كتَّاب إيلاف

شجرة الإلهام

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

على مدى الاف السنين، كانت امواج البحر تقذف الى السواحل الهندية، بنوع من ثمار جوز الهند، كبير الحجم، تزن الواحدة منها حوالى عشرين كيلو غراما احيانا. وكان ذلك مثار دهشة بالغة لدى الهنود، الذين لم يشاهدوا من قبل قط، ثمارا بهذا الحجم، وبمضى الزمن، ساد بينهم اعتقاد راسخ بأن شرب عصير مثل هذا النوع من الجوز - الذى اطلقوا عليه اسم الجوز البحرى - يساعد على استعادة الشباب وتنوير العقل وصفاء الذهن.
ولكن المصدر الأصلى لهذه الثمار الغريبة، ظل مجهولا لأمد طويل، وقد اكتشف البحارة فى ما بعد، ان مصدرها هو جزر (سيشيل) وان اشجار (الجوز البحرى) تعمر حوالى ألف سنة ويبلغ ارتفاعها حوالى ثلا ثين مترا، ولها اوراق يبلغ عرض الواحدة منها ثلاثة امتار، كما ان ثمارها، تنضج خلال عشر سنوات، ويقال ان الوقوف تحت هذه الشجرة يساعد على تنشيط عملية التفكير.
ولا يقتصر الأمر على اشجار جوز الهند او (الجوز البحرى) فحسب، حيث ان ثمة اشجارا اخرى مختلفة، يعتقد الناس أنها تعمل على تنشيط الذهن و جعل عملية التفكير اكثر فعالية، ومنها شجرة (باو باب) لدى ألأفارقة وشجرة (سيكفويا) فى اميركا الشمالية والتى يبلغ ارتفاعها حوالى (150) مترا و هى أعلى شجرة فى العالم وتستعمل فى بلدان كثيرة لغرض تحسين وتجميل البيئة المحيطة بالأنسان.
ورغم ان هذة الأشجار مختلفة من شعب الى آخر، حيث نجد ان شجرة (الحور) هى المقدسة لدى شعوب بعض بلدان اميركا الشمالية و التخلة لدى اليهود والأرز اللبنانية عند البابليين والسنديان فى اليونان ومعظم البلدان الأوروبية. الا انها اشجار تجمعها سمة واحدة هى اعتقاد مئات الملايين من البشر فى انحاء العالم المختلفةو حتى عصرنا الراهن، انها تنير العقل وتمنح دفقة من الطاقة الذهنية الخلاقة وتتيح الفرصة لأدراك الواقع على نحو اكمل واعمق.
وقد جاء فى النصوص البابلية القديمة، ان شجرة (الأرز) مباركة والوقوف تحتها يساعد على تنشيط الذهن. وليس من قبيل المصادفة، ان العديد من شعوب العالم تقيم احتفالاتها الشعبية او الفولكلورية تحت هذه الأشجار. وارجو ان لا يتبادر الى ذهن القارىء بأن هذه الطقوس، تنم عن تفكير بدائى او أنها فولكلور عفا عليه الزمن، ذلك لأن العقل البشرى لغز عجز العلم، حتى يومنا الراهن عن اماطة اللثام عن اسراره وخفاياه.
ويعتقد علماء الفيزياء - وحسب نظرية الأحتمالات - أن العقل البشرى، لا يمكن ان يكون قد ظهر خلال الفترة، منذ نشوء كوكبنا الأرضى وحتى اليوم - ذلك لأن عمر الأرض جد قصير قياسا الى ما يتطلبه هذا العقل من زمن طويل للنشوء والتطور والنضوج، ولا بد ان تكون هناك قوى خارجية او قوة دافعة ادت الى ظهور العقل البشرى.
وتقول مجلة (نيو ساينتست) الأنجليزية - وهى مجلة علمية رصينة و جادة - (أن العقل البشرى قد ظهر على وجه الأرض على نحو مباغت ومذهل وان نشأة هذا العقل وتطوره اصبح موضوعا أثيرا لدى العلماء المتخصصين وبعضهم من اكثر العقول فى عصرنا تألقا وعمقا.)
وهذه حقيقة تؤكدها النصوص المقدسة والتى تشير الى ان (النور) الذى هبط على الأنسان وأنار عقله، كان مرتبطا بالأشجار المقدسة.
وقد ورد فى الأساطير الألمانية والنصوص الفارسية القديمة وفى حكايات الزنوج فى جنوب افريقيا و كذلك فى اساطير هنود اميركا الشمالية وفى ملحمة (ماهابهاراتا) الهندية، ان اول زوجين من البشر هبطا من الشجرة المقدسة وان الأنسان الأول تلقى منها شحنة دافعة تنير العقل والذهن.
وتشير الأساطير الهندية الى ان الأمير الهندى (غا وا تاما)ادرك ان العالم غير متكامل وبحث لسنوات طويلة عن معنى الوجود ومبرراته وقرأ كثيرا من الكتب وحاور الحكماء والقديسين والعلماء ولكن دون جدوى، حيث لم يحصل على اجابات مقنعة لتساؤلاته. وذات مرة كان جالسا تحت شجرة (با) الكبيرة الحجم فظهرت امامه الحقيقة واضحة وجلية واصبح ذهنه صافيا، حيث اضاء نور سماوى عقله.
هذه الحقيقة نقلها الأمير الى أتباعه. واليوم نجد ان نصف البشرية تؤمن بتعاليم هذا الأمير الحكيم الذى يعرفه العالم بأسم (بوذا). وتنفرد (البوذية) بين الأديان الأخرى بأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالشجرة، وشجرة (با) مقدسة لدى البوذيين، ليس لأنها تقترن بحدث عظيم، بل بكونها (شجرة الألهام) ومصدر الحقيقة.
وعلى مدى التأريخ البشرى، كان الملايين من البشر من شتى الأعراق، يتوجهون نحو اشجارهم المقدسة لتنير عقولهم ويصبح بوسعهم ادراك معنى المواقف الحياتية التى تواجههم واتخاذ القرارات الصائبة بشأنها، بل وحتى اجراء المحاكمات فى ظلالها.
وارجو ان لا يتبادر الى ذهن القارىء ان اساطير الأولين، مجرد خرافات من نسج الخيال، ذلك لأن فولكلور الشعوب، ليس كله وهما وخيالا، بل حصيلة التجارب الأنسانية على مدى الاف السنين.
و رغم التقدم العلمى - التكنولوجى الباهر الذى احرزه الأنسان المعاصر وبخاصة فى العقود القليلة الماضية، الا انه لا يعرف عن ذاته وعن الطبيعة المحيطة به وعن الكون، الا النزر اليسير. ويوما بعد اخر، يكتشف العلم حقائق جديدة، تنم عن حكمة الشعوب وعظمة العقل الأنسانى.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف