لبنان والشهادات في الوطنية والعروبة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الأكيد أن الرئيس فؤاد السنيورة لا يحتاج الى شهادة في الوطنية من أحد لا في لبنان ولا خارج لبنان، خصوصاً من "حزب الله" الذي هو في النهاية ميليشيا مذهبية مرجعيتها خارج لبنان. ولا يحتاج الى شهادة من رئيس لمجلس النوّاب وصل الى حيث هو بفضل "حرب المخيمات" التي بزّت فيها الميليشيا التابعة له كلّ الأرتكابات التي نفّذتها الميليشات المسيحية بكلّ أشكالها وأنواعها في مختلف الميادين التي نشطت فيها. وحسناً فعل الرئيس نبيه بري بالأعتذار ولو بطريقة غير مباشرة عن تصرفه غير اللائق مع رئيس مجلس الوزراء، ذلك أن مثل هذا الأعتذار يعيد له أعتباره فضلاً عن أنه لا يقدم أو يؤخر في شيء بالنسبة الى فؤاد السنيورة... فالرئيس بري يكبر بالأعتذار من الرئيس السنيورة، خصوصاً عندما يكون شكل الأعتذار لائقاً كما حصل يوم الأثنين الماضي. أنه أعتذار يقرّب رئيس مجلس النوّاب اللبناني من صورة رجل الدولة.
ولا يحتاج فؤاد السنيورة في أي شكل الى شهادة من رئيس للجمهورية أعماه الحقد يرفض قول كلمة حقّ في حق لبنان واللبنانيين معتقداً أن الجعير والتهديد يُغنيان عن الحقيقة ويجعلان الخطاب السياسي الذي يُكتب له أو يُملى عليه ينطلي على أحد. أنه رئيس من عالم آخر لا علاقة له بلبنان ومصلحة لبنان لا همّ له سوى تنفيذ رغبات أسياده الذين يمتلكون هدفاً في غاية الوضوح يتمثّل في تكريس لبنان "ساحة" للصراعات الأقليمية لا أكثر ولا أقلّ. هذا هو دور لبنان بالنسبة الى أميل لحّود الذي لم يعد يجد من يلجأ اليه بين اللبنانيين سوى "حزب الله" المسلح بالقدرة على فرط حركة "أمل" وتفتيتها ساعة يشاء وبالطريقة التي يشاء...كي يؤكد هيمنته المطلقة على الصوت الشيعي في لبنان.
المؤسف أن أطرافاً عربية في قمة الخرطوم لم تحاول فهم الوضع اللبناني على حقيقته غير مدركة أن المزايدة في مجال الحرص على "المقاومة" في لبنان لا يفيد العرب في شيء بمقدار ما أنه سيلحق الضرر بهم، خصوصاً في غياب أي توجه عربي يستهدف مواجهة أسرائيل حقيقة. لو كان هناك مثل هذا التوجه، لما أُلقي عبء "المقاومة" على لبنان بهدف تعطيل الحياة السياسية والأقتصادية فيه خدمة لأسرائيل وليس لأي طرف آخر. ولو كان هناك توجه عربي حقيقي لمواجهة أسرائيل وما تقوم به في فلسطين، لكان وجد من يقف ويقول أنه من المعيب تحميل لبنان فوق طاقته كما من المعيب أبقاء البلد الصغير أسيراً للمحور الأيراني- السوري الذي لا همّ له في النهاية سوى عقد صفقة مع أميركا وحتى أسرائيل على حساب لبنان وكل ما هو عربي في هذه المنطقة. ولو كان هناك من يؤمن فعلاً بالمقاومة وليس بتدمير لبنان وأنهاكه لكان دعا صراحة الى فتح كل الجبهات العربية أمام العمل المسلّح. وأوّل الجبهات التي لا بد من فتحها، جبهة الجولان. أم أن هضبة الجولان لم تعد محتلّة وأن المطلوب التغاضي عن هذا الأحتلال لأنه يحرج النظام السوري الذي يرفض الأعتراف بأن برلين الغربية هي التي أنتصرت على برلين الشرقية وليس العكس. كذلك ، لو كان هناك من يريد قول كلمة حق بين العرب، لكانت القمة سعت الى تفهم الحقيقة المتمثلة في أن على النظام السوري الأقدام على خطوة محددة لتثبيت أن مزارع شبعا لبنانية. أم أن المطلوب المزايدة على الوطنيين الحقيقيين في لبنان من أجل أن يقول هذا الزعيم العربي أو ذاك أمام شعبه أنه دعم "المقاومة" في المطلق ولا ضرر من ذلك، ما دام لبنان واللبنانيون يدفعون الثمن؟ أوليست هذه الطريقة الأمثل لحصول هذا الزعيم العربي أو ذاك على شهادة براءة من شعبه... شهادة براءة لا تكلّفه شيئاً ما دام الطرف الذي يتعرض للأستنزاف أسمه لبنان...
أنها لعبة خطرة يلعبها العرب هذه الأيام برفضهم الوقوف مع لبنان واللبنانيين وتفضيلهم دعم القاتل على التضامن مع الضحية. أنهم لا يدركون أن الدفاع عن لبنان ورفض الدخول في مزايدات في موضوع "المقاومة" هو دفاع عنهم وعما بقي من منظومة الأمن العربي. أما السقوط في لعبة يُعتبر أميل لحّود، الذي لا يحسن حتى قراءة ما يكتب له مجرّد، أداة فيها، فهو سقوط في فخّ نصبه لهم المحور الأيراني- السوري الذي يستقوي حالياً بالأوراق الكثيرة التي يمتلكها في العراق وحتى في فلسطين. هذه اللعبة ستنقلب على العرب، جميع العرب، عاجلاً أم آجلاً، كون المحور الأقليمي الذي تعتبر "المقاومة" في لبنان أمتداداً له يشكل تهديداً للأستقرار في المنطقة كلها وليس في لبنان فقط.
من حسن الحظ أن الزعيم الوطني وليد جنبلاط، عرف بعد ساعات من المهزلة التي شهدتها جلسة مجلس الوزراء اللبناني، كيف ينقل القضية الى أطارها الحقيقي، أي الأطار الأقليمي، بدل أن تبقى في حجم ممثّل فاشل جعله النظام الأمني السوري رئيساً للبنان ومدد له ولايته بفضل التهديد. أن الموضوع المطروح يتجاوز لبنان الى المنطقة، ذلك ان ما على المحك مستقبل الشرق الأوسط كلّه. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هل تصبح أيران القوة المهيمنة على المنطقة، أم يتمكن العرب من أقامة توازن معها؟ لقد حاول وليد جنبلاط، الذي وضع دمه على كفه، تحذير العرب الشرفاء من مخاطر المرحلة المقبلة ومن مخاطر المحور الأيراني- السوري. حاول ذلك بعد قوله صراحة أن النظام السوري أتخذ قراراً بقتله على غرار ما فعل مع والده وعلى غرار ما حصل مع آخرين، على حدّ تعبيره، بينهم الرئيس رفيق الحريري.
من هذا المنطلق، يبدو وقوف العرب مع لبنان وقوفاً مع أنقسهم أوّلاً وليس مجرّد دفاع عن بلد صغير قد يعني شيئاً لبعضهم كما قدلا يعني أي شيء لآخرين. ما على المحك يتجاوز لبنان ويتجاوز قضيته، اللهم الاّ أذا كان العرب يعتقدون أن الوقت كفيل بحلّ مشاكلهم وأنهم غير معنيين بما يجري في العراق أو بما يدور في لبنان، علماً بأن ما يشهده لبنان هو من النتائج المباشرة لتحكّم أيران بالوضع العراقي بعد الأحتلال الأميركي للبلد.
يبقى أن المواجهة التي شهدها لبنان الخميس الماضي، تفرض على اللبنانيين الآخرين أتخاذ مواقف أكثر جدية من الحملة التي يتعرّض لها الرئيس السنيورة عبر أزلام النظام الأمني السوري- اللبناني، أو على الأصح يتامى هذا النظام الذين انتعشوا فجأة بعدما أكتشفوا أن "حزب الله" على أستعداد للذهاب بعيداً في أحتضانه لأميل لحّود. وبكلام أوضح، يفترض في الزعماء المسيحيين أن يكونوا أكثر حماسة في تأييدهم للموقف الأستقلالي والوطني للرئيس السنيورة والذي يذكّر بمواقف زعماء تاريخيين من أمثال رياض الصلح ورفيق الحريري. أن ما نادى به السنيورة وما فعله لاحقاً وليد جنبلاط في حديثه الى الزميل مرسيل غانم في محطة "أل. بي.سي" يستأهل دعماً مسيحياً أكبر، خصوصاً أنها المرّة الأولى منذ فترة طويلة التي يخرج فيها زعماء مسلمون لتأكيد أن الوطنية شيء والمزايدات شيء آخر وأن لبنان وطن يستحق الحياة كما يستحق الموت من أجله وأن لبنان وطن لجميع أبنائه وأنه ليس "ساحة" كما يريده المحور الأيراني- السوري الذي يعمل من أجل اعادة عقارب الساعة الى خلف، أي الى تلك الأيام التي كان فيها لبنان تحت الوصاية.
هناك زعماء مسيحيون ناضلوا طويلاً من أجل هذه المبادئ من دون التنكر لحظة لعروبة لبنان ولرغبته في أفضل العلاقات مع سوريا وشعبها الشقيق. هل كثير على هؤلاء الزعماء أن يدعموا ما يمثّله فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط بصوت عال وقوي من دون تحفظ ومن دون أي نوع من العقد؟ أكثر من ذلك، ألا يجدر باولئك الذين طالبوا منذ ما يزيد على ست سنوات بخروج القوات السورية من لبنان بموجب أتفاق الطائف الذهاب الى حيث ذهب فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط في رفض المزايدات في موضوع "المقاومة" وسلاحها الذي تحوّل للأسف الشديد سلاحاً على طاولة الحواريرفع في وجه الذين يمتلكون حدّاً أدنى من العروبة الصادقة والوطنية الحقيقية؟
اخيراً يفترض الا تقتصرالمواجهة مع النظام السوري والتابعين له وحلفائه على المسلمين السنّة والدروز والمسيحيين، لا بدّ من أصوات شيعية تقول أن" لبنان أوّلاً" هو شعار المرحلة بغض النظر عن الأستثمار الأيراني الكبير في شيعة لبنان. يفترض أن يؤكد الشيعة على الرغم من كلّ الأرهاب والظلم الذي تعرضوا له وعلى الرغم من كلّ عمليات الغسل للأدمغة أنهم لبنانيون أكثر من أي لبناني آخر وأن لا مجال لأن يزايد عليهم أحد في هذا المجال. أنهم أكثر لبنانية من أي لبناني آخر. هذه حقيقة. وهذا ما أظهره عشرات الآلاف من الشيعة كانوا في التظاهرات التي طالبت بخروج القوات السورية من لبنان، بل كانوا على رأس هذه التظاهرات رافضين أن يكونوا تابعين لهذه الميليشيا أو تلك أو لهذا الحزب الذي تسيطر عليه الأجهزة السورية أو الأيرانية أو ذاك.
ما يشهده لبنان ليس معركة داخلية لبنانية فحسب، أنها ايضاً معركة تصحيح المعنى الحقيقي للعروبة. أنها معركة من أجل عروبة منفتحة فوق الطوائف والمذاهب وفوق الشعارات الفارغة من نوع "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" التي لم تجلب سوى الكوارث على كل الدول العربية وشعوبها. أنها بأختصار معركة تصحيح معنى "المقاومة" وأعطائها معناها الحقيقي الذي يُخرج لبنان من الأسر ويجعل العرب أكثر شجاعة في أتخاذ المواقف من اصحاب الشعارات والمزايدين!