لماذا يعادي رجال الدين العَلمانية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لماذا يقف رجال المؤسسة الدينية الإسلامية هذا الموقف المعادي والشديد من العَلْمانية؟
سؤال يُطرح كل يوم، ولكنا لا نجد جواباً عقلانياً واقعياً وشافياً عنه.
هناك عدة أسباب لعداء رجال الدين للعَلمانية، تشمل فيما تشمل تفسيرهم الشخصي أيضاً لمعاني العَلْمانية، منها:
1. إن للمؤسسة الدينية الإسلامية منافع اجتماعية ومالية وسياسية كثيرة من ربط الدين بالدولة. وهم من خلال ربطهم بين الدين والسياسة، يهدفون إلى أن يصبحوا جزءاً من السلطة ومن المنافع التي تنتفع بها. وقد تحقق لهم ذلك خاصة في بعض دول الخليج. وهذا الوضع كان موجوداً في الدولة العربية الكلاسيكية. فكما أن الإمبراطور البيزنطي استولى على المسيحية واستخدمها لصالحه، ولمنافعه الخاصة، استمرار مُلكه، فكذلك فعل الخليفة في الإسلام، بدءاً بمعاوية بن أبي سفيان وإلى آخر سلطـان عثماني، وإلى يومنا هذا. وكما نشأت في المسيحية مؤسسة قُدسية تحالفت مع السلطة وعملت لدعمها وشاركتها المال والهلال، كذلك كان الأمر في الإسلام منذ بداية العصر الأموي وحتى الآن. ذلك أن فصل الدين عن الدولة يشكل تهديداً كبيراً للمؤسسة الدينية كما يشكل تهديداً للمؤسسة السياسية التقليدية كذلك. فهذا الفصل بين الدين والسياسة - فيما لو حصلت المعجزة وتمّ - سوف يحيل رجال المؤسسة الدينية إلى حملة مباخر كما هو الحال مع رجال الكنيسة. وبما أنه لا مال لديهم كمال الكنيسة، ولا ذهب لديهم كذهب الكنيسة، فسيتحولون إلى مواطنين عاديين يعانون من الفقر المادي، والإهمال الاجتماعي، وفقدان الوجاهة الاجتماعية، والحرمان من السطوة الثقافية والسطوة السياسية التي يتمتعون بها الآن، وبعد أن كانوا وما زالوا من أولي الأمر، جنباً إلى جنب مع الأمراء، كما قال ابن تيمية من أن "العلماء والأمراء هم أولو الأمر". وهكذا أصبح فرسان الحلبة السياسية في العـالم العربي والإسلامي الآن إما من العسكر وإما من رجال الدين. وأصبح مصدرا تخريج الكوادر السياسية في العالم العربي والإسلامي هما: الكليات العسكرية، والمعاهد الدينية.
2. يقول بعض رجال المؤسسة الدينية من أن الذين تولوا ترجمة كلمة العَلْمانية من المعجم الأوروبي إلى العربية لم يفهموا من كلمتي (الدين) و (العلم) ما يفهمه الغربي المسيحي منها. وأن الدين والعلم في مفهوم الإنسان الغربي متضادان متعارضان. فما يكون علمياً لا يكون دينياً وما يكون دينياً لا يكون علمياً. فالعلم والعقل يقعان في مقابل الدين والعَلْمانية والعقلانية في الصف المضاد للدين. ويقولون أن هذا غير صحيح، وأن العلم والدين لا يتضادان ولا يختلفان. (يوسف القرضاوي، الإسلام والعَلْمانية وجهاً لوجه، ص48،49)
ولكن ما تفسير الشواهد التالية في العالم الغربي المسيحي وفي العالم الإسلامي، التي تشير كلها إلى تعارض فقه رجال الدين مع العلم وتضاد العلـم لهذا الفقه. وأن كل واحد منهما يسعى لإلغاء الآخر، أو الأقل إيقافه عند حد معين:
- لماذا ما زالت بعض المدارس والمعاهد العلمية التي تشرف عليها الكنيسة حتى الآن في الغرب وخاصة في أمريكا، تمنع تدريس كافة النظريات العلمية التي فيها رائحة معارضة لتعاليم الدين وخاصة نظرية التطور لداروين، إذا كان لا تعارض ولا تضاد هناك بين فقه رجال الدين والعلم ؟
- لماذا ما زالت كثير من المدارس في أنحاء مختلفة من العالم العربي تُحرّم وتمنع تدريس الكثير من النظريات العلمية التي تُعارض نظرية الخلق والتطور التي جاءت في القرآن، وعلى رأسها نظرية التطور والنشوء لدارون ونظريات فرويد في علم النفس، إذا كان لا تعارض ولا تضاد هناك بين فقه رجال الدين والعلم؟
ونحن نقول هنا فقه رجال الدين، وليس الدين نفسه، لأن رجال الدين بفقههم وتفسيراتهم وتحليلاتهم وبإسقاطاتهم الشخصية الخاصة هم الذين في النهاية يُحرِّمون ويُحللون الكثير من المُحرَّمات ويُحرِّمون الكثير من المُحللات.
ومن هنا فقد ضجَّ المسلمون في الآونة الأخيرة وضاقوا بهذا كله. وتـاهوا التيه الأكبر في خضم التفاسير المتضاربة للقرآن. مما اضطر بعض الدعاة والأشياخ المتنورين من أبناء العصر والشهود عليه، إلى الدعوة إلى وقـف تفسير القرآن، وإلغاء كافة التفاسير السابقة للقرآن، والاكتفاء فقد بتلاوته كما أمرنا النبي عليه السلام. وكان أحد كبار المطالبين بهذا الشيخ التنويري جمال البنا شقيق حسن البنا مؤسس وزعيـم حركة الأخوان المسلمين. وطالب جمال البنا وهو قيادي وناشط بارز في جماعة الأخوان المسلمين الحالية بإلغاء تفاسير القرآن التي تقوم بها المؤسسة الدينية، وتطرح من خلالها أفكارها ووجهـة نظرها قائلاً : إن الإسلام ليس بحاجة إلى من يدافع عنه الآن. فالقرآن باق وثابت والله تكفَّل بحفظه. كما أننا نرفض تفسير القرآن، لأن تفاسير القرآن أساءت إليه إساءة بالغة، وحجبت دوره وجوهره من أن يصل إلى النفوس. وطرحت المؤسسات الدينية فكرها وإيمانها هي، في علم القرآن. والرسول عليه السلام كان يدعو الناس إلى تلاوة القرآن وليس إلى تفسيره. والقرآن أفسدوه بالتفسير. ("القدس العربي"، 2/3/2000).
لنعد الآن إلى الفرق بين تفسير رجال المؤسسة الدينية للعلم والظواهر العلمية والذين هاجموا العَلْمانية من خلاله، وناصبوها العـداء، وتفسير المفكرين الإسلاميين المستنيرين. ولنضرب لذلك مثلاً واضحاً وجلياً. ولكن قبل ذلك دعونا نسأل السؤال التالي:
- هل هناك أحد من القراء من يشك في صدق وإخلاص إسلام عباس محمود العقاد الكاتب الإسلامي، صاحب العبقريات الإسلامية المشهورة، والمدافع العقلاني عن الدين الإسلامي، بأسلحة العصر الحديث؟
لا أحد بالطبع.
فلنر الآن كيـف نظر رجال الدين من داخل المؤسسة الدينية إلى نظرية التطور والنشوء مثلاً التي جاء بها دارون، والمُحرَّم تدريسها في معظم مدارس العالم العربي، وخاصة دول الخليج، وكيف نظر إليها مفكرو الدين المستنيرين من خارج المؤسسة الدينية. وقس على ذلك مسائل كثيرة من هذا النوع.
لنقرأ رأي الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر مثلاً، في نظريـة دارون عن التطور والنشوء:
"أنها نظرية تُعارض صريح القرآن. هذا هو مبدأ الإسلام في قبول الآراء والتسليم بالنظريات وهو منهج رجال الدين الذين هم كما قلت رجال الدين حقاً. ونظرية التطور نظرية لم يرفضها رجال الدين تزمتاً أو تعسفاً وإنما رفضوها على أساس من الدين ونصوصه الواضحة، وعلى أساس مما قرره الدين في رفض ما لم يدل عليه برهان أو يشهد بصحته حسّ أو تجربة" (محمود شلتوت، مجموعة الفتاوى، ص402) . ثم أورد الآية التي تقول: )ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأٍ مسنون( (الأنعام: 148).
وهكذا تم الحكم على دارون بالكفر ما دام أنه عارض قول الله، وجاء بسبب غير سبب الله.
كان ذلك موقف أحد رجال المؤسسة الدينية - المُعبِّر عن رأي رسمي للمؤسسة الدينية - من نظرية علمية، يُقال أن صاحبها لم يأتِ ببرهان عليها "ولا يشهد بصحة نظريته حسٌ أو تجربة" كما قال الشيخ شلتوت الآن . في حين أن الثابت علمياً وتاريخياً أن تشارلز دارون (1809-1882) لم يخرج بنظريته تلك، إلا بعد تجربة طويلة عملية وعلمية. وذلك عندما ركب سفينة وراح في رحلة بحرية لمدة خمس سنوات (1831-1836) زار خلالها جزر الرأس الأخضر وسواحل أمريكا الجنوبية، وجمع معلومات كثيرة عن حيواناتها ونباتاتهـا وطبيعتها الجيولوجية التي كانت أساساً لنظريته في تطور الأجناس الحية.
لنقرأ الآن رأي مفكر من مفكري الإسـلام المستنيرين، وهو عباس العقاد الذي يقول بشجاعة، وهو في ظننا رد ضمني على موقف رجال المؤسسة الدينية من نظرية دارون نفسها، ومنع تدريس هذه النظرية في أنحـاء كثيرة من العالم العربي :
"لقد هوجم مذهب دارون كثيراً باسم الدين. وجعله بعضهم مرادفاً للإلحاد والمادية. ومع هذا لم يكن دارون ملحداً. ولم يزعم دارون أن ثبوت التطور ينفي وجود الله. ولم يقل قط إن التطور يفسر خلق الحياة. وقال دارون إنه لم يكن ملحداً بالمعنى الذي يُفهم فيه الإلحاد على أنه إنكار لوجود الله. وكتب في العام 1873 يقول: إن استحالة تصور هذا الكون العظيم العجيب قائماً على مجرد المصادفة، هو أقوى البراهين على وجود الله" . (عقائد المفكرين في القرن العشرين، ص44،45).
ويضيف العقاد على ذلك بقوله، موجهاً خطابه إلى رجال المؤسسة الدينية مباشرة، ناقداً ضمنياً تعسّفهم وتزمّتهم الذي أنكره ونفاه الشيخ شلتوت في بداية قوله، فيقول:
"لا نريد من المتدينين أن يقرروا صحة مذهب التطور على علاته، ولكننا نريد تأكيد أنهم يقررون أن تصديقه لا يناقض التصديق بوجود الله، ولا يلزم عندهم أن يكفر بالدين كل من قال بتسلسل الأنواع الحية من أصل واحد، أو بضعة أصول". (المصدر نفسه، ص46).
ومن خلال هذا الموقف النموذج لرجال المؤسسة الدينية من النظريات العلمية الحديثة ومن انجازات العلم المختلفة وموقف مفكري الإسلام المستنيرين كذلك، يتضح لنا ما نعنيه بسلطة رجال الدين على العلم، ومن أن فتاواهم الشخصية تصبح مع الزمن جزءاً من الشريعة السماوية في الوعي الشعبي وفي الذاكرة الشعبية الجمعية. ومع الزمن تصبح قانوناً سماوياً مغلقاً، لا أحد يستطيع أن يناقش أو يجادل فيه.
والسؤال مرة أخرى:
- لماذا ما زالت النظرية الماركسية في الاقتصاد والاجتماع والتاريخ، محرَّمة وممنوعة من التدريس في المعاهد والكليات والمدارس في بعض الدول العربية والإسلامية المتشددة دينياً، وخاصة في دول الخليج، علماً بأن هذه النظرية تُشكِّل علمياً نصف التاريخ الحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبشرية، إذا كان لا تعارض ولا تضاد هناك بين فقه رجـال الدين والعلم ؟
- لماذا ما زالت هناك قواعد وأنظمة تعليمية تمنع وتُحرِّم تدريس علم الجنس في المدارس العربية وكذلك في المعاهد العالية في كثير من الدول العربية. وتمنع دخول كتب التشريح العلمية التي تتناول موضوع علم الجنس وآلياته، وتنظر إلى الكُتَّاب الذين يكتبون كتابات علمية في الجنس نظرة غضب وسخط واشمئزاز، (المثال الواضح على ذلك ما يكتبه خالد منتصر، وما تكتبه نوال السعداوي، والذي يتعرض للمصادرة دائماً في معظم أنحاء العالم العربي، وخاصة دول الخليج) إذا كان لا تعارض ولا تضـاد هناك بين فقه رجال الدين والعلم؟
- لماذا يحول بين المرأة المسلمة في العالم العربي وبين أن تتخصص في الأمراض التناسلية للرجال، ما دامت هذه رغبتها، إذا كان لا تعارض ولا تضاد هناك بين فقه رجال الدين والعلم؟
لقد مررت أنا شخصياً بتجربة عشتها في أمريكا تأملت فيها كثيراً. فقد شكوت في يوم ما من حرقة عند التبول. كما لاحظت أن هنـاك بعض الدم المختلط بالبول عند التبول. وذهبت في اليوم التالي لعيادة يعمل فيها عدة أطباء من الرجال والنساء، وكتبت تقريراً أولياً عن حالتي وممَ أشكو كما هي العادة. وانتظرت قليلاً ثم دخلت عيادة دخلت عليّ فيها طبيبـة من أصل آسيوي على ما يبدو، وسألتني عن حالي وشرحت لها بارتباك وتلعثم. ولاحظت ارتباكي، فهوَّنت علي. وكدت أن أرفض أن تكشف عليَّ امرأة. ولكنها عادت لتقول لي إنه العلم. ولا حياء ولا عيب في العلم. وفحصتني بدقة وتروِ وثقة من الأمام ومن الخلف. ووصفت لي العلاج. وخرجت من العيادة وأنا مرتبك أردد عليها كلمات الأسف. ولكنهـا قالت بأدب جم أن لا داعٍ للأسف، وإنها هنا لتؤدي عملها كطبيبة فقط وليست كامرأة. وعندما فكرت في الأمـر في الطريق إلى بيتي تذكرت بأن ما شعرت به من ارتباك كان بفضل التربية التي تلقيتها في العالم العربي، وليس مرده إلى أي شيء آخر.
فهل يمكن أن يحدث ذلك في المجتمعات العربية والإسلامية، إذا كان لا تعارض ولا تضاد هناك بين فقه رجال الدين والعلم؟
- لماذا ما زال تطبيق المناهج العلمية الغربية المختلفة على التاريخ الإسلامي وشواهده وآلياته وكيفية كتابته ومصادره وإخضاع هذا التاريخ للحفر والتفكيك والتأويل والتفسير على ضوء النظريات الابستمولوجية (المعرفية) الحديثة غير مرغوب فيه وممنوع. ويُطرد أصحاب هذه المناهج من زُمرة العلماء وعصبة الحكماء، كما تم طرد الشيخ علي عبد الرازق من الأزهر، وسُحبت منه شهادته العلمية بعد صدور كتابه "الإسلام وأصول الحكم". وطُورد طه حسين وحُرم من منصبه في الجامعة بعد صدور كتابه "في الشعر الجاهلي". وطُورد خالد محمد خالد بعد صدور كتابه (من هنا نبدأ) وطورد صادق العظم بعد كتابه (نقد العقل الديني) وحُورب محمد أركون بعد كتبه المختلفة ومنها (قضايا في نقد الفكر الديني) وسُجن المفكر الكويتي أحمد البغدادي (وكان أول سجين فكر في تاريخ الكويت) نتيجة لقراءته الجديدة لتاريخ الإسلام، ونُفي نصر أبو زيد من مصر بسبب كتابه (مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن) وكتبه الأخرى المثيرة للجدل، وغيرهم. وهؤلاء جميعاً من المفكرين الذين عوقبوا عقوبات مختلفة على ما كتبوه ونشروه من إخضاع التاريخ الإسلامي والنصوص الإسلامية لنظريات المعرفة الحديثة. فلماذا يُصادَر ما يكتبون، ويُنكر عليهم ما يفكرون به من علم، وهم ليسوا بسوقة أو غوغاء، ولا هم ممن يجلسون مجالس الأمراء، إذا كان لا تعارض ولا تضاد هناك، بين فقه رجال الدين والعلم؟
- وأخيراً، لماذا تم قتل عشرات المفكرين والفلاسفة في تاريخ الدولة العربية الإسلامية الكلاسيكية، وحرق كتبهم، وتشريدهم كأبي ذر الغفاري في زمن عثمان بن عفان، والمعتزلة في العصرين الأموي والعبـاسي، وابن رشد في العصر الأموي الأندلسي، والحلاج في العصر العباسي، وابن المقفع وأبي حنيفة في عهد الخليفة المنصور، والسهروردي في العصر الأيوبي، وغيرهم ممن يطول ذكرهـم، إذا كان لا تعارض ولا تضاد هناك بين فقه رجال الدين والعلم؟
- ومن سجن وعاقب كل هؤلاء العلماء والمفكرين، جميعاً في الماضي والحاضر، غير رجال المؤسسة الدينية الذين أصدروا فتاواهم بسجن ومعاقبة هؤلاء، خوفاً على فقههم ومحافظة على سلطتهم الاجتماعية والمالية والسياسية؟
وما زال هناك الكثير من الكلام عن أسباب عداء رجال الدين للعَلمانية.