الأمريكان وإرهابيو العراق: الهاشمي وقضية كارول
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أحاول في هذا المقال تشخيص عملية الاحتواء السياسي للارهاب، وموضوعة تمييزه عن المقاومة وتطور الموقف الأمريكي منهما، وذلك على حيثيات تحرير الصحفية الأمريكية جيل كارول، في 30 آذار (مارس) 2006، فقد وقف الأمين العام للحزب الاسلامي (جماعة الاخوان المسلمين العراقيين)، الدكتور طارق الهاشمي مزهواً ليشرح كيف وصلت الصحفية المختطفة الى مكتب فرعي لحزبه في حي العامرية، أحد مواطن الجماعات المسلحة في بغداد. وذكر أن الصحفية بينت أن ظروف اعتقالها كانت مقبولة وأن الخاطفين لم يعتدوا عليها بأي شكل، وكانوا "خاطفين أمناء"، حسب تعبيره. وهكذا بعد المقاومة الشريفة، ولد مصطلح جديد قد يساعد على معرفة وتشخيص تطورات الفترة الحالية، ألا وهو مصطلح "مختطفون أمناء" ويعني ارهابيون مقبولون . وفي أوج زهوه، تفاخر الهاشمي بأنه كان قد وجه نداء لهؤلاء الخاطفين وأنهم استمعوا لنصحه دون أي علاقة أخرى له بهم...
وأذكر هنا ملاحظات حول ملامح التطورات الأخيرة في موضوع الارهاب و"المقاومة الشريفة" والموقف الأمريكي في الفترة الأخيرة :
1- ان جيل كارول، اختطفت في 7 كانون الثاني (يناير) الماضي بعد وصولها الى مقر الدكتور عدنان الدليمي، رئيس كيان سياسي جديد (مؤتمر أهل العراق) وقد شكل مع د. صالح المطلق والحزب الاسلامي العتيد جبهة التوافق العراقية. وقد تصدروا مع آخرين حملة التشكيك بنتائج الانتخابات ليتسنى لهم المطالبة بمواقع في السلطة تتجاوز نتائجهم الانتخابية ولا زالوا يرفضون - مع الأمريكان- اختيار د. الجعفري من قبل الائتلاف لتشكيل الوزارة. ويمكن التساؤل عن مغزى غياب الدليمي عند وصول الصحفية كارول، رغم الموعد المسبق، اذ كان عليها أن تعود أدراجها في هذه المنطقة الخطيرة (أبو غريب) التي تعج بالقتلة ممن هاجموا موكب تشييع الصحفية أطوار بهجت على مقربة من بيت حارث الضاري، وقاموا بتهديد ومهاجمة العوائل العراقية لاجلائها واشاعة ظاهرة التطهير الطائفي من خلال الفعل ورد الفعل كآخر مبتكراتهم الجهنمية لاثارة الحرب الأهلية في هذا البلد.
2- في عز اغتباطه وزهوه بالأمريكية المحررة من قبل خاطفيها "الأمناء"، فات القيادي الاسلامي أن هؤلاء الخاطفين ليسوا "أمناء" كما قال، بل مجرمين قتلوا بكل برود المترجم العراقي الذي كان مع الصحفية، أثناء ارتكابهم جريمة الخطف. فكيف يمكن لأمين عام الحزب الاسلامي أن يهمل الدم العراقي بهذا الشكل. وهنا يفرض السؤال نفسه: أين د. محسن عبد الحميد والقياديون الآخرون؟ ثم ألم يحن الوقت للحزب الاسلامي أن يختار أميناً عاماً آخر ليمثله بأمانة أكبر ؟؟
3- تناسى د. الهاشمي أن الخاطفين مجرمون ارهابيون، حسب القانون الدولي والقانون العراقي وخصوصاً حسب الشريعة الاسلامية التي يفترض في الحزب الاسلامي أن يمثل احدى طلائعها في العراق. حيث تمنع أحكامها أيّ حجز غير مبرر للأشخاص أو تهديد لهم بالقتل أو المساومة عليهم لتحصيل مكاسب مالية أو معنوية أو سياسية، اذ "لا يطاع الله من حيث يُعصى"، كما يعرف المطلعون على شريعة من أرسل "رحمة للعالمين". والدليل على أن هذا الاحتجاز والتهديد بالقتل كان بدون مبرر هو اطلاق سراحها من قبل الخاطفين وعرابيهم، بدون أية ادانة، علماً بأن نفس السيناريو تكرر مرات عديدة مع الصحفيين الأجانب، مما يدل على أنها ممارسة معتمدة من قبل الارهابيين إإ
4- نشر الخاطفون على شبكة الأنترنيت تصريحات الصحفية الأمريكية على شريط فيديو، حيث امتدحت "المقاومة الأمينة" رغم احتجازها وقتل سائقها. وقد أبدت رأيها في أن هذه المقاومة ستنتصر وكان تعبيرها كالآتي: "أعتقد بأن المجاهدين أذكياء جداً .. وأنهم سينتصرون في النهاية" (انظر اللوموند عدد 1 نيسان 2006). وحيث أنها لن تتبرأ من هذا الكلام بعد اطلاق سراحها، يمكن التأكيد على أنها خلطت، هي أيضاً، بين المقاومة والارهاب.
5- جاء اطلاق سراح جيل كارول بعد اسبوع من اطلاق سراح الكنديَين والبريطاني، أعضاء الجماعة المسيحية المعادية للحرب، من قبل الوحدات البريطانية والأمريكية في ظروف لا زالت غامضة. ورغم المعاناة والاذلال على يد خاطفيه، صبت تصريحات البريطاني العجوز في نفس اتجاه الصحفية جيل كارول. وينطبق نفس الأمر على مراسلة الصحيفة الشيوعية الايطالية التي كانت تولول وتبكي على شرائط الفيديو ثم امتدحت خاطفيها عند عودتها الى ايطاليا، بعد أن دفعت حكومتها، كما أصبح معروفاً الآن، ملايين الدولارات لخاطفيها عن طريق أحد أقطاب هيئة علماء المسلمين.
6- بدل الاستمرار في التذكير بحالات تدل على نفس الحقيقة المرة، أدعو القراء الى تشخيص بعض عمليات الخطف. فبينما يؤدي بعضها الى قتل الصحفيين دون رحمة، يدل بعضها الآخر كما يبدو على وجود تواطؤ بين الخاطفين والصحفيين الذين يذهبون لمقابلة أطراف من "المقاومة" فتختطفهم، لتؤدي هذه العمليات الى دفع ملايين الدولارات للخاطفين وتحويل المتعاملين معهم في بغداد الى شخصيات وأرقام صعبة على الساحة العراقية (تذكروا تقاطر السفراء الفرنسي والياباني والايطالي وغيرهم على الشيخ حارث الضاري وهيئته). في المقابل، يتحول هؤلاء الصحفيون المغمورون أو العاديون الى نجوم المعاداة للحرب الأمريكية "والتعاطف مع "المقاومة"، أي مع الارهابيين الذين قاموا باختطافهم إ ثم يباشروا بتأليف الكتب عن يومياتهم في العراق وأثناء الاختطاف. وقد لوحظ ظهورهم مغتبطين، كالصحفية الفرنسية أوبيناس التي أدهشت المشاهدين وزملاءها الصحفيين بسعادتها "الغامرة" وهي تتكلم عن تجربتها كرهينة إإ وقد يكون بعض هؤلاء المخطوفين المشبوهين مرتبطين بصورة أو أخرى بمخابرات دولهم التي تريد التعرف على هذه التنظيمات الارهابية والاتصال بقادتها. وقد تظهر في المستقبل مذكرات أو وثائق تؤيد هذه الحقيقة التي أطرحها اليوم كفرضية بالمعنى العلمي للكلمة، أي غير مثبتة ولكن تؤيدها مؤشرات عديدة.
7- بما أن المقاومة الشريفة، ان وجدت، هي تلك المتوجهة الى ضرب القوات الأمريكية فقط، كما تدعي ذلك أطراف عديدة، فان هذه المقاومة أزعجت القوات الأمريكية بدرجة محدودة نسبة الى الارهاب الغادر الجبان الذي يقتل ويجرح ويُفزع -غيلة- عشرات الآلاف من المدنيين العراقيين وهو الذي يدمر مختلف الهياكل التحتية المتآكلة أصلاً منذ أيام الطغيان. ولو كانت المقاومة وحدها على الساحة (أي بدون الارهاب) لما أقلقت الولايات المتحدة بهذه الدرجة ولما وصل العراق، وهذا هو الأهم، الى شفير الحرب الأهلية. فنتائج الارهاب المدوية هي التي تدفع الأمريكان الى الضغط على القوى السياسية الفائزة بالانتخابات لاشراك من يدعون تمثيل السنة ولتقريب المسلحين الى العملية السياسية. وحيث أن الارهاب (الصدامي/التكفيري) يستهدف طائفة محددة من العراقيين علّها تنتفض وتضرب الطائفة الأخرى، يتخوف الجميع، سياسيين كانوا أم مثقفين، عراقيين أم أجانب، من انفلات الوضع بعد أكثر من سنتين من هذه الممارسة الجبانة لجرائم ضد الانسانية، لا سيما وان الارهابيين وأسيادهم، وبعد فشلهم في اثارة الحرب الأهلية، قاموا بتفجير المرقد المقدس في سامراء وما نشب عن ذلك من ردود فعل مرفوضة ومدانة ولكنها ظلت محاصرة لحسن الحظ. وكان للمرجعيات الدينية والسياسية والثقافية أثرها في حفظ التلاحم بين العراقيين لحد الآن.
8- لذلك نقول لمن يطلب التمييز بين المقاومة والارهاب، أن الارهاب الصدامي/التكفيري هو الذي يربك الوضع في العراق وهو الذي يدفع بالبلد نحو الحرب الطائفية التي يمقتها أبناء العراق دون استثناء. ولو كانت المقاومة موجودة لوحدها على ساحة العمليات المسلحة لما عرف البلد حالة الاحتقان هذه ولكان الحوار معها، بهدف استيعابها في العملية السياسية، حواراً بين عراقيين مخلصين ومختلفين في الرأي. أما الارهاب فهو يرمي الى السيطرة على البلد أو تخريبه لصالح قوى سياسية داخلية وخارجية، وأهم ما يميز ممثليه السياسيين هو شتمهم الأمريكان ثم التخضع لهم لتحقيق مطلبهم في الوصول الى الحكم رغم أنف الارادة الشعبية. وقد صرحت المصادر العسكرية الأمريكية، يوم 31/3/2006 أن الهجمات على قواتهم أخذت بالانخفاض خلال الفترة الماضية، وربما كان ذلك مؤشراً على ايجابية ردهم على تقرب الأمريكان من ممثليهم السياسيين.
9- وحول تمثيل هؤلاء السياسيين للسنة العراقيين، أود التنبيه الى أن قطاعات عريضة من سنة العراق لا زالت مغيبة عن الواقع السياسي. أما الانتخابات الأخيرة فقد تصدرها سياسيون مرتبطون بالمسلحين ونأى عنها أبناء عوائل سنية معروفة مثل نصير الجادرجي الذي شارك في مجلس الحكم، ولكنه انسحب من الانتخابات مع تدهور الوضع الأمني، ولا نستبعد أبداً تلقيه التهديد من أطراف عديدة. ونعرف ما تعرض له مثال الآلوسي من محاولات تسببت احداها في مقتل ولديه. ان ابعاد السنة المعتدلين يرمي الى ازالة عقبة كبرى أمام المخطط الارهابي وفسح المجال السياسي لممثلي الطائفية الرسمية التي حكمت ودمرت العراق منذ قرون.
استخلاص: تدلنا تصريحات د. الهاشمي على أن العراق دخل مرحلة جديدة، حيث بدأ بعض القادة السياسيين يفصحون عن تأييدهم للارهابيين بعد أن تمسكوا في الفترة الماضية بموضوعة المقاومة ولم يؤيدوا الارهاب في العلن الا تلميحاً في الغالب. وهم يطورون مواقفهم اليوم بناء على مغازلة الأمريكان للارهابيين ودعم ممثليهم لأخذ مواقع أكبر في العملية السياسية. أما المقاومة، ان كانت موجودة، فقد تركوها على طريقة (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون - المائدة 24).
ان خوف دوائر القرار الأمريكية من تدهور الوضع في العراق دفعهم الى اعادة تقييمهم للأمور، منذ شهور طويلة، وما اعتراف كونداليزا رايس، في برمنغهام 31/3/2006، بآلاف الأخطاء التكتيكية الا تكريساً لهذا التوجه. حيث ضغطت على القادة الأكراد وبعض قادة الائتلاف لاشراك "ممثلي السنة"، أي المقربين للقوى الارهابية في حقيقة الأمر، لأن مشاركتهم في المفاوضات الحالية وفي تشكيلة الحكومة والنظام السياسي (مجلس الأمن القومي) يؤسس الوضع المقبل على معادلة سياسية يعتبرها الأمريكان جيدة ومتوازنة ومدعومة من قبل الجميع. ويأمل الأمريكان وحلفاؤهم من خلال تبني هذا التكتيك، تحقيق الأمن (وقف الارهاب وإيقاف نزيف المدنيين) ومنع الانزلاق الى ما لا يحمد عقباه.
وقد بدأ الأمريكان في التفاهم مع السياسيين المرتبطين بالارهاب منذ الخريف الماضي وأبدوا، بعد الانتخابات الأخيرة، تأييدهم لتبني خطة توصل هؤلاء الى مشاركة حقيقية في السلطة، رغم نتائج الانتخابات. وما يقلق العراقيين هو مصير عملية سياسية تحكمها مثل هذه التناقضات. لا سيما مع رغبة هؤلاء السياسيين في تحويل الانتماء المذهبي لدى السنة والشيعة الى شعور طائفي وخطوط تماس لحروب كلامية مع مزايدات على الهوية ووحدة البلد، توصلاً الى تخريب العملية الديمقراطية وانزلاق الجميع لما هو أدهى وأخطر...
sahibsd@yahoo.com