ُفقاعة البور صات العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
غالبا ما تعتمد الاقتصاديات النامية على المصارف كمصدر أساسي لتمويل المؤسسات، لكن هذا المصدر غير كاف ويحتوي على مخاطر كبيرة أهمها زيادة ثقل الدين عند ارتفاع أسعار الفائدة. على هذا الأساس، اضطررت الدول العربية إنشاء بورصات كأسواق لرأس المال توفر بديلا لإقراض المصارف. ويتم هذا سواء بإصدار المؤسسات للأسهم التي تجعل من صاحبها شريكا في رأس مال و/أو إصدار سندات يحصل مشتريها على سعر فائدة محدد مسبقا.
بقيت البوصات العربية في حالة ركود كبير حتى سنة 2003، حيث بقيت القيمة السوقية للشركات المدرجة اقل من 50% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لأهم الدول العربية غير النفطية (مصر، المغرب، تونس، لبنان، الجزائر ...). ومثلت الأردن الاستثناء الوحيد بنسبة تفوق 100% (111.2% تحديدا)، مع دول نفطية صغيرة مثل قطر، الكويت والبحرين.
يعزى فشل الدول العربية غير النفطية، باستثناء الأردن، في تطوير البورصة إلى عدة عوامل هيكلية، أهمها : (أ) هيمنة المصارف على هذه المؤسسة حيث أن معظم الشركات المدرجة تنتمي إلى هذا القطاع، والتي ترى في أسواق رأس المال منافسا لنشاطها، (ب) هيمنة ثقافة الشركات العائلية في المجتمع التي لا تقبل بشروط الإفصاح "Disclosure" و الشفافية "Transparency"المعمول بها في البور صات، و(ج) عدم توفر إطار قانوني وشفافية تجلب ثقة المستثمرين.
لكن وبالرغم من هذه العوائق الهيكلية، حصلت زيادة خيالية لأسعار الأسهم في البورصات الخليجية وبعض الدول الأخرى مثل الأردن ومصر، وهي زيادة لا تمت بصلة لنسب زيادة أرباح الشركات المدرجة. زاد مؤشر سعر الأسهم خلال 2003 بنسبة 101.7% في بورصة الكويت، بـ 61.7% في عمان، و بـ 54.8% بالدوحة وبـ 53.9% ببورصة الدار البيضاء. وتواصلت الزيادة المبالغ فيها خلال 2004 وحتى صيف 2005 . كيف نعرف أن زيادة الأسعار مبالغ فيها ؟ بمتابعة مؤشري : (1) السعر العادل للأسهم و (2) مضاعف سعر السهم.
يتم احتساب "السعر العادل للسهم" بالرجوع للمعلومات المتوفرة عن نشاط الشركة المدرجة وأرباحها، ومن ثم فهو يعطي السعر الذي من المفترض أن يتم به التداول في البورصة لو كانت تعمل بصفة طبيعية.
من أمثلة ذلك الدراسة التي أصدرتها "شعاع كابيتول" (موقع www.shaacapital.com) بتاريخ 28 سبتمبر 2005، والتي ُتبيّن أن السعر العادل لسهم شركة اعمار للعقارات بدبي لا يتجاوز 20 درهما مقابل سعر 26 درهما للتداول في البورصة آنذاك. وقد أدى نشر الدراسة إلى هبوط فعلي في سعر سهم شركة اعمار ولعدة أيام.
أما مضاعف سعر السهم (أو نسبة P/E)، فيتم احتسابه من خلال قسمة سعر الإغلاق على ربحية السهم، أي المبلغ الذي سيدفعه المستثمر في البورصة للحصول على وحدة نقدية واحدة من الأرباح (دينارا واحدا ...). لا يتجاوز هذا الضعف 15 مرة في البورصات المتطورة و 20 مرة في البورصات الصاعدة لدول جنوب شرق آسيا، بينما وصل في شهر مايو 2005 إلى 34.4 في السعودية، 39.2 في الإمارات، و 36.3 في قطر.
من الواضح إذن حصول ُفقّاعة، أي أن الزيادة في الأسعار غير مبررة، و أن المستثمرين في البورصة يقبلون بالشراء فقط لانهم يعتقدون أن الأسعار سترتفع أكثر في المستقبل. وهذا الأمر غير قابل للديمومة، بحيث يصبح انفجار الفقاعة في المستقبل مسالة وقت لا غير.
بدأت بعض الإجراءات التصحيحية منذ الصيف الماضي، لكن انفجار الُفقّاعة لم يحصل إلا يوم الثلاثاء 14 مارس الماضي، حيث تراجعت الأسواق الخليجية والمصرية بصفة حادة، وخسر سوق الأسهم السعودية 260 مليار دولار وفقدت الأسهم القطرية 20% من قيمتها ...
ّوجه هذا التصحيح الضروري والمعروف مسبقا للذين يتابعون المؤشرات آنفة الذكر ضربة قوية لصغار المستثمرين البسطاء. ونتج عن هذا ضغط كبير على ُُصنّاع القرار للتحرك. لكن هكذا تدخل قد يسيء للوضع أكثر مما يفيد، لأن التاريخ يؤكد أن تدخل الهياكل الرسمية بهدف السيطرة على الأسواق لا يجدي نفعا، وغالبا ما يؤدي إلى كوارث. في نهاية العشرينات من القرن الماضي تدخل المصرف المركزي الأمريكي بهدف التعامل مع البطالة فحول حالة الركود إلى انهيار اقتصادي كبير. وفي نظام سعر الصرف الثابت، خلال العقود الخمسة الماضية، حاولت عديد المصارف المركزية التدخل ببيع مخزونها من العملات الأجنبية للدفاع عن العملة الوطنية، فخسرت مخزونها دون أن تنقذ العملة.
الحقيقة أن علم الاقتصاد قد حقق تقدما مذهلا خلال العقود الخمسة الماضية مما ساعد على سيطرة أفضل على الوضع بدليل أن صدمة النفط في بداية السبعينات من القرن الماضي لم تُحدث أزمة شبيهة بما حصل عام 1929، وبدليل أن الارتفاع الأخير في سعر النفط لم يؤدي إلى حالة الركود والتضخم التي عرفناها عقب عام 1973.
مع هذا كان الرد على الانهيار الآخر غير مناسب، حيث جاءت القرارات الرسمية الأخيرة في شكل السماح للأجانب بشراء الأسهم في السعودية ورفع سقف الاقتراض من البنوك بهدف شراء أسهم في بعض الدول الأخرى. كما حاول بعض أهل الخير التدخل لعل أشهرهم الأمير الوليد بن طلال الذي وعد باستثمار أكثر من ملياري دولار في السوق السعودية. لكن هذه قيمة صغيرة في سوق خليجية أصبحت مندمجة، حيث ُتقّدر الأموال التي تدار الآن بالبورصات الخليجية بحوالي ألفي مليار دولار يستثمرها ما يزيد عن خمسة ملايين من الأفراد. كما قررت عديد الدول إرجاء الإصدارات الأولية. وتم إعفاء مدير عام سوق الكويت للأوراق المالية من منصبه بعد اتهامه بغض النظر عن صفقات وهمية أدت إلى الانهيار ...
لكن الحقيقة هي أن الأسواق العربية تشكو ضعفا كبيرا من عدم تطبيق شروط الاستقلالية والشفافية وعدم مصداقية الرقابة. هذا الضعف أدى إلى تضارب في المصالح حيث يكون عضو مجلس إدارة الهيئة الرقابية مستثمرا أو مسئولا عن شركة مدرجة في السوق، وهي وضعية غير مسموح بها إطلاقا في أسواق الدول المتقدمة. وأدى هذا الضعف إلى رفض " المستثمرين المؤسسيين " العالميين دخول السوق بما يجلبه ذلك من فوائد نتيجة الأموال الضخمة التي يديرونها، والطريقة المدروسة التي يستثمرون على أساسها، ولفترات طويلة، حيث لا تتجاوز مشاركة رأس المال المؤسساتي العالمي حدود 10% في الأسواق الخليجية المفتوحة، مقابل 80% في الأسواق الدولية.
على هذا الأساس، ستبقى الأسواق العربية إما مفتوحة يتلاعب بها كبار المضاربين في السوق وتنهار بصفة دورية في عمليات تصحيحية، وإما راكدة لا تلعب الدور الذي بمقدورها أن تلعبه بتوفير تمويل سليم للاقتصاد.
كاتب المقال باحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية، وخبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن