الاستقواء بالخارج أم استضعاف الداخل؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تهمة الاستقواء بالخارج، التي عاد إلى ترديدها نظام الرئيس السوري بشار الأسد مؤخرا، بمعية بعض الأنظمة العربية المشابهة، لإدانة القوى السياسية الساعية إلى التغيير الديمقراطي، تهمة مخجلة وبائسة تفضح واقع مردديها أكثر مما تمس من قيمة ومصداقية المتهمين بها، فقد كانت هذه الفرية تاريخيا قرينة الأنظمة الاستبدادية الآيلة للسقوط، ونذير الشؤم الذي ينعق به كل من أدركته النهاية المحتومة نتيجة ما ارتكب من كوارث وآثام وجرائم في حق بلده وشعبه وعصره.
ولكل متأمل في سير الملوك والرؤساء، أن يصل إلى هذه النتيجة الفاضحة، إذ ليس ثمة نظام ديمقراطي عادل تسلح في مواجهة معارضيه بتهمة الاستقواء بالخارج هذه، بينما كان الطغاة القدامى والجدد وحدهم من سخر زورا مثل هذه الترهات، التي يدرك أصحابها قبل غيرهم أنها مفبركة وفاسدة وحتى مضحكة، ومن عمل باستمرار للهروب من مواجهة المشكلات والقضايا والاستحقاقات الحقيقية المطروحة، إلى اختلاق أسباب وتعلات ومسرحيات سيئة الإخراج بهدف قلب الحقائق وتمييع وتسويف المطالب ومواصلة القبض على السلطة بلا حق أو شرعية.
وحدها إذن الأنظمة الطغيانية التي لا تكل ولا تمل من الزعم بوجود مؤامرات تتوخى قلب نظام الحكم بالقوة، والتخابر لصالح جهات أجنبية من أجل زعزعة أمن الدولة، والعمالة لقوى دولية تحركها غيرتها من إنجازات السيد الرئيس العظيمة وعبقريته التي غطت على العالم بأسره وتوجيهاته ونصائحه التي حرمت باقي شعوب الأرض من الاستفادة منها، فتحركت باتجاه استمالة ناكري الجميل والمعروف ومرضى القلوب وضعاف النفوس لضرب نهضة وتقدم وعمار أوطانهم السعيدة بحكم الخالدين والقادة والرموز التاريخيين.
الرئيس بشار الأسد أبدى في إحدى حواراته الأخيرة مع صحيفة غربية، أنه مستعد لتحريك سريع لكافة الملفات الخارجية، والمقصود أولا ملف السلام والتطبيع مع الدولة العبرية، فضلا عن ملفي العراق ولبنان بطبيعة الحال، أما الملف الوحيد الذي يتطلب علاجا متأنيا حسب الزعيم السوري، بالنظر إلى الظروف الداخلية غير السانحة، فهو ملف الإصلاح السياسي والديمقراطي، الذي ربما استحق أربعة عقود أخرى هي عمر الرئاسة المفترضة للابن، قياسا برئاسة الزعيم الأب.
قول الرئيس بشار ليس شاذا في السيرة الرئاسية العربية، فعدد كبير من الرؤساء العرب يرددون الحجة ذاتها، ويستشهدون بما يجري في العراق للتأكيد على مصداقية حججهم التأجيلية التي لا تنتهي، فالعرب برأي رؤسائهم - وخلافا لما تعتقده الدكتورة كونداليزا رايس- ليسوا مؤهلين لحكم أنفسهم بأنفسهم، وهم لا يحتاجون إلا إلى الغذاء والدواء كما قال صديقهم جاك شيراك، والسوريون وأشقاؤهم العرب لديهم - ولله الحمد- قدر لا بأس به من الكلأ والأسبيرين.
المعارضة الديمقراطية السورية - وعموم المعارضات العربية- ملامة كل اللوم لأنها تحاول جاهدة شرح أوضاع بلدانها للعالم، وهي ملامة أكثر لأنها تسعى إلى فتح نوافذ للنور والهواء والماء في جدران بلدانها التي تحولت إلى ما يشبه السجون الكبيرة، وهي تستحق الجلد الجماعي لأنها لم تتورع في خدش صور أنظمتها الزاهية والمساس بمصالح أوطانها العليا في الخارج، لكون صبرها قد نفد ولم تنتظر خمسين سنة أخرى لتكون ظروف المجتمع مهيأة لإجراء إصلاحات سياسية تعزز منظومة حقوق الإنسان والديمقراطية.
مثقفو السلطة العربية يتهمون قادة المعارضة والمجتمع المدني بالاستقواء على بلدانهم باليورو والدولار، وهم محقون كل الحق في اتهامهم هذا، فقد كان على هؤلاء المعارضين البحث عن فرص لهم داخل بلدانهم والسعي إلى القبض بالجنيه والدرهم والدينار، أما العملات الصعبة فالحري بهم تركها إلى بنوك الأنظمة المركزية والتجارية، وعائدات الصفقات الوديعة الآمنة المودعة بأرقام سرية في المؤسسات المالية السويسرية.
الصحف السلطوية ووسائل الإعلام الرسمية العربية تشيد بصداقات الأنظمة مع الدول الغربية، وتقدير هذه الدول للإنجازات الرئاسية وللأدوار الطليعية للإخوة القادة والزعماء، لكنها في الوقت ذاته تشن حرب إدانة ضروس لكل من لم يعرف قدره وحاول تزويد الغرب بقراءات ورؤى ووجهات نظر مخالفة للفرمانات السلطانية، ولا يجد محدود الفهم قدرة على فهم نقص الثقة في النفس هذا، وكثرة الجزع من ثرثرات معارضين لا قيمة شعبية لهم، في مجالس ديبلوماسية ضيقة.
بطولات بعض الأنظمة العربية في مواجهة القوى الامبريالية الدولية، تبدو مفارقة في غالب الأحيان، فهي صديقة هذه القوى وأثيرة لها و عزيزة جدا على قلبها في نشرات الأخبار التلفزية، بينما تظهر معجزة في التصدي لمخططاتها الشريرة والتضامن مع الشعوب الشقيقة المحتلة من قبل قواتها وإبطال مؤامراتها على دول العروبة المستقلة، في مقالات الصحافة المكتوبة وافتتاحيات رؤساء تحريرها الجهابذة، الذين ما انفكوا يبكون بمرارة الزعيم الخالد الأسير، ولا يمانعون أبدا في تلبية دعوة لطيفة من ممثلي الامبريالية العالمية وشرب كأس من النبيذ مع قليل من السلمون المدخن أو الكافيار في احتفالات الرابع من تموز من كل سنة.
في بعض الدول العربية التي كتب لها معايشة عمليات انتقال نحو الديمقراطية، مثلما هو حال المغرب أو لبنان، اكتشف أن عملية الاستقواء بالخارج قد توقفت - للأسف الشديد- بمجرد قيام حكومة ديمقراطية منتخبة، وأن المستقوين بالخارج يمكن أن يكونوا وزراء أولين ووزراء ونواب في البرلمان ومواطنين صالحين يعملون بجد من أجل نهضة بلدانهم، ولا يعلم إلى حد الآن ما إذا كان التقدير السابق القائل بأنهم عملاء وخونة للوطن هو الصائب، أم التقدير الحالي بأنهم بناة ديمقراطية وبلد جديد يسع كافة أبنائه لا يخشى الخارج، لأنه مطمئن للداخل وواثق فيه تماما.
وفي بعض الدول غير العربية أيضا، كالبرتغال واسبانيا واليونان وتشيلي وأوكرانيا وألبانيا، تحولت حكايات الأنظمة الديكتاتورية السابقة، وخصوصا ما دون في سجلات الأجهزة الاستخباراتية العتيدة منها، إلى أعمال كوميدية ساخرة، تذكر الأجيال الجديدة بغباء الحكام البائدين، الذين جعلوا من مجرد توجيه لاقط البث التلفزي نحو الغرب جريمة يعاقب عليها صاحبها بعشرات السنين من السجن والأعمال الشاقة.
نظام الرئيس بشار، وأنظمة أشقائه من الذين يصرون على السير في الاتجاه المعاكس لنسق التاريخ، لم يكلف نفسه عناء السؤال عن دوافع استقواء مواطنيه بالخارج عليه، على افتراض أن هذا الاستقواء موجود من الأصل، تماما كما قد يتساءل أهل النظام في هولندا أو بلجيكا أو فنلندا عن دوافع مواطنيهم في حال ارتكبوا الجريمة ذاتها، أم أن المواطنين العرب وحدهم - دون سواهم من أبناء شعوب الأرض جميعا- من لديهم الاستعداد لممارسة هذه الخطيئة الشنيعة؟
في العالم العربي، تسمح الأنظمة لنفسها بالتسلط، ومصادرة الحريات، وانتهاك الحقوق، واحتكار وسائل الإعلام، والزج بالمعارضين في المنافي والسجون والمعتقلات الرهيبة، و تجيير الثروة الوطنية لمصلحة العائلات الحاكمة، وتزييف الانتخابات، وتهميش القضاء والمؤسسات، والعبث بالدستور والقوانين، وإرهاب المواطنين وبث الخوف والذعر فيهم، والتفريط في الممتلكات العامة وتوقيع عقود دولية ومحلية مشبوهة، وإغراق البلاد والأجيال القادمة في الديون، وتأليه الحاكم وتأبيده على الكرسي، وفي مقابل كل ذلك تطلب من معارضيها أن يصبروا على القسوة والطغيان والجبروت، وأن لا يحدثوا أنفسهم حتى بمجرد نقل صورة صحيحة إلى ما وراء الأسوار عن بلادهم السعيدة، أم أن الخارج لا يصبح سيئا ومتآمرا إلا إذا حدثه المعارضون؟
ثمة طريق واحد لقطع الطريق أمام الذين يستقوون بالخارج على بلدانهم، هو طريق عدم استضعاف الداخل بإتاحة المجال أمامه للتعبير عن نفسه واختياراته بكل حرية ونزاهة ومساواة، لكن هذا الطريق كريه على الأنظمة العربية القائمة يستدعي دوام ذمها، وتكله أعين القادة العظام حماة جبهة الصمود والتصدي الأشاوس، فلا نامت أعين المتآمرين المستقوين بالخارج الجبناء...
كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي - لاهاي