اللعبة السياسية / فن الضربة الموجعة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كل شي في هذا الوجود عبارة عن (بِنية) كما يقول بعض الفلاسفة وبعض علماء الاجتماع والنفس بل والأدب أحيانا، والبنية تتشكل أو تتكون من مجموعة من الأجزاء، والكل ليس مجموع أجزائه هنا بل يفوق هذه الأجزاء كما تقول مدرسة الجشطالت النفسية المعروفة، وعلى الصعيد السياسي، الدولة بنية، والحزب بنية، والنقابة بنية والجمعية السياسية بنية، وهكذا...
هذه الفكرة أو النظرية دخلت في أدبيات وحيز الصراع السياسي، ومن ثم لها صلة بأصول اللعبة السياسية، فان البنية بطبيعة الحال تتشكل من أجزاء رئيسية، تشكل حجر الزاوية فيها، هي المركز، مصدر القوة والحيوية والإشعاع، ليست ا لمركزية هنا موقع مكاني،بل المركزية هنا فاعلية وتفعيل، خلق وتخليق. هناك عناصر أقل أهمية، لأنها تقوم بدور هامشي، دور على هامش المكونات الجوهرية، تساعد... تسرّع... تسعف... وكل بنية هي نظام من التحولات المتمخّض عن تفاعل بين كل مكوناتها، ولكن يعود الفضل المفصلي إلى تلك المكونات الجوهرية، وليس من شك أن هذا التحولات تتأثر بالعلاقة بين المركز والأطراف، وفي الصراع السياسي ينبغي تحديد هذه العناصر أو بالأحرى الأجزاء، والتمييز بين الجوهري والهامشي، وفي ضوء ذلك تتحدد معالم اللعبة في الصراع مع الآخر...
هل تريد إرباك الآخر أم تريد توجيه ضربة قاصمة له؟
هل تريد (دولة) ما إرباك الحزب المعارض أم تريد تعطيله من الفاعلية وتحويله إلى وجود هامشي؟
هل تريد دولة إسقاط نظام مجاور أم تريد تركيع هذا النظام أو حصره في زاوية حرجة من أجل ابتزازه؟
هل تريد أمريكا تحجيم الدور الإيراني أم تريد تأجيل هذا الدور لوقت أم تريد شل ا لدور نهائيا أم تريد إخضاع إيران للإرادة الأمريكية؟
تتفاوت مديات الضربة الموجعة بطبيعة الحال، ولا يمكن حصر هذه المديات بأسماء وعناوين ومساحات معينة بشكل رياضي محكم.
أن اللعبة السياسية تتوقف هنا وإلى حد كبير على مدى معرفة التكوين الداخلي للبنية، التعرف على عناصرها أو على أجزائها المهمة والهامشية، الجوهرية والعادية، المركز والأطراف، المؤسِّس والمساعد، كي تأتي الضربة موجعة حقا.
أن الضربة تتوقف في تحصيل استحقاقاتها على تحديد أجزاء البنية، فليس من شك أن الضربة التي ترمي إلى إرباك مؤقت بالنسبة للآخر قد لا تتطلب شل العناصر أو الأجزاء الجوهرية، بل مجرد القيام بمحاولة من شانها إرباك العناصر الهامشية قد تحقق الهدف المنشود هنا، فأن العناصر الهامشية ليست عاطلة، بل أن نظام التحولات في البنية هي حصيلة التفاعل بين المركز و الأطراف كما قلنا، وبالتالي، يكون إرباك هذه الأطراف يؤثر بدرجة وأخرى على فاعلية المركز، قد لا تشله، ولكن تحجم من حركته، قد لا تقضي عليه بل تقلل من نشاطه، قد لا تقصيه تقلص من مساحة حضوره، وهذا هو المطلوب أساسا.
أن ضرب القلب من الجسم الإنساني تقضي على هذا الجسم تماما، أن ضرب الدماغ تنهي الجسم تماما،كذلك الآخر، سواء كان نظاما، أو حزبا، أو مؤسسة، حيث يختار مخططو الضربة القلب.. الدماغ...العصب الحساس، ومن ثم يوجهون لها سهامهم القاتلة.
اللعبة هنا تعتمد المعلومات الدقيقة، وتعتمد الآليات الماهرة، وتعتمد الزمن المناسب، وتعتمد القيادات المحنكة، وتعتمد الظروف المواتية، ومن ثم تعتمد الممكنات المتوفرة، فقد ينتهي التحليل إلى تشخيص نقاط القوة، تشخيص القلب... الدماغ... العصب الحساس... المركز... المراكز، وكذلك الأطراف، قد ينتهي التحليل إلى نتائج رائعة في هذه المجالات، ولكن القدرات المطلوبة غير متوفرة، دون المستوى، لا تفي بالمطلوب، غير قادرة على تسديد الضربة بإحكام، لأنها هشة، ضعيفة.
كلما تكون البنية معقدة، مركبة، يكون استهدافها أصعب، وكلما تكون بسيطة، ساذجة، يكون استهدافها أسهل، فأن النظام الذي يستمد وجوده وحيويته ونشاطه بالدرجة الأولى من شخص بعينه، أو من عائلة بعينها، ما أسهل إرباك حركته، وما أ سهل القضاء عليه، أن أكثر من نظام عربي وإسلامي يستمد مبررات وجوده ونشاطه وفاعليته من شخص الرئيس، أو من عائلة معينة، أو من مجموعة أسر، ولذا ما أسهل ضربه وتقويضه، فضلا عن إرباكه.
لاحظنا كم ارتبكت منظمة فتح لما فقدت ياسر عرفات، فأن بؤرة تجمع القوى قد تفتت، ولاحظنا كم ارتبك النظام في العراق لما هرب صدام حسين، لأن صدام حسين كان الرأس، كان القلب، ونلاحظ كم هي الأمور مرتبكة لما غاب الأسد الأب، ذلك أن الضربة توجهت إلى مفصل البنية، إلى نقطة القوة التي تمسك باقي القوى، باقي العناصر، من حزب، ومخابرات، وعسكر، ودبلوماسية ناعمة تميز بها الأسد الأب، وعلاقات مع الأنظمة العربية على اختلاف توجهاتها
من الصعب توجيه ضربة قاصمة للنظام الإيراني بغية شله تماما، لأنه يملك أكثر من مركز قوة، ولأنه يتحكم بشبه قارة، ولأن ثروة نفطية في حوزته، ولأنه يملك أجندة في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين، ولأنه قادر على تحريك الشارع، ولذا قد يكون التعامل الأمريكي معه على فكرة الإرباك، وليس الإقصاء، على أساس التحجيم وليس على أساس شله وإضعافه.
وقد يتوهم أن اللعبة هنا تعتمد بالدرجة الأولى على القوة العسكرية، هذا وهم، فهناك الضربة العسكرية حقا، ولكن هناك أيضا إثارة المتاعب من الداخل، وهناك شراء المركز بالمال والإغراء، وهناك لغة الصفقات بشكل وآخر، وهناك ما لا يحصى من النماذج في هذا المجال.