كتَّاب إيلاف

الديمقراطية العربية والأبواب الموصودة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"غطّيني يا صفية.. مفيش فايدة" (سعد زغلول)

معنى الديمقراطية
لدينا نحن العرب ومعنا اغلب مجتمعات العالم الإسلامي، جملة مشكلات صعبة لا يمكننا تجاوزها أبدا من دون معرفتها والاعتراف بها. ان من السذاجة والبلادة، التصفيق لمفاهيم الديمقراطية من دون فهم معانيها وادراك تجاربها التاريخية لدى الشعوب، ومن دون معالجة عوائق ممارساتها وتطبيقاتها في أي مجتمع من مجتمعاتنا التي لا يمكن ان تسير على الطريق المستقيم بلا تأسيس أي قطيعة جذرية بين الذي يتمّكن في العقليات والذهنيات من نزوعات وأهواء وافكار وبين الذي تقوم عليه الحياة الديمقراطية الحقيقية التي لا تختصر بحكم الشعب نفسه بنفسه، بل بأكثر من ذلك بكثير وخصوصا الايمان بالحريات العامة والشخصية والسياسية وعمل المؤسسات واحترام حقوق الانسان وتوفير الواجبات له والاعتراف بحقوق المرأة.. وان كل ذلك لا يمكن ممارسته من قبل اناس يتشدقون بالديمقراطية زيفا وبهتانا.
ولعّل من اغرب ما تشهده التحولات البنيوية الكبيرة في منطقتنا العربية وعالمنا الاسلامي استخدام " نماذج ديمقراطية " في واقع مليء بالتناقضات وفي مناخ تغيب عنه الروح الديمقراطية والمبادئ الديمقراطية والاساليب الديمقراطية والمؤسسات الديمقراطية.. لقد مضى نصف قرن شهدت اغلب مجتمعاتنا ممارسات بشعة وتجارب دموية لا تعرف أي معنى للديمقراطية ابدا، وقد ترسخّت الصور الاستبدادية والافكار الاحادية والمؤدلجات والاحزاب العقائدية والجماعات الدينية والتكفيرية التي اهانت المجتمع المدني في اكثر من مكان.. وسيطرت حكومات عدة على شعوب حيوية ونشيطة ومنتجة سحقت فيها روح المثابرة واطفئت شعلة المنافسة وسحقت قوة التباين واماتت التفكير الحر..

ماهية الديمقراطية

ان الديمقراطية لم يلدها دين ولا شرع ولا فقه ولا مرجع ولا مذهب ولا طائفة ولا حزب معين ولا حوزة ولا هيئة او تاريخ معين.. انها ظاهرة تاريخية وانسانية قديمة الفكر ومتجددة المبادئ وحديثة التكوين وواسعة المضامين، وهي نتاج كفاح ونضال الإنسان ضد الطغيان والاستبداد والاستعباد والظلم والتحزب والتكتل والدكتاتورية والتهميش والعنصرية.. إنها ثمرة تاريخ مجتمعات مدنية من اجل الحرية في كل مكان من هذا الوجود.. إنها أسلوب عمل مؤسسي منفتح وطريقة حياة في التعبير الحر وصنع القرار المسئول عن فكر سياسي يعّبر صاحبه من خلاله انه يلبي حاجات الواقع وضروراته. انها لا تمشي على اجندة محاطة باسيجة ولا تعمل من اجل سلطة ولا تتفاعل من اجل ان يقال بأنها " تجربة ديمقراطية "!
الديمقراطية لا يمكنها ان تنضج في بيئة مليئة بالتناقضات وتعّج بالتخلف وعادات وطقوس تكبل المجتمعات بالاغلال.. الديمقراطية لا تلغي دور المرأة وتحجّرها وتغلفّها وتلغي دورها الحيوي في بناء المجتمع! ان على من يمارس الديمقراطية ان يدرك معانيها لا ان يقتصر على ترديد شعاراتها التي باتت رخيصة جدا.. والديمقراطية لا يمكن استخدامها في بيئة متورمة بالامراض والسيئات يسودها الاضطراب والعنف الشديد ويعاني المجتمع من تناقضات رهيبة ومن صراعات دموية صارخة.. ان الديمقراطية تتمثّل باحترام ارادة الانسان الفرد ومشاعره وعمله وافكاره.. الديمقراطية لا تسمح لك باسترداد التاريخ لتحاكم به الحاضر. ان الديمقراطية ليست لها مقاييس لعادات هذا الشعب او ذاك او لهذا الدين او ذاك او لهذه العصبة السياسية او تلك الجماعة..!

هل العرب بديمقراطيين؟
كتب امير البيان شكيب ارسلان مقالا منذ قرن مضى بعنوان " العرب ديمقراطيون " يقول فيه ان العرب ديمقراطيون!! وقد أتى بأدلة ساذجة جدا ليست اقل مما يأتي به اليوم كتّاب عرب ومفكرون لا يعدون ولا يحصون وهم يؤكدون انهم من الديمقراطيين وان تجربتهم ديمقراطية، بل ويصل الهوس الى حد كيفية تصديرها الى الشعوب الاخرى.. بل وينبري حتى الوعاظ ليتكلموا بالديمقراطية وانهم من الديمقراطيين من دون الاخرين!! انني على الرغم من احترامي للاستاذ شكيب ارسلان واعتزازي بتاريخ نضاله ايام القضية العربية، الا أنني وجدته ساذجا جدا عندما اعتقد بأن الديمقراطية عند العرب هي افضل مما لدى الامم الاخرى، متخّذا بعض امثلته من عادات شخصية او تقاليد قبلية.. انه كمّن لا يعرف بأن " الديمقراطية " هي اسلوب حياة ونظام تفكير وركام خبرات وتقاليد عالية المستوى.. لا تنتهي بعادة العرب قديما او حديثا التخاضع لملوكهم وامرائهم كما تتخاضع امرائها وملوكها سائر الامم.. وليس ان خاطب رجال القبيلة شيخهم باسمه او بـ " ابو فلان " انهم من الديمقراطيين!؟ ويبدو ان شكيب ارسلان لم يقرأ تاريخنا جيدا ليدرك كيف كانت طبيعة الاستبداد الشرقي في كل من الدولة والمجتمع.. فالديمقراطية ليست شكلا من اشكال العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم فقط، بقدر ما هي اسلوب حياة ونظام مجتمع يتمتع بذلك ديمقراطيا كل انسان وكل مجتمع وكل مؤسسات أي دولة من الدول ذات التجارب الديمقراطية!

مائة سنة من التحولات!
واعتقد ان مائة سنة مرّت علينا والعرب لا يعرفون من الديمقراطية الا شكلها واسمها وشعاراتها، فالذين كانوا من الليبراليين المؤمنين بالحريات وصناديق الانتخاب والمجتمع المدني اساؤا الى الديمقراطية من خلال شراء الاصوات في شوارع المدن والفلاحين في الارياف.. والذين كانوا من الماركسيين والشيوعيين الامميين استخدموا " الديمقراطية" وهم لم يتنازلوا ابدا عن فلسفة الصراع الطبقي وسجن الحريات وحكم البروليتاريا.. اما الذين انضموا لاحزاب قومية وشوفينية فلقد وجدوا في " الديمقراطية " قناعا مثل كل الافكار والمصطلحات الجديدة التي استعاروا شعاراتها زورا وبهتانا.. ومن المضحك المبكي، ان تغدو " الديمقراطية "، مطية هي الاخرى للاحزاب الدينية في العشرين سنة الاخيرة، والتي لا يقبل أي منها القبول بالاخر ومنح الحريات ولا يؤمن أي عضو فيها بأي تفكير مدني حر!!
ولعل في تبلور مخاطر الصحوة الدينية التي أتت بها الحركات الدينية المتشنجة قد خلقت جملة هائلة من الاحزاب والجماعات المذهبية والطائفية في المنطقة وعموم عالمنا الاسلامي، والتي ستؤتي اكلها الصعبة اليوم على زمن التحولات. ان كل المنّظرين والساسة والكتاب العرب لم يدركوا طبيعة مجتمعاتنا في المنطقة والتناقضات المريعة التي تعيش عليها وكلها تناقضات مسكوت عنها وخفية عن الظهور بفعل الوازع الوطني.. ولابد ان نعترف بها قبل ان تنفجر، وهي تتفجر بكل مآسيها في اولى التجارب التي يسمونها بالديمقراطية.. ومن الغباء الذي يسيطر على العقليات الثخينة قبول " الديمقراطية" شعارات براقة والايمان بها وبشكلياتها والاخذ بنتائجها والتشدق بها من دون الاعتراف بأن " الديمقراطية " : فكرة وفلسفة وظواهر وممارسات تطبيقية هي غربية الاصول لا تمّت الى تاريخنا ولا الى تفكيرنا ولا الى واقعنا بصلة.. فهم يأخذونها مجردة من اصولها ومرجعياتها الاوربية ويحاولون ممارستها بغرابة وتطبيقها على واقع مجرد هو الاخر من تناقضاته ومن دون الاعتراف بتلك التناقضات ابدا.. وعند ذاك ستكتشف هول ما سيحدث من التصادمات وما ينتج عن ذلك من الانشطارات والتمزقات والصراعات الدموية..

تجارب مختنقة تتشبه بالديمقراطية
وأسأل : هل الديمقراطية تنحصر بقوائم انتخابية وهوس عاطفي ليقال بأن حياتنا غدت بقدرة قادر حرة وديمقراطية؟ هل انها مجرد وسيلة للوصول الى السلطة واحتكارها ومن بعدها ليذهب الشعب الى الجحيم؟ ام انها اسلوب عمل ونظام حياة يتربى عليه الانسان في مجتمعه كي يدرك ضروراته ويدرك طبيعة علاقة المجتمع وكل علاقاته الاقتصادية ونسيجه الثقافي الذي ينتمي اليه بالدولة؟ ان الديمقراطية هي اكبر بكثير من توصيفنا انها حكم الشعب لنفسه، اذ انها صيغة تحافظ على حقوق الناس والتعبير عن رأيهم وبالتالي صيرورة ارادتهم الفكرية والسياسية المستقلة!
ان الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخابي يساق اليه الناس بشتى الطرق والاساليب زرافات ووحدانا او بقضّهم وقضيضهم لكي يدلوا برأي واحد لا يمّت الى حقيقة ما يتطلبه الزمن منهم، بل انه رأي الزموا به من خلال تعبئة او تعبئة مضادة.. والديمقراطية تعبير عما يريده الانسان (= الفرد) في الهيئة الاجتماعية لا عما تبيته أي كتلة او تيار او حزب او هيئة من اجندات غير سياسية وغير وطنية!! وعليه، فان أي تجربة انتخابية ان لم تمّت لروح المواطنة بصلة، ولا تنتمي للمؤسسات بأي اعتبارات، فهي لا تعد بديمقراطية ابدا!

مأزق الديمقراطية: عقبة تطور عالمنا العربي
كانت الديمقراطية قد طرحت في اجزاء مهمة من عالمنا العربي منذ العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين.. لا كما تقول الباحثة الدانماركية بريجيب راهبيك في كتابها الجديد الذي حرّرته بعنوان " حركة الدمقرطة في الشرق الاوسط : مأزق وآفاق " اذ أدعّت بأن الديمقراطية طرحت عند العرب في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بواسطة الأحزاب والقوى التقدمية العربية. وانا أقول بأن العرب عرفوا هذا " المفهوم السياسي وتياره وتاريخه منذ بعيد الحرب العالمية الأولى، واعتقد انه وجد نموه وتبلوره في النصف الأول من القرن العشرين وحتى لدى الأحزاب الشيوعية العربية، كما وان الاستعمارين البريطاني والفرنسي لم يبخلا على العرب والأتراك والإيرانيين بل وحتى على الهنود وغيرهم من شعوب آسيا وإفريقيا بتأسيسهم مجالس بلدية ومجالس ادارية منتخبة انتقالا الى مؤسسات تشريعية عليا منتخبة.. وبالرغم من تعثّر تلك التجارب الا انها كانت لها القدرة على التطور البطيئ، فكانت ان نجحت الهند (لبقائها دولة مستقلة في حزام الكومنولث) وفشل العرب بعد ان تلاعبت بهم الحرب الباردة .
ان التدخلات الأمريكية بشكل فعّال في الشرق الأوسط منذ بعيد الحرب العالمية الثانية بإحداث سلسلة من انقلابات عسكرية تحت غطاء " الثورات " على النظم القديمة قد أوقف العملية الديمقراطية برغم هزالها وبؤسها ونحرها على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين من قبل حكومات عسكرية او ثورية او فاشية ضمن اطار الحرب الباردة التي وقعت المنظومة السياسية العربية تحت وطئتها مباشرة.. بل راحت الولايات المتحدة تدعم كل الأحزاب القومية والدينية للوقوف ضد الشيوعية العالمية وبذلك ساهمت الولايات المتحدة الامريكية باحداث الفوضى والاستبداد من طرف، وغرس التراجع عن المفاهيم السياسية المدنية الحقيقية التي كان الاوائل من المفكرين العرب قد بشرّوا بها وكان في مقدمتهم الاستاذ احمد لطفي السيد.

توظيف "الديمقراطية" شعارات ودعايات
لقد بقيت القوى السياسية العربية الليبرالية والقومية والشيوعية بالرغم من كل تطبيقاتها السياسية المتهافتة تطرح موضوع " الديمقراطية " كهدف اساسي من اهدافها، ولكن الغرب كله لم يعرها أي اهتمام (وخصوصا الولايات لمتحدة الامريكية)، بل راح يدعم الانظمة الاستبدادية الحاكمة لأنه بقي مشغولا ومهووسا بأحادية مواجهته للخطر الشيوعي الذي يمثّله الاتحاد السوفييتي وحلف وارشو! واعتقد ان الانظمة العربية التي بقيت على علاقات قوية ببريطانيا، قد بقيت هادئة ومستقرة ومتوازنة. ولابد ان ندرك انه نتيجة لسياسات الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الامريكية نضجت الحركات الاصولية وخصوصا بعد الثورة الدينية في ايران عام 1979! وبعد اكثر من عشرين سنة على تلك " الثورة " تفجرت ضربة 11 سبتمبر 2001 القاسية. وهنا تغّيرت الامور رأسا على عقب في سياسة الولايات المتحدة، اذ أحسّت انها السبب الذي احال منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا الى ما يشبه البركان.. فبدأت تنادي بدمقرطة المنطقة ضمن اجندة سريعة ليست مبرمجة ولا معقولة، وكأن الامر يمر من دون أي تحولات تاريخية.
نعم، لقد غّيرت الولايات المتحدة سياستها وابتدأت تتحدث عن دمقرطة الانظمة العربية المستبدة التي وّلدت مثل هذا الحركات الاصولية المتطرفة في احضانها وعلى ارزاقها.. وجاء التغيير على ايدي القوات الامريكية ومن تحالف معها في بلدين اثنين : افغانستان والعراق. ومن سوء ما يفكّر به (الديمقراطيون العرب) الجدد هو نفسه المستعار من الجمهوريين الامريكيين الذين بدءوا حملتهم من اجل دمقرطة العالم العربي والشرق الاوسط في مقدمته.. من دون معرفة البيئة الاجتماعية وتناقضات التفكير وازمات التغيير. انهم يطرحون المسألة الديمقراطية وكأنهم يطبخون طبخة سريعة ليوزعوها على الجياع! فلا يمكن ان تبدأ أي عملية سياسية ديمقراطية في ظل اوضاع سيئة للغاية، ولا يمكن تشريع دستور بسرعة بالغة وفي ظل اجندة ايديولوجية.. ان هكذا حالة من الفوضى سيتولد عنها الجحيم بعينه بسبب ما نتج من مؤشرات تذكي الصراع وتشعل الواقع!
والمشكلة في الغرب انهم يعتقدون بأن ما يريدونه سيطبّق مباشرة ومن دون أي اخفاقات.. والمشكلة عند العرب انهم يعتبرون انفسهم في مصاف الغرب (او بالاحرى : العالم المتقدم) اذ يقبلون املاءاته عليهم من دون أي عقل ولا أي منطق. بل واصبحت الولايات المتحدة تطلق جملة من المعلومات والمفاهيم الخاطئة التي لا تتفق ابدا وحقائق الجغرافية والتاريخ والواقع من اجل تمرير خططها في الديمقراطية السريعة.. ان الديمقراطية الحقيقية بحاجة الى عملية سياسية واعية وذكية وان أي عملية كهذه لا يمكنها ان تتطور الا في ظل اوضاع امنية غاية في الاستقرار والاعتماد على كل الاطياف الوطنية في حوارات لا تؤجج المشاعر وتصريحات لا تشعل القلوب. ولا يمكن ان تجرّب حظوظك في الديمقراطية الا من خلال مؤسسات سياسية مدنية لا من خلال مرجعيات دينية او طائفية ولا في ظل اولياء امور واوصياء وزعماء ما ان يصلوا السلطة حتى يعتبرون انفسهم جبابرة ويتوهمون ان الارادة الالهية قد اختارتهم لهكذا مناصب.. فيتشبث بها المساكين باسم الديمقراطية!

الاصوات لمن؟ للبرامج ام للشعارات؟
ان المشكلة ليست بالرأي العام الذي يريدونه يبصم من دون أي دراية ولا عقل، بل انها ابشع عملية من استغلال عواطف المجتمع القبلية ومشاعر الملايين الدينية او تعصبات البعض الطائفية.. انها - ايضا - مشكلة ساسة وكتاب والاف من اعلاميين واشباه مثقفين ولكنهم جميعا يتحذلقون ذات الشمال وذات اليمين تبعا للاهواء فيميلوا حيثما مالت كفة هذا او رجحت على حسابها كفة ذاك.. انهم يضحكون على انفسهم قبل ان يضحكوا على العالم عندما يقولون بأنهم اصحاب حضارات، بل ويقيسون انفسهم كونهم يعيشون آخر ما وصلت اليه الحياة السياسية المتقدمة في العالم ابان القرن الواحد والعشرين.. وهم يدركون ادراكا حقيقيا مدى التخّلف الذي تثوى عليه فيه مجتمعاتهم التي تعيش حياة العصور الحجرية لا الوسطى قط! انهم يدركون جيدا بأن العلاقات السياسية والاجتماعية اشبه بحياة الغاب فالقوي يأكل الضعيف، والشقي العصي ينحر الاحرار، بل وان الانقسامات المذهبية والطائفية قد وصلت الى ذروتها عند من يتشدقوا بالتقدمية والنهج الثوري الذي يبدو انهم انقلبوا عليه اليوم.. انني لست ضد من يغّير مواقفه وافكاره بتأثير الحرية وان يغدو مروّجا للديمقراطية.. ولكنني لا اتخّيل من ينقلب على عقبيه وقد اختار صراعات الطائفية بديلا عن صراع الطبقات!

الديمقراطية العربية.. بحاجة الى اجيال واجيال!
لا يمكن ان نتصور الديمقراطية العربية وقد ولدت فجأة ولادة قيصرية لنرى عالما ليبراليا يتمتع الانسان بحرياته وحقوقه وواجباته وفرص النجاح في حياته، فضلا عن ضمان العيش.. فذلك سوف لا يتوفر ابدا بمثل هذه السرعة في أي بلد عربي.. ولكن لا يمكننا ان نتخّيل مثل هذا الذي يحدث في شبه تجارب ديمقراطية جديدة.. في النصف الاول من القرن العشرين ادينت التجارب الانتخابية العربية بالفساد وتدخلات الاقطاع ورؤساء العشائر بالاستحواذ على المقاعد النيابية من خلال توظيف ملايين الاصوات بالقوة والترهيب والترغيب .. واليوم تدان التجارب الانتخابية العربية بالانحراف اثر تدخل رجال الدين والمعّممين بالاستحواذ على المقاعد النيابية من خلال توظيف ملايين الاصوات بالقوة والترهيب والترغيب وهوس المشاعر. ناهيكم عن الانقلاب من احزاب وطنية (اصلاحية وليبرالية وتقدمية) الى احزاب دينية (اصلاحية وسلفية وطائفية) وبين المرحلتين عاشت المنظومة الاجتماعية في ما اسمي بـ "المد القومي العربي" الذي فرضت فيه القوى القومية (الريادية والحزبية والشوفينية) نفسها ولم تحاول ان تطّور الديمقراطية ابدا، بل كبلت المجتمعات بالاحادية..
ان مشكلة الديمقراطية اليوم تتوزع على جميع القوى والتيارات وانها قد اصبحت اداة سهلة للشغب والانقسامات والانشطارات والتشظيات والاحقاد والكراهيات.. كونها رائعة الاهداف والمعاني ولكنها سيئة في التطبيق وانها قد خلقت ازمات في داخل بنية الحزب الواحد.. فلا يمكن ان يتخّيل العالم حزبا عريقا جدا مثل حزب الوفد الليبرالي العتيق بمصر وهو ينقسم فجأة على نفسه ويتشظى ليستخدم الرصاص بين اعضائه!! ربما يقول قائل ان تجارب برلمانية وحزبية في انحاء شتى من العالم قد حدثت فيها هكذا انشقاقات. اقول : بلى، ولكن قد يحدث هذا حتى الضرب بالاحذية وتبادل الشتائم بين حزبين اثنين او بين اكثر من اتجاه واحد، ولكن ان تصل لدى اعرق حزب ليبرالي درجة اطلاق النار وسقوط قتلى وجرحى فهذه تجربة بليدة بحاجة الى وقفة تاريخية طويلة..
بل الانكى من ذلك كله ما حدث في بلدان عربية مثل : الجزائر والعراق ولبنان.. ان تصل درجة الاختلاف السياسي الى القتل والنحر والتفخيخ كي نجعل العالم يقف مندهشا على هكذا تجارب نخوضها باسم الديمقراطية.. وان ذلك يستدعي الى اكثر من وقفة لاستعادة ما يقف من عوائق حقيقية بوجه تقدمنا وكيف باستطاعتنا ان نفتتح الابواب الموصودة التي ليس من السهولة ان تتحرك.

واخيرا : ما العمل؟
اعتقد ان مخاض التحولات في منطقتنا العربية لا يمكنه ان ينتهي بسرعة من دون اثمان تدفع من قبل المجتمع وعلى مدى زمني ليس بالقصير ابدا.. ومن اجل اختزال الزمن، ينبغي تسمية الاشياء والمعاني باسمائها واعتماد من يدرك ذلك ليكون مرجعا، وان يسمع كل المسؤولين لما يقوله الرأي العام وما تقترحه النخبة.. لابد ايضا ان تتغير المناهج المدرسية والجامعية بما ينتج من تشكيلات نوعية جديدة لجيل جديد سيكون محو العملية الديمقراطية وسيرسخ تقاليد واصول تيبعها من يأتي بعده.. ان هكذا مقترحات لا يمكن وصفها بالطوباوية عديمة التحقق، اننا ان شئنا ام ابينا فلابد ان تمر مجتمعاتنا بهذه المستلزمات.. ان الديمقراطية يمكنها ان تتعثّر لاسباب نياشرة ام اسباب غير مباشرة. ولكن لا يمكن لمنطقتنا ان تمضي في تجاربها الخاطئة كما الفنا ذلك من دون ان تتعلم من تجارب الشعوب الاخرى.. فضلا عن ان الديمقراطية اذا كانت بداياتها صائبة فان ستكون صائبة في سيرورتها التاريخية نحو المستقبل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف