أمهات إسرائيليات يعملن بنشاط ضد الأمومة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
قاصة إسرائيلية: كان الجنون الأمومي دائما هو شرط قيام إسرائيل
ترجمة و إعداد : نائل الطوخي
في تقرير طريف نشر الأسابيع الماضية في هاآرتس تحدثت الصحيفة اليومية عن رفض جيش الدفاع الإسرائيلي إيفاد العميد أفيف كوخابي إلى بريطانيا خشية اتهامه هناك بارتكاب جرائم حرب، خاصة في ظل القانون البريطاني الذي يسمح للأفراد بتقديم ادعاء ضد أناس يشتبه في تورطهم بارتكاب جرائم حرب. من هنا يمكننا فهم شيء ما يتسم بالمفارقة عن هذا المجتمع: الصهيونية، التي زعمت أنها جاءت لتحرير اليهود من الخوف، خوفهم من الداخل و من الخارج، عن طريق بناء بيت قومي لهم، في نفس الوقت مع بناء يهودي جديد في إسرائيل، شجاع و مغامر، فاقمت هذه الصهيونية خوفهم من الاثنين، من البقاء داخل الوطن المهدد و من السفر إلى الخارج الذي يقوم بالتهديد. هذا الجنون يتم التعبير عنه في كل مظاهر الحياة الإسرائيلية. في إعلان عن حبوب مهدئة على سبيل المثال تلوح فيه الأم بعلبة الحبوب و تقول بابتسامة: ابني في المعركة، فيما يكون سببا لرواج الدواء، أو في تحطيم عمل فني في السويد على يد السفير الإسرائيلي، أو في بناء جدار عبثي و عنصري. ذروة سريالية كتلك، حلقة من القوة التي تؤدي إلى الخوف بدلا من الأمان، و من ثم يؤدي الخوف إلى المزيد من استخدام القوة، تفضحها القاصة الإسرائيلية الشابة أورنا كوزين عن طريق نص منشور هذا الأسبوع في هاآرتس، بعنوان "الجنون "النمطي" للأمهات"، عن خوف الأمهات المقلوب، عن قيم الأمومة التي بددتها دولة إسرائيل. و في النهاية، عن الجنون الذي أشادت به الصهيونية كثيرا و بنت عليه دولتها، معتبرة عملية تقديم الأبناء قرابين على مذبح "الأمة اليهودية" عملا بطوليا، حتى و إن أدى إلى كل الخراب الحالي. تقول أورنا كوزين:
***
"كان هذا صباحا حارا في نهاية الشتاء. الشارع يضج بالمشاة - أباء مع عربات أطفال، شباب على دراجات، كبار يمسكون أيدي بعض، راكضون نشطون. جلست امرأتان بجواري على الدكة و أمسكتا بكوبين بلاستيكيين من القهوة. كان الانزعاج يلوح عليهما و هما تمضغان و تتطلعان للمشاة صامتتين.
بعد فترة طويلة قطعت واحدة منهما الصمت، "و هي التي بدت اكبر سنا من رفيقتها، ربما كانت أمها أو عمتها". قالت: "طيب. كفاية. تكلمي. ماذا حدث. ليس أمرا صحيا أن تكتمي هذا بداخلك." ترددت الأكثر شبابا لبرهة، كحت، و في النهاية قالت: "نوعام يرفض التجنيد."
لم أستطع أن لا أنصت للحوار منشدهة. بصعوبة بالغة تمالكت نفسي و لم أتدخل في الحوار. من حين لآخر كنت أميل إلى الأمام لأجل الاستماع بشكل أفضل. كانتا منغمستين في الحديث لدرجة أنهما لم تنتبها للاجتياح الذي قمت به.
لم تستطع المرأة التي كشفت عن الأمر الذي أزعجها لجم نفسها و أفاضت في التحدث بانفعال: "هل تستوعبين؟ نوعام يفضل الذهاب للسجن. لا يهمه خجل أبيه منه، لا يهمه أن ينظر إليه أصدقاءه من فوق لتحت. الطفل لا يريد الخدمة في الجيش. تحدثنا لساعات بالأمس و لكن لا حياة لمن تنادي. حاول أوري التوجه إلى نقطة ضعفه. شرح له أنه إذا كان يرفض الخدمة، فهذا ليس في صالح أحد- حتى توجهه السياسي. قال له أنه أناني، أنه لن يغير العالم، و أنه بهذا فقط يترك العمل لأصدقائه، و الذين سيعرضون أنفسهم للخطر بدلا منه. و لكن نوعام لم يسمع. قال أنه ليس من الأخلاقي الخدمة في جيش احتلال. قال شعارات. أنا لا أعرف من غسل مخه."
لم أسمع نهاية الحديث. رن موبايل أمي. و عندما انتهت من الحديث كانتا قد قامتا و واصلتا المسير.
من جانب، أعرف أنه ليس هناك من شيء صادم في هذه الكلمات. ليس بها أي جديد. جنون الأمهات - الجنون كظاهرة كاسحة إلى درجة تحولها إلى نمط، إلى النمطية ذات نفسها - كان منذ بداية تأسيس الدولة هو شرط وجودها.
هذا ليس أمرا هينا. هذا المكان يخلق أمهات يعملن بشكل نشط ضد قيم الأمومة. ضد المشاعر العميقة للأمهات تجاه أبنائهن. هذا مكان يربي أمهات يوافقن - و إن كن لا يفضلن - أن يذهب أطفالهن للجيش، أن يعرضوا أنفسهم لقتل الآخرين و لمقتلهم هم ذاتهم، و بالأصل أن يشاركوا في الفعل اليومي، الوحشي، فعل السيطرة على شعب آخر. الأمهات يشاركن بشكل نشط في تقديم أبنائهن كقرابين، شريطة ألا يشذ الابن القربان عن النمط. هذه هي النمطية "الإسرائيلية" في قمة مرضها. كأنما أي خيار آخر للأمهات هو خيار منحرف.
من ناحية أخرى- شيء مؤثر جدا سماع حوار كهذا في أيامنا. لم يعد هناك رفيقات كثيرات "مستهلكات، غربيات، رأسماليات، يبدين أحرارا" على هذه الشاكلة في العالم. كل العمليات الثقافية، الاقتصادية، الاستهلاكية التي تدور هنا تؤدي في الظاهر إلى مجتمع يفضل التحقق الذاتي، الفردية و الراحة على التضامن، الإحساس القومي و تقديم أنفسنا كقرابين.
إذن كيف حدث هذا؟ كيف لا تزال توجد - في مقابل ثقافة العقارات، الضواحي، الاستمتاع، الخصخصة - هذا النمط المجنون في أساس الصهيونية، النمط الذي يمكننا من إيجاد نوع كهذا من الأمهات، يرسلن أبنائهن للجيش، حتى و إن رفض الأبناء أنفسهم، حتى و إن كان الأبناء أنفسهم يرغبون في الثورة، في الرفض، في إنقاذ أنفسهم؟
***
لماذا تفعل الأمهات هذا في إسرائيل؟ حاول أكثر من قارئ الرد. تطرق البعض إلى غريزة الأمومة بالتحديد: "لماذا الأمهات هن الأكثر تعرضا للإصابة بهذا الجنون؟"، غير أن الغالب كانت الردود التي حاولت إسباغ هالة القداسة على الجيش، على عملية القتال، من خلال إعطائها بعدا إنسانيا دفاعيا، ضد العرب البرابرة. يقول أحد القراء: "غريزة الأمومة تقضي بتوجيه الأمهات أبنائهن للجيش لأنه حتى إذا لم يذهبن الأبناء للجيش فحتى الأمهات سوف يذبحن على أيدي القتلة العرب." و يقول آخر ردا على كاتبة المقال: "الأمهات هن بشر يجب عليهن أن يحسسن بالمسئولية و الالتزام تجاه المجتمع. تخطئين و تضللين القراء عندما تعرضين هذا الصراع كأنه اختيار بين حب الابن و بين حب الحرب. بين الحياة و الموت. بديهي أن الأمهات يعرفن أنه إذا اخترن كلهن عدم إرسال الابن للجيش فلسوف يموت الأبناء سويا مع الأمهات. هذا بسيط جدا. الأمهات يرسلن الأبناء للجيش بسبب حبهن لهم و بدافع المسئولية تجاه المجتمع الإنساني من حولهن المسمى بإسرائيل."
هذه هي النبوءة الكابوسية التي بنى عليها كل الجيش الإسرائيلي شرعيته منذ النصف الأول من القرن الماضي: لو لم نفعل هذا لكان العرب قد ذبحونا كالنعاج. و لأن النبوءة الكابوسية لا تتحقق أبدا، لأن العرب لم يكونوا أبدا في موقف قوة يسمح بذبح اليهود كالنعاج، و من ثم فلم يختبرها أحد أبدا، فإن استخدامها ما يزال ساريا. هكذا يتم هدم البيوت، مصادرة الأراضي، بناء المستوطنات، إقامة الحواجز، حبس المزيد و المزيد من الفلسطينيين و القتل اليومي لهم، بل و حبس من يرفضون الخدمة العسكرية من اليهود، تحت غطاء هذه النبوءة التي يمكن إضافة المزيد من المؤثرات إليها: نبوءة ذبح الابناء مع الأمهات. بالمناسبة: تعزز هذه النبوءة في هدف آخر لها من الصورة العنصرية عن العرب. العرب قوم غادرون و لا أمان لهم و سفاحون و لكن الأدهى أنهم شياطين. هم سوف يأتون بنهاية العالم. منطق هذه النبوءة مستقى من الرؤى الأخروية عن يوم القيامة. دمار عظيم. نهاية العالم. هذا ما سيحدث إن رفض الأبناء تقديم أنفسهم قرابين على مذبح الصهيونية، على مذبح الأم المفترضة لجميع اليهود. الأم التي لا تفكر و لا تراجع نفسها. يقول قارئ آخر: "بخصوص الأم الوطنية، تأملوا حججها ضد رفض الخدمة العسكرية: " لا يهمه خجل أبيه منه، لا يهمه إن نظر إليه أصدقاءه من فوق لتحت" أي أنها المحافظة في أسوأ صورها، ماذا سيقول عنه الجيران؟ واضح أن الابن الرافض للخدمة العسكرية يعرف جيدا أي جيش هو لا يستطيع الخدمة به، هو جيش احتلال، يحمي مشروع المستوطنات، و التي هي جريمة حرب، يضع الفلسطينيين على الحواجز في داخل الضفة، و يذل الأمهات و الأجداد أمام أحفادهم. أكيد أن كل شيء يتم فعله لأجل منع مجيء المخرب القادم. و لكن ألم يخطر على بال أي شخص فوق، موفاز أو حالوتس أو سائر أبطال السلاح، أن هذا المخرب الذي يهددنا هو مجرد رد على الاحتلال و القمع اللانهائيين."
و لأن لا أحد يفكر في هذه المسيرة المسرنمة نحو العنف الأعمى، فالجميع جاهز لطرد أي دليل على الصحوة أو التمرد. يقول قارئ: "أعتقد أن أغلب الأمهات الإسرائيليات يفضلن أن يخدم أبنائهن في الجيش، برغم الخطر الكامن في هذا، بسبب خوفهن من تقيء المجتمع و الوعي الإسرائيليين لهم إذا رفضوا أن يلبسوا البزة العسكرية."
كل شيء هنا مبني على الخوف، الخوف من طرد الرافضين، الخوف من الرؤية، الخوف من حب الأبناء فوق الحد، ولكن بالأساس الخوف من التعبير عن هذا الحب. تقول أم بلهجة مختصرة: "أخيرا قال واحد ما شعرت به كأم لسنوات.". و تصرخ أخرى: "حرب 48. حرب 56. حرب 67. حرب الاستنزاف. حرب لبنان. الانتفاضة الجزء الأول و الانتفاضة الجزء الثاني. قرفنا. نريد الهدوء.لا ترسلوا أبنائنا كقاربين على مذبح الإله الأمريكي".
قاص و روائي من مصر
naeleltoukhy@yahoo.com