فتح ملف الوليمة الحيدرية!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لبيان خطورة فوضى الفتاوي الطالبانية
حيدر حيدر من الروائيين السوريين المعروفين في عموم أرجاء الوطن العربي، ولم يسبق أن أُثيرت أية خصومات حول هويته الثقافية، خاصة أنه من الكُتاب العرب الذين لم يدخلوا في لُجة السياسة وخصوماتها وإصطفافاتها، وكان شبه متفرغ لفنه القصصي والروائي، وكإنسان - عبر معرفتي الشخصية به - فهو يتسم بالهدوء والطيبة والتسامح، مثقف عاش في عدة أقطار عربية، لم يُعرف عنه أنه أهان الدين أو أستهتر بالمتدينيين، بدليل أن روايته التي إشتهرت نقدياً بإسم "وليمة لإعشاب البحر" وكان حريا بها أن تُعرف حسب وقائعها بإسمها الثاني (نشيد الموت)، عندما صدرت طبعتها الأولى في عام 1983م، أي قبل ثلاثة وعشرين عاما، احتفل بها القراء و المتخصصون ونقاد الأدب، كعمل روائي متميز دون أن تثير آنذاك أية مقاربات أو تأويلات دينية رغم أنها تعرض لتجارب مثيرة في القطرين العراقي والجزائري. و ظلت الرواية معروفة ضمن هذا الإطار حتى الإسبوع الأول من شهر مايو لعام 2000، إلى أن قيضت الأحداث لها صحفياً مصرياً، كتب عنها مقالاً نارياً في جريدة "الشعب" المصرية الناطقة بلسان حزب "العمل" آنذاك، فإذا (الوليمة) بين عشية وضحاها، مناسبة لكل الآكلين والشاربين باسم الوقوف في وجه موجة الإلحاد تارة والدفاع عن الدين الإسلامي تارة أخرى، و وصلت العدوى إلى طلاب جامعة الأزهر، الذين تظاهروا يوم الجمعة الموافق الخامس من مايو لعام 2000، ضد (الوليمة) واشتبكوا مع رجال الأمن حيث سقط من الطرفين عشرات الجرحى، نقل العديد منهم للمستشفيات، كاتبين بذلك "نشيد موت" يشبه "الموت" الذي كان يواجهه أبطال (الوليمة الحيدرية) في عموم أرجاء العراق والجزائر، وبالتأكيد دون أن يفكر واحد من المتظاهرين الأزهريين أن يقرأ الرواية مستعملا عقله وعلومه الدينية ليعرف مدى صحة ما كتبه الصحفي عن الرواية، وهم بذلك غيبوا العقل أهم ما ميز به الله تعالى الإنسان عن بقية الكائنات الحيّة. وتدخل الأزهر بفتاوى حول الأمر ليصل تطور الحدث إلى حد المطالبة بحرق الرواية وسحبها من المكتبات ومحاسبة الذين أوصوا بطباعتها ضمن مشروع "آفاق الكتابة" التابع لوزارة الثقافة المصرية، التي طبعت منها "ألفي" نسخة فقط في مصر البالغ تعداد سكانها حوالي سبعين مليون نسمة، أي بواقع نسخة واحدة لكل خمسة وثلاثين ألفاً من المواطنين المصريين، ويزيد العدد إذا تذكرنا أن ربع النسخ المطبوعة عادة ُيرسل لمختلف الأقطار العربية إما للتوزيع التجاري أو هدايا للكتاب ووزارات الثقافة وإتحادات الكًتاب، ووصلت العدوى إلى سوريا ذاتها بلد الكاتب التي طبعت الرواية عام 1983م دون إحتجاج أو ضجيج، بل تثمين لتفردها في الموضوع والفن الروائي، إذ تم بشكل مفاجئ إستبعاد الرواية من النقاش ضمن ندوة "الجذور الثقافية والتقنيات الروائية الجديدة في الرواية السورية المعاصرة " التي إنعقدت في دمشق يومي 27 و 28 من أيار عام 2000 م. وتفاعلت القضية آنذاك في مصر بشكل درامي، فقد تضاربت الأنباء حول قرار وزير الثقافة فاروق حسني بسحب الرواية من المكتبات، إلا أن الوزير حسم الموضوع في تصريح قال فيه : (إن ما نشر عن الرواية من نقد هو إثارة للمجتمع و صورة من صور الإرهاب الفكري الذي يدركه الجميع ويفهم أغراضه وأهدافه، بل هو نوع من إيهام المجتمع بغير الحقيقة)، ونفى نفيا قاطعا أن يكون قد أمر بسحب الرواية من الأسواق، و أن اللجنة التي شكلتها وزارته (ليس هدفها بأي حال التحقيق حول الرواية، وإنما تقديم توضيح وتفسير للشعب المصري والعربي، قائم على قراءة متكاملة لها من قبل عدد من كبار رجال الفكر المحترمين)، وأن (اللجنة ستقدم رؤيتها وتفسيرها لهذا الإبداع الروائي بعيدا عن النقد المبتسر، المقصود بهدف سياسي بالدرجة الأولى وخدمة لمصالح أصحاب هذا المنهج فقط دون مراعاة لمصلحة المجتمع ككل). وكانت صحيفة الشعب قد صعدت من حملتها العنيفة ضد الرواية التي اتهمتها بالإساءة للإسلام، وطالبت بإقالة وزير الثقافة وإنزال الحد بمؤلفها ومسئولي وزارة الثقافة، وفي المقابل شهدت حلبة الصراع تضامنا واسعا مع الرواية ومؤلفها خاصة في مجلتي أخبار الأدب التي يرأس تحريرها الروائي جمال الغيطاني، و روز اليوسف التي شدّدت على (أن هذه هي نتيجة التساهل مع المتطرفين)، كما صدر العديد من بيانات التأييد والتضامن مع الرواية من العديد من الكتاب والمبدعين والفنانين والمفكرين، كما أصدرت هيئة تحرير مجلة (العصور الجديدة) القاهرية الشهرية بيانا يوم الأحد السابع من مايو 2000، قالت فيه أن الحملة ضد الرواية وكاتبها تقصد (تحريك حملة مدبرة ضد الثقافة والمثقفين والتحريض على القتل) و (أن مصر والبلاد العربية تمرّ بمحن عديدة، وهم يشغلوننا عمدا عنها بالتكفير والتخوين والتحريض على القتل، ويظل السؤال قائما ما علاقة ذلك بالطابور الخامس الصهيوني الذي يحرك هذه الفتن، ويتسلط على الإبداع وحرية التفكير في مصر ؟). ويمكن تصور ضلال بعض الفتاوي عندما نتذكر أن الطبعة التي أصدرتها هيئة قصور الثقافة المصرية عام 2000 هي الطبعة العاشرة للرواية منذ طبعتها الأولى عام 1983، فلماذا تم السكوت عليها سبعة عشر عاما ليكتشف حماة الدين أن فيها إساءة للإسلام، تماما مثل الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية التي سكتوا عليها أربعة شهور، ليتم تحريكها لخدمة صراع وكالات تجارية ودخول أنظمة ديكتاتورية قمعية مثل النظامين السوري والإيراني على خطها، للتصعيد والعنف معتقدة أن حرق السفارات يقوّي مواقفها الضعيفة أمام الرأي العام العالمي والمحلي، لأن من ينتصر للرسول صلى الله عليه وسلم، عليه أن يحكم شعبه بمعايير الرسول الكريم وعدله، لا بالسجون والمعتقلات التي هي أكثر من رياض الأطفال والمستشفيات في هذين البلدين.
هل في "الوليمة" ما يستحق كل هذا التحريض والفوضى؟
لن يكون حكمناً مقنعاً لعموم القراء، لأنني أكاد أجزم أن الغالبية العظمى منهم لم تقرأ الرواية، بما فيهم جماهير طلاب وطالبات الأزهر الذين تظاهروا واصطدموا برجال الأمن في مشاهد شاهدناها على شاشات التلفزيون في شكل لا يصدقه عقل أو عين، وكي أشرك القراء الذين لم يقرءوا الرواية في الحكم عليها سوف أقدم جردا للفقرات الواردة في الرواية، التي ضمن فهمي للعقلية الأصولية الإسلامية المتطرفة، هي الفقرات التي أثارتهم وإعتبروها طعناً في الإسلام.. إقرأوا معي هذه الفقرات منسوبة لصفحاتها في الرواية، كما وردت في طبعة عام 1988م الصادرة عن دار الأمواج في بيروت/لبنان، لنرى هل فيها إساءة متعمدة للإسلام، أقصد هل إنها عبارات تقريرية من المؤلف في كتاب بحثي، أم أنها تعليقات وبوح من شخصية روائية متخيلة لشيوعي عراقي (مهدي جواد) هرب من العراق الى الجزائر، عقب فشل إنتفاضة الأهوار المسلحة عام 1963م، وفي الجزائر يستعيد تقييم تلك التجربة ومسيرة الحزب الشيوعي العراقي مع رفيق له هو "مهيار الباهلي"، ولمزيد من التوضيح فإن التذكر الدائم للخلفية السياسية والثقافية لهاتين الشخصيتين الروائيتين مهم للغاية، فهو الذي يفسر لنا نطقهما بهذه الأقوال التي اعتبرها بعض المتطرفين في مصر أنها مهينة للدين والنبي (ص)، وأقول بوعي "بعض المتطرفين "، لأن هناك الغالبية من المسلمين أيضا رفضوا هذه الإتهامات، واعتبروا أن الرواية ليس فيها ما يمس الدين بسوء، ومنهم أساتذة ثقاة موضوعيون ومؤمنون مثل الدكتور عبد القادر القط ,، وكامل الزهيري، وعماد أبوغازي، أما سلخ النصوص من سياقها الروائي - التخيلي، كما فعل الصحفي محمد عباس فهو فعلا شبيه بمن لا يقوم من المسلمين بفرض الصلاة، وعندما يسأل عن سبب ذلك، يقول : ألم يقل الله تعالى في القرآن الكريم (ولا تقربوا الصلاة..) غافلا بعمد عما جاء بعد ذلك (..وأنتم سكارى).
وبخصوص الخلفية السياسية والثقافية لشخصيتي مهدى جواد ومهيار الباهلي، التي تفسر نطقهما بهذه الأقوال، من المهم أن نتذكر أنهما - كشخصيات روائية متخيلة - أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي، أي أن لهما رؤاهم الخاصة في الدين والمجتمع وهي آراء غير ملزمة لجموع المؤمنين، تماما كبعض آيات القرآن الكريم الواردة من الله تعالى على ألسنة آخرين، كقوله على لسان فرعون مصر لما تأكد من أن زوجته هي التي راودت يوسف عليه السلام عن نفسه، فقال - أي فرعون - (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) آية 28 من سورة يوسف، فهذه الآية رغم وردودها في القرآن الكريم، لا ينبغي فهمها على أنها رأي الله تعالى في المرأة، فهي كما واضح رأي فرعون في امرأته رغم أن الصيغة جاءت بصيغة الجمع أي كل النساء، وفي العقلية الشعبية العربية يتم تكرار هذه الآية وكأنها رأي الله تعالى، فكلما غضب رجل من زوجته نطق بشكل لا شعوري (إن كيدكن عظيم)، وهكذا ينبغي فهم الأقوال التي وردت في الرواية على لسان الشخصيات الشيوعية على أنها رأي هذه الشخصيات وليس رأي الروائي، لأنه في مقابل ذلك عندما كان السرد والتعبير الروائي يعبر عن رأي الكاتب، جاءت فقرات عديدة فيها تمجيد للإسلام لا تصدر إلا عن محب ومحترم للدين ورسالته، وهذا ما يجعلنا مقتنعين أن إثارة المسالة في جريدة "الشعب" في ذلك التوقيت بالذات، كانت لها علاقة بالإنتخابات القادمة وبالصراع داخل حزب "العمل" الذي يصدر الجريدة، خاصة الصراع بين الأجنحة المتحالفة داخله ومنها جماعة الإخوان المسلمين، ذلك الصراع الذي شهد تنازع ثلاثة أشخاص على الأقل على منصب "الأمين العام للحزب" مما حدا بلجنة الأحزاب المصرية إلى وقف إصدار جريدة "الشعب" وتجميد عمل الحزب أثناء تلك الحملة على الرواية وكاتبها في مايو من عام 2000 . وعودة إلى ما وعدنا به سابقا، ها هي أغلب الأقوال الروائية التي هيج من خلالها الصحفي محمد عباس الشارع المصري، سالخا إياها من سياقها ودون أن يبين أنها وردت على لسان شخصيات شيوعية كما أوضحنا.
مهدي جواد ومهيار الباهلي ومحمد عباس
(... وسألته بماذا يفكر الآن، قال : أشتهيك.وصاحت : احتشم أيها الفاسق ! إمتعض ساخراً. نهض. أمسك رسغها ووخزه : نحن الآن في المطهر. لسنا في مسجد الله أو كنيسته) _ص 133 _. و واضح من هذا القول أن الشخصية الروائية المتخيلة نفسها، تدرك بوعي أن مسجد الله وكنيسته لا يناسبها قوله السابق، ولكنه في لحظة عشق مع صديقته في منزلها أي ليس في مسجد أو كنيسة.
(إبن بيللا أبو الإشتراكية. أنا أرى فيه كاسترو العرب. أعني كنت أتوسم تحوله نحو الماركسية. بومدين هذا لايوثق به. عسكري إقليمي. رأس إسلامي وجناح أفريقي أما قلبه فجزائري و في المناسبات يلبس بزة عربية) _ ص 19 _. إن هذه الفقرة مجرد وصف لشخصيتي بن بيللا وهواري بومدين الذي أطاح به في إنقلاب عسكري بعد إستقلال الجزائر مباشرة.
bull;أما العبارة التي ركز عليها بعض الإسلاميين، فهي :
(ما الفرق بين العرب والإسلام ؟ هل الأنبياء يُرسلون حقاً من الألهة أم خرجوا من الأرض ؟ كيف كلم الله موسى ؟ وهل عرج محمد فعلاً إلى السماء كما تقول كتب الدين ؟) _ ص 22، 23 _.
هل في هذه التساؤلات على لسان شخصية روائية متخيلة ما يسئ للدين، وهي مجرد تساؤلات لاقطع فيها، والقرآن ذاته يورد العديد من الآيات عن البشر والقبائل والأقوام الذين رفضوا نبوة الرسول (ص) ومنهم من عشيرته : (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) سورة الأنبياء، آية رقم 5، (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) سورة الصافات، آية 36.
bull;أما العبارة - الفقرة التي استغلها الصحفي محمد عباس، وتلاعب متعمداً في طريقة كتابتها حاذفا نقطة واحدة، غيرت المعنى تماما.. نعم إن حذف نقطة واحدة جاءت بعد كلمة (القرآن)، وبعدها مباشرة كلمة (خراء)، جعلت الكلمة الأخيرة تأتي في السياق وكأنها صفة لكلمة (القرآن)، في حين أن الفقرة ضمن سياقها، وعند وضع النقطة بعد كلمة القرآن كما هي في نص الرواية، تعني بوضوح كامل حتى لإشباه المتعلمين أن هذه الكلمة جاءت حكماً عاماً على مضمون الفقرة كلها التي تعني الأحكام والإجراءات السياسية التي تتمسح بالدين فتأتي هذه الأحكام والإجراءات كإنها خراء. وهذه هي الفقرة كما هي مكتوبة في الرواية :
(إن المهم هو الإنسان. التأميم ليس الاشتراكية، وهذا الذي يحدث ليس أكثر من ترقيع مزيف لايمحو الإستلاب الجوهري للإنسان. إشتراكية بروح العلم لابروح الدين هذا ما ينبغي أن يكون. كل هذا البنيان الإقتصادي ينهض على الرمل لإن الأنسان الجديد غائب والبلاد ما تزال تدور في مدار سوق الكولون المهيمن)، وعلى نحو احتفالي ختم محاضرته : (القانون الإيديولوجي أعلى من القانون الأقتصادي. عندما تكن المقدمات خطأ فالنتائج خطأ. الوعي العميق بالتاريخ غائب وهؤلاء يهمشون التاريخ ويعيدونه بقوانين آلهة البدو وتعاليم القرآن. خراء) _ ص 73 _. واضح تماماً أن هذه الشخصية الروائية المتخيلة كما في هذه الفقرة، تتحسر على الإنسان الجزائري وكيف أصبحت حاله بعد كل التضحيات التي قدمها لطرد الإستعمار الفرنسي، وكيف تسلّم السلطة السياسية الجهلة والمنتفعون الذين يتخبطون بين الاشتراكية و التأميم، و شيوخ البدو الذين يقدمون أنفسهم كآلهة، و تعاليم القرآن، فتكون نتيجة هذا التخبط الفكري ضياع الإنسان الجزائري وفقره وجهله، فإذا وضعه نتيجة كل ذلك (خراء !)... هذا هو الفهم الصحيح والموضوعي للفقرة كما جاءت في سياقها ونقطتها التي حذفها صحفي جريدة الشعب.. فلماذا الافتراء لتهييج عامة الناس باسم الحرص على الدين، وهؤلاء الحريصون على الدين كما يدعون، يتصارعون سراً وجهراً على مقرات حزب العمل وجريدته وممتلكاته كما أوضحنا سابقاً. وتستمر حملة افتراء بعض المتطرفين المتعصبين عن جهل، تفتش بين سطور الرواية وتنقب عن سطر هنا وفقرة هناك كمن ينقب عن الذهب في صحراء، فتقع عيونهم على ذهب مزيف.. إقرأوا ما عثروا عليه :
(ولكن الله قال : إنكحوا ما طاب لكم، ورسولنا المعظم كان مثلا ًلنا ونحن على سنته. لقد تزوج أكثر من عشرين إمراة بين شرعية وخليلة ومتعة. وكان صلوات الله عليه وسلامه يقول : تناسلوا. تناسلوا فإني مفاخر بكم الأمم. إستبد الغضب بالحاج : الرسول تزوج حسب الشريعة، أما انتم فتريدونها شيوعية) _ ص 83 _.
ما هي الإساءة للنبي في هذه الفقرة، كل ما في الأمر أن الشخصية الروائية المُتخيلة، بالغت في عدد النساء اللواتي تزوجهن الرسول، وهذا عند ذوي النية الحسنة لا يحمل أي إساءة للرسول (ص)، وذلك لسببين : الأول: أن القول (أكثر من عشرين) جاء في سياق عمل فني لا يقصد به الحصر، وهذا يعيدنا إلى أن كتب السيرة نفسها اختلفت في عدد النساء اللواتي تزوجهن الرسول (ص)، وهناك أيضا خلاف حول أسماء بعضهن.
الثاني :أن الله تعالى يقول في كتابه الكريم (فانكِحوا ما طَاب لكم من النساء مثنى وثُلاَث ورُباع فإن خفتم ألا تعدِلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) - سورة النساء، آية رقم 3 _،
وتعبير (أو ما ملكت أيمانكم) حسب كل المفسرين، يعني (عدداً مفتوحاً) سواء كن عشرين إمراة أو أقل أو أكثر. (الأرواح تسافر في رحلة طويلة أو قصيرة مثلها مثل الطيور ثم لاتلبث أن تعود في مواسمها. أواه يا إله السموات والأرض. لماذا لا يكون الأمر هكذا، إذا كان الله عادلاً وشفوقاً لا يحقد على مخلوقاته) _ ص118 _. إن الجملة الأخيرة من هذه الفقرة، عند أغلب من يفهم أسرار اللغة العربية، لا يمكن أن تحمل قطعاً معنى (أن الله غير عادل وغير شفوق). إنه تساؤل، مجرد تساؤل ضمن سياق فني، وهو لا يحمل معنى الإساءة إلا عند الذين قال الله تعالى عنهم (يحرفون الكلم عن مواضعه)، (سورة النساء، آية رقم 46). ويطول السرد إذا واصلنا استعراض مثل هذه الفقرات والجمل التي إستند إليها بعض الإسلاميين في مصر، ليطالبوا بتكفير الكاتب وحرق الرواية ومحاكمة الذين أوصوا بطبعها.
تعالوا إلى كلمة سواء تجمع ولا تُفرق
إن المشكلة ليست في رواية "وليمة لأعشاب البحر" ولا في كتب نصر حامد أبوزيد وسيد القمني وفرج فودة، وغيرهم قائمة طويلة من الكُتاب والشعراء ومنهم الروائي المعروف عربياً و عالمياً نجيب محفوظ، الحائز على جائزة "نوبل" للآداب. إنها مشكلة هذه القلة وفي مصر تحديداً، الذين نصبوا أنفسهم أوصياء وحُماة للدين الإسلامي، وكأن هذا الدين العظيم الذي إنتشر في الشرق و الغرب بسرعة ضوئية عقب البعثة النبوية مباشرة، في طريقه للزوال والاندثار لولا حمايتهم ووصايتهم، ناسين قوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) _ سورة الحجر، آية رقم 15 _، وهم أي هذا النفر القليل من الإسلاميين، يعتبرون مسالة التكفير سهلة بسيطة رغم أنها من أعقد الأمور في الشريعة الإسلامية، فما دام صاحب الكِتاب أو الرواية أو القصيدة، يقولها علناً - كما قال حيدرحيدر - إنه مؤمن مسلم، وإن (الذين نظموا التظاهرات والإحتجاجات ضد روايتي ليسوا حماة الإسلام الذي هو ديني ولا الرسول الذي هو من أعظم الرجال في هذا العالم).
إن إنسانا يُصرح بذلك علنا، لا يجوز حسب الإسلام الحقيقي تكفيره كما فعلوا في مصر.. وهذا الأمر وما يشابهه له سوابق مماثلة في تاريخ الدين الأسلامي، فالله تعالى هو القائل(ولاتقف ما ليس لك به علم) _ سورة الإسراء، آية رقم 36)_، والنبي محمد (ص) هو القائل (لايرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا إذا إرتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك)، رواه البخاري، فمن أدراهم بقلوب الناس ؟ والنبي الكريم هو نفسه الذي رد على خالد بن الوليد عندما قال : "كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه"، ردّ عليه الرسول (ص) قائلا : "إني لم اؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم ". إن خطورة المسالة تكمن في أن كلمة (الدين) لها تأثيرها السحري في نفوس الناس، لذلك تستغل تلك القلة هذا المفعول السحري، لتهيج عامة الناس - كما حدث في مصر في مناسبات عديده ليس أولها ولا آخرها وليمة حيدر حيدر - دون أسباب وحيثيات موضوعية...
وإلا.. لماذا أغفلوا تمجيد الرسول والدين في الرواية ؟!
إن سوء النية والهدف المصلحي من إثارة بعض الأسلامين في مصر لهذه الزوبعة، واضح كل الوضوح، لأن الذين تصيدوا تلك الفقرات والجمل وسلخوها من ضمن سياقها متناسين - عمداً - أنها على لسان شخصيات روائية متخيلة، أغفلوا تلك الفقرات والجمل التي وردت في الرواية على لسان شخصيات مقابلة ومتناقضة مع الشخصيات السابقة، ونطقت بفقرات وجمل وعبرّت عن مواقف تمجد الرسول (ص) والدين. لماذا قفز أولئك الإسلاميون وأهملوا فقرات ومواقف مثل:
(للمرة الأولى ينفصل مهدي جواد عن بيت القبيلة. الوداع الطقوسي للطفل الذي يقطع حبل السرة ويغادر الرحم في تلك الليله. إختنقت من لون المرارة وشهقة النحيب. ترفع القرآن بيد وبالأخرى صحناً من الطحين. على الكتاب المطهر يضع راحة كفه، ثم يعبر بخشية وجلال منحنيا بقامته ورأسه تحت قوس الطحين. تمتمات وأدعية تنطلق من أعماق السلالة التي تودع طفلها. أُقسم بهذا المقدس وبهذه النعمة أن أكون وفياً وإلا أنسى في الغربة البعيدة رائحة البيت والأرض والخبز وصلوات الأجداد والحليب والدم وصرخة الحسين وهو يذبح بسيف الشمر) _ص16 _ . إن هذه الفقرة ضمن السياق الروائي هي الأولى أن تكون معبرة عن موقف حيدر حيدر، فهي تأتي ضمن سرد الكاتب وهو يصف مراسم وداع الأسرة لمهدي جواد، وهو يستعد لمغادرة العراق سِراً بعد فشل إنتفاضة الأهوار المسلحة. (مهدي جواد غفا على ترنيمات الشيخ المأخوذ بوهج دينه العظيم الذي امتد إلى المشارق والمغارب مطهراً الأرض من أرجاسها وخطاياها الجسيمة) _ص17 _. (انظري يا فلة إلى هؤلاء الجياع والحفاة والمقلمين وكيف يقدمون كل شئ. كل شئ يا فلة. الطعام واللباس والمأوى والحيوانات والدم. هؤلاء البحر ونحن السمك. الآن نحن بينهم كما كان رسولنا محمد مع المهاجرين بين الأنصار في يثرب. المستقبل لابد أن يكون لهم بعد تحرير البلاد من طاغوت فرنسا) _ص49 _.
(و استطردت : ذلك الحاج الدجال، الخامج.. آه يا ولدي هؤلاء الناس أنت لاتصدق كم هم أشرار وسيئون: لكن أنا أعرف ماذا ربيت في بيتي. عائلتنا معروفة. بناتي بنات شهيد ضحى في سبيل الوطن والحرية. قبل أن يستشهد كان يقول لي دائما : فضيلة.. لا وصية لي عندك غير الدراري. ربيهم تربية تليق بنا كمسلمين. نحن نقاتل حتى لايلوث الإستعمار شرفنا. بيت الأنسان شرفه. ومن لا يحافظ على بيته لايحافظ على وطنه " _ ص38 _.
لماذا تمترس بعض الإسلاميين في مصر وراء بعض الفقرات في الرواية، واعتبروها مسيئة للدين وهي ليست كذلك، ولم يتوقفوا للحظات أمام هذه الفقرات والجمل التي تمتلئ إيمانا، وتمجد الدين والرسول (ص) والله تعالى؟
هل يحتاجون إلى المزيد من هذه الفقرات والمواقف ؟ إقرأوا!
(لقد بدا ذلك الشئ المرعب والمنبئ بما سيأتي من ربيع دموي قادم، وهو يتلألأ في تقاويم العصور تحت الهزات وتشققات الأرض وخراب الوضع البشري، يوحي بأن هذه الأرض كإنما خضعت للعنة وسمتها في غابر الأزمان لحظة أهين الأنبياء الذين حطموا الأوثان وتمردوا على الطاغوت وعبادة الحجر الأصم) _ص232 _. (..عندما هبط ثوار حرب التحرير من الجبال المصبوغة بالدم، كانوا يهللون بتكبيرات عصور الفتح الأولى. كل مجاهد علق على صدره قرآناً عربياً، كان بمثابة الرقية ضد رصاص المستعمر الصليبي) _ص276 _.
لماذا أغفلوا هذه الفقرات والجمل والمواقف، وهم الحريصون على إعلاء مجد الدين؟! إن هذه الفقرات والمواقف الإيمانية لاتعني أن حيدر حيدر داعية إسلامي، ولكنها تثبت بموضوعية وصدق أنه ليس في الرواية ما يسيء للرسول (ص)، و أن كل ماجاء في الرواية كان ضمن سياق فني وعلى لسان شخصيات روائية متخيلة، يصف الكاتب من خلالها تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق حيث ثورة أو هبة شيوعية مسلحة، ومن تاريخ الجزائر حيث ثورة أو إنتفاضة إسلامية لطرد المستعمر الفرنسي.
حتى الشيخ محمد حسين فضل الله كفٌروه!!
إن الأمر يهون ويسهل عندما يتعلق بروائي كحيدر أو باحث مثل نصر حامد أبوزيد، ولكن ما القول وما التعليق عندما يتجه "البعض" إلى تكفير الشيخ محمد حسين فضل الله المرجع الشيعي اللبناني، فحسب التحقيق المنشور في جريدة "الشرق الأوسط"/لندن , العدد 1862 بتاريخ 7/6/2000م، فإن أراء الشيخ محمد حسين فضل الله بشان بعض الحوادث التاريخية والمعتقدات الدينية، أحدثت جدلاً واسعاً في الأوساط الدينية حيث دعا بعض رجال الدين المتشددين إلى التقدم بطلب إلى المرجع الديني الشيخ ميرزا جواد التبريزي لإصدار فتوى تهدر دمه. لكن الشيخ التبريزي إمنتع عن إصدار هذه الفتوى، لتفويت الفرصة على من يحاول مس الدين الإسلامي ونعته بالعنف ومصادرة الرأي الآخر. وتعقيباً على المسألة، قال الشيخ محمد حسين فضل الله : (إن العنف لا يبني فقها إسلامياً، لاسيما عنف الكلمة في ساحة الخلاف الفكري أو عنف السلاح في ساحة الصراع السياسي. إن الله جعل العنوان الكبير للدعوة الإسلامية الحكمة والموعظة الحسنة والجِدال بالتي هي أحسن وإدفع بالتي هي أحسن. ولم يشرع الإسلام العنف الإ عند إستنفاد كل أساليب الرفق ليكون العنف وقائياً لدفع الخطر أو دفاعياً لمواجهة الذين يفرضون العنف عليك..).
وبعد ذلك.. لا لزوم لإستزادة بعد رأي الشيخ محمد حسين فضل الله.. فتلك القلة من الإسلاميين أثاروا تلك الضجة مستعملين غطاء الدين لأغراض انتخابية و مصالح شخصية، ورغم ذلك لم تنفعهم هذه الهيصة فانقسموا وتشرذموا علّهم يكونوا عبرة لغيرهم...ويستمر ملف بازار الفتاوي مفتوحا، بطريقة تعيدنا إلى زمن طالبان في أفغانستان، حيث منعوا الرقص والغناء، وأقفلوا محطات التلفزيون نهائيا، وفرضوا النقاب (الشادور) على المرأة و ألزموا الشباب إجباريا إطالة اللحية، لذلك كان منظرا ملفتا أنه فور سقوط نظامهم تدافع الشباب بالآلآف على محلات الحلاقة ليحلقوا لحاهم الإجبارية، ومن شدة الزحام جلس الحلاقون على قارعة الطرق والشوارع ليحلقوا اللحى المفروضة إجباريا على الشباب !!. وهذا ليس مبالغة ولكنه ما حدث في أفغانستان بعد سقوط نظام ملالي طالبان الذين نصبوا شابا اسمه (محمد عمر) أميرا للمؤمنين ليس في أفغانستان وحدها، ولكن للمسلمين في عموم المعمورة، وهو لا يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، وكان ما زال طالبا لم يحصل على أساسيات التعليم الديني. من هذه الخلفية تأتي أهمية الاستمرار في كشف هذا التعصب الذي يسيء استعمال القرآن الكريم والسنة النبوية، لأن بازار فتاوي أولئك المتعصبين بجهل مفتوح على مصراعيه كما سنرى في مقالات قادمة، حيث لم يتركوا موقفا أو مشهدا من حياة المسلم في الشارع أو في السرير، في الظلام أو في الضوء إلا وأصدروا فيه فتوى و فتوى مضادة، وهذا في حد ذاته كارثة، فأية فتوى نتبع، وكيف سيصبح حالنا إذا اعتبر متبني الفتوى أن غيره ممن تبنى الفتوى المضادة، قد حاد عن جادة الصواب كما يراها الإسلام، وكذلك متبني الفتوى المضادة إذا اعتبر أن الآخر هو من حاد عن جادة الصواب، وبالتالي فعند الطرفين نصبح كلنا على ضلال..من هنا تأتي أهمية الصراخ : أغيثونا من بازار الفتوى والفتوى المضادة، كي يعرف المسلم : من يتبع منكم...وفعلا (اللهم أجرّنا مما هو أعظم) !!.
Ahmad64@hotmail.com
ملاحظة : بالنسبة للمعلومة الخاصة بورود آيات قرآنية على لسان البشر، كما في آية (إن كيدكن عظيم)، كان أول ما لفت نظري إلى ذلك الكاتب العراقي خضير طاهر في مقالته التي كانت بعنوان (لا..ليست جميع الآيات القرآنية مقدسة)، وذلك من باب إعادة الفضل لأهله.