكراهية وصغرت كمية الحب كلما تناقصت قيمة السعادة والحياة الأفضل وعندما تتزايد كمية الحب وتتناقص كمية الكراهية كلما تعاظمت قيمة السعادة والحياة الأفضل.

كاتب المقال أستاذ الرياضيات بكليات الهندسة، مصر

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف