كتَّاب إيلاف

سقط هُبْل وبقي هُبْـلان

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

-1-
يحتفل الشعب العراقي المجيد اليوم بالذكرى الثالثة لسقوط هُبْل العراق الأكبر صدام حسين. والمفروض أن يكون هذا اليوم في العراق عيداً قومياً لكافة العراقيين من عرب وكورد وسنة وشيعة وغير ذلك من الطوائف والأعراق العراقية الأخرى، كما أنه عيد لكافة الليبراليين في العالم العربي. إلا أن عنف الإرهاب، وجيران السوء الذين يجاورون العراق، وكذلك النخب السياسية الطائفية والقبلية والعرقية العراقية التي تتعارك على الكراسي والمراسي، وتركت العراق وشعب العراق تنهشه ذئاب طورا بورا وثعالب دمشق وضباع طهران، أبت إلا أن يكون هذا اليوم يوم حزن ومسكنة، وليس يوم فرح وسعادة للشعب العراقي، الذي ضرب أنبل الأمثلة في التضحية من أجل البناء السياسي الديمقراطي، وسيادة الحرية في أرض قامات النخيل العالية.

-2-
لم يكن أحدٌ يعتقد بأن سقوط هُبْل العراق الأكبر في فجر التاسع من نيسان/ابريل 2003 المجيد سيكون له هذا الصدى الديمقراطي والليبرالي الكبير في العالم العربي، رغم تظليم الإعلام العربي له. ولِمَ لا ؟
فعندما سقط هُبْل قريش الأكبر في عام 629م، كان ذلك بداية انهيار الشْرِك الأكبر في الجزيرة العربية. وعندما سقط هُبْل العراق الأكبر عام 2003 ، كان ذلك بداية انهيار الديكتاتورية في العالم العربي. ونحن عندما قارنا بين سقوط هُبْل مكة وهُبْل بغداد، في مقالنا الذي نُشر في التاسع من نيسان 2003 فجر التحرير الأكبر، وأثار حفيظة رجال الدين، وأغضب أصحاب اليمين، لم نكن نُغالي في ذلك.
فانظروا كيف بدأ العالم العربي يتغير، منذ ثلاث سنوات حتى الآن، كما شرحنا في مقالات سابقة كثيرة. فالانتخابات التي كانت مُعطلةً أُجريت، والأقلام التي مكسورةً جُبرت، والأصوات التي كانت مكبوتة رُفعت، والمعارضة التي كانت منبوذة قُرّبت، والإصلاحات السياسية التي كانت كفراً وخروجاً على النظام نُظرت، والعصافير التي كانت في الأقفاص أُطلقت.
فعندما سقط هُبْل قريش الأكبر، بدأ الإسلام ينشرُ نوره في الجزيرة العربية. وعندما سقط هُبْل العراق الأكبر، بدأت الحرية والديمقراطية العراقية تنشرُ نورها في كل أرجاء الوطن العربي.

-3-
قبل سقوط هُبْل قريش الأكبر، كان العرب عبارة عن مجموعة متفرقة من القبائل الهائمة على وجهها في الصحراء، لا كيان سياسياً لهل، ولا دولة، ولا قوة سياسية يخشاها أعداء التوحيد.
وقبل سقوط هُبْل العراق الأكبر، كان العربُ عبارة عن شعوب تحكمها أنظمة ديكتاتورية، بالحديد والنار، لا تخشى حساباً أو عقاباً.
قبل سقوط هُبْل قريش الأكبر ، كان الإسلامُ مهدداً وملاحقاً ومنبوذاً من قبل الكفار بالتوحيد.
وقبل سقوط هُبْل العراق الأكبر، كان الأحرار في العالم مطاردين، ومقموعين، ومشردين، ومكتومي الصوت والصورة.
قبل سقوط هُبْل قريش الأكبر، كان عدد المسلمين قليلاً، وكان من هم في الخفاء أكثر منهم من في العلن.
وقبل سقوط هُبْل العراق الأكبر ، كان أحرارُ العرب قلة قليلة مختفية ومتدارية ومتقيّة.
قبل سقوط هُبْل قريش الأكبر ، كان الصوتُ الأعلى للارستقراطية القرشية، فهم الملأ الأعلى، وهم السُقاة والْحُماة والْبُغاة كذلك.
وقبل سقوط هُبْل العراق الأكبر، كانت فئة السُنّة في العراق كحال قريش قبل سقوط هُبْل قريش الأكبر، هم الملأ الأعلى، وهم الناهبون، السارقون، المفسدون، الحاكمون.

-4-
إن التاريخ أيها السادة، لا تصنعه عناوين الأخبار اليومية، أو المواقع الشخصية على الانترنت، أو الهجمات الارهابية المثيرة الأخيرة على الأضرحة والمساجد والمزارات من أجل اشعال الحرب الأهلية التي يتمناها كل أصولي ارهابي في العالم العربي لكي تحدث في العراق. فالتاريخ صورة أكبر من هذا، وهو القسم الأكبر الذي تحت الماء من جبل جليد العراق العائم.
وفي ذات السياق، أدعو الى أن تتأملوا حقيقة أن العراق قد انتقل بالفعل خلال ثلاث سنوات من المعاناة من دكتاتورية وحشية الى انتخاب حكومة مؤقتة، والى صياغة وإقرار دستور كتبه العراقيون بارادتهم، وصوّتوا عليه بنعم ديمقراطية بإرادتهم، والى انتخاب حكومة دائمة في ديسمبر الماضي. وفي كل واحدة من هذه الانتخابات، ازداد عدد المشاركين إلى حد كبير من ثمانية ملايين ونصف مليون ناخب في يناير 2005، الى ما يقرب من 12 مليونا في انتخابات ديسمبر 2005، في تحدٍ واضح وصريح لتهديدات الارهابيين من صنوف العُربان ورفوف الغُربان، وسطوهم على مستقبل العراق.
وهناك أحد أهم التطورات خلال العام الماضي، وأعني بها المشاركة المتزايدة لسُنَّة العراق في العملية السياسية. ففي محافظة الأنبار غير المستقرة، حيث يُشكِّل السُنَّة أغلبية ساحقة، تحوّلت نسبة المقترعين من 2 ٪ في يناير 2005 الى 86 ٪ في ديسمبر من نفس العام. ويلتقي الشيوخ ورجال الدين السُنَّة، الذين كانوا في السابق متعاطفين مع المتمردين الإرهابيين، مع ممثلي قوات التحالف، الذين يشجعون العراقيين على الالتحاق بقوات الأمن، ويشنون قتالا ضارياً ضد متطرفي العنف والإرهابيين. بل وتناطح السُنَّة العراقية الآن لنيل سد حنك كبير من الكعكة السياسية العراقية التي يقف في وسطها الجعفري حاملاً سيفه الطائفي رافضاً أن يشتري العراق بنفسه، وأن يفتدي شعب العراق بكرسية، فبئس هو السياسي الأناني الذي يحب نفسه أكثر مما يحب وطنه ويحب طائفته أكثر مما يحب شعب العراق.

-5-
سقط هُبْل العراق، نعم. ولكن بقي في العراق وخارج العراق هُبلانٌ متعددون، ينتظر الليبراليون سقوطهم.
بقي في العراق من هو أخطر من هُبْل السجين الآن، الذي ينتظر حبل المشنقة، أو رصاصة الرحمة. بقي في العراق الطائفية والقبلية والمليشيات المسلحة التابعة للطوائف. وبقي في العراق المليشيات المسلحة الإرهابية التي بعثت بها دول جوار العراق الى العراق كهدية متواضعة بمناسبة يوم الحرية، يوم التاسع من نيسان المجيد!
وهذه الْهُبلان هي أخطر على العراق، وأشد فتكاً بالعراق، وأوقد ناراً في نخيل العراق، من هُبْل الذي سقط فجر التاسع من نيسان 2003.
فانظروا ماذا تفعل هذه الْهُبلان في العراق الآن، وماذا ستفعل غداً، وبعد غد؟
ستظل هذه الْهُبلان تفتك بالعراق زمناً طويلاً، أطول مما فتكت بالعراق عهود البعث وأيام صدام. بل إن حكم صدام المستبد اعتمد على هذه الْهُبلان في استبداده وطغيانه، وكانت له الداعم والمساند. وخلقت منه هُبْل الأكبر، لكي تعتاش من ورائه، كما فعلت قريش حين أحضرت هُبْل من بلقاء الأردن لكي تعتاش من ورائه أيضاً، كما يروي لنا المؤرخ العراقي الكبير جواد علي في سِفره العظيم (تاريخ العرب قبل الإسلام) في أجزائه العشرة.
إن الوقت الذي يلزم العراق لكي يحطم هذه الْهُبلان طويل جداً، وهو أطول من الوقت الذي احتاجه الإسلام للظهور والانتشار.
فكان الله في عون العراق، على إزالة هذه الْهُبلان.

-6-
والْهُبلان الآخرون التي تسعى الليبرالية العربية بالتكاثف مع الليبرالية الغربية على إسقاطها هي الأنظمة العربية الديكتاتورية العسكرية، والقبلية، والحزبية منها، على السواء .
فلا بُدَّ من هذا التكاثف، لإن اليد العربية الواحدة مجروحة، ولا تُصفِّق وحدها. ولإن اليد العربية وحدها، لا تستطيع ملاطمة المِخْرَز الديكتاتوري العربي. ولإن تقاطع المصالح، وفضاء العولمة، وإلغاء الحدود، وقروية الكون ، ولاهوية السلع (أصبحت عدة شعوب تشترك في انتاج السلعة الواحدة)، كل ذلك يفرض على العرب منطقاً جديداً ووضعاً جديداً يختلف عن الوضع الذي كان يقول عنه الشاعر العربي القديم:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفـوا
علينا أن نعضّ على جروحنا النرجسية الآن، وعلى كبريائنا وتعالينا، ونكفَّ عن الغرغرة بالماضي. ونعترف بأننا أصبحنا صيصان ضعيفة، ولسنا بطواويس أو صقور جارحة. ونفعل كما فعلت شعوب قومية أخرى في القرن العشرين، وعلى رأسها الشعب الألماني والياباني والكوري .
علينا
أن نتغير ونتلائم مع هذا العصر كجزء من هذا العالم ، وليس كجزيرة منعزلة وسط محيطات من الأوهام والأخيلة، وطلب النجدة من عظام قبور الأسلاف.
وعلى العرب أن لا يلعبوا في السياسة وحدهم، وكذلك في الاقتصاد والعلوم. وهذا المنطق الجديد للعصر وللألفية الثالثة مرفوض من قبل القومجيين والإسلامويين، لأنه يحرمهم من تنصيب المزيد من الْهُبلان والمتاجرة بها، كما كانت تفعل قريش قبل 1400 سنة ويزيد. لا حرصاً على العروبة والدين والقومية التي سقطت دعواتها بسقوط هتلر وموسوليني بعد الحرب العالمية الثانية، وسقوط أباطرة أوروبا الشرقية وديكتاتورييها في نهاية القرن العشرين، بسقوط الاتحاد السوفياتي، وبداية سقوط الديكتاتورية في العالم العرب مع مطلع القرن الحادي والعشرين الآن. (ينشر بالتزامن مع جريدة "الجريدة العراقية"، وجريدة "السياسة" الكويتية)

Shakerfa@Comcast.Net

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف