زلَّة لسان أم عثار رأي!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"ما هكذا تورد الإبل يا سيادة الرئيس."
كم عزيزة كثيرة العشَّاق مصر علينا. نحبِّها من كلِّ قلوبنا ودمنا. أيُّ مثقَّف أو دارس أو مفكِّر أو فنَّان (بشتَّى دروب الفن والأدب) عربي لم ينهل من معينهاِ! فمَن أراد أن يُثري ثقافته ويكمل علمه ويروي عطشه للمعرفة شدَّ الرحال إلى كنانة الرحمن. أنبياء الله شربوا من ماء نيلها وأكلوا من طيب جنيها وتابعوا رسالة السماء بين أهلها. وأدرك النبيُّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ما لمصر وشعبها من مكانة تنفرد بها بين أراضي الله الواسعة وقبائلها وشعوبها فهاب بأنصاره ومهاجريه وهم بعد في براعم نبتهم أن اقصدوا أرض النيل لتظهر رسالة الله نورًا يقبس منه بنو البشر فيهديهم سواء السبيل. وما أن استوى عودهم وأينع زرعهم حتَّى ساروا إليها، فتقبَّل أهلها رسالة الوافدين واعتنقوا دينهم وسرعان ما أصبحوا هم الحُماة ومتَّنوا الأساس ليرتفع عليه البناء شامخًا بأبواب مشرعة يتَّسع لكلِّ مَن يمَّم وجهه شطر هذا البلد الذي كرَّمه الله بشعب طيِّب جمع التراث منذ الأزل وكأنَّ الإنسانيَّة كلَّها أستُغرقت فيه.
في مصر تثبَّت الأديان السماويَّة، ومنها انطلقت. في مصر كان أفذاذ اللغة العربيَّة نثرًا وشعرًا تأليفًا ونشرًا يخرجون بمصابيحهم لتنير دياجير الظلام في الوطن العربي مترامي الأطراف. وإلى مصر، توجَّه الشعراء والإدباء ليقبسوا من العلوم والآداب. في مصر بُعثت النهضة الحديثة لتواكب التطوُّر والتقدُّم اللذين خطَّهما الغرب. في مصر اجتمع عقد الدول العربيَّة في جامعة كانت محطَّ الأنظار للشعوب العربيَّة ومعقد الآمال. في مصر بدأت ملامح الديمقراطيَّة بمفهومها العصري تُرسي دعائمها. في اختصار، كانت مصر الدليل والمعيار، وتسابق العرب حكَّامًا وشعوبًا لحذو مثالها ومحاكاة نهجها. ومهما اختلف العرب في سياسة مصر وإدراك حكمة قادتها وسلوك أبنائها، ومهما أظهر هذا الزعيم أو ذاك من كره أو عداوة مع قادتها أو كتمه في صدره، كان مآله أن يثوب لرشده ويرى في مصر ما أخفاه انفعاله عن بصره وبصيرته.
هكذا على مرِّ العصور، وعلى تعدُّد قادتها ونظام حكمهم، تبوَّأت مصر مركزًا لا تنازعه فيها دولة عربيَّة، ولا يكون لها شأن بدونها. أصبح المصريُّون مضرب المثل، وغدوا المثال لنا في سلوك وقيم. فملوك مصر قبل عصر الثورة الحديث، كان يجمع بين حكمة القائد وتقاليد الشعب من تراثه متعدِّد المناهل، وحتَّى في أحلك الساعات وأعتى الظروف، كان الحاكم يتحلَّى بصفات رجل الدولة وحنكة السياسي. ومن خلال التجربة والممارسة، أدرك أنَّ الارتجال ونوبات ردود الفعل في السياسة لا تُجدي فتيلاً وتعود بالندم والخُسران على قائلها وعلى مَن فيه قيلت إذا كانت الإجابة عنها ردود فعل وانفعال آخَرين. وفعلاً اتِّسم السلوك المصري بالحكمة والتعقُّل، ولا سيَّما في سياسة مصر الخارجيَّة.
منذ مطلع خمسينيَّات القرن الماضي عندما أطاحت الثورة بالحكم الملكي، وحدث تغيير جذريُّ في المجتمع المصري، حافظ الشعب على تقاليده وتراثه وعلاقاته بالشعوب العربيَّة تخصيصًا، واحترم قادة الثورة هذه الميزة والخصوصيَّة في شعب مصر، وأبقوا عليها غالبًا. أبتعدوا عن الارتجال في السياسة إلاَّ ما ندر، فحافظت مصر على ريادتها، والشعوب العربيَّة على تأكيد دور مصر وإبقائه الدليل الصحيح والنهج القويم الذي يرى في الظروف السائدة والواقع السياسي العالمي ضرورة مسايرة المتغيِّرات، وربَّما الأخذ بها، مع الإبقاء ما أمكن على الثوابت. وخير دليل على ما أودُّ قوله هو موقف المرحوم السادات، وحكمته التي غابت عن الأنظار آنذاك لنعود ونرى جدواها، ولكن بعد أن دفع حياته ثمنًا لها. وإذا كان العرب شعوبًا وحكًَّامًا قد اختلفوا في أحكامهم على السادات، فإنَّهم بلا شك جميعًا باتوا يدركون حكمته، وها هم يحاولون محاكاته وربَّما يلومون أنفسهم على عدم نضجهم السياسي آنذاك، ولو فعلوا لكان واقعنا العربي غير ما هو عليه الآن! واختزلوا كلَّ سنين الضياع التي نعيشها.
التغيير المفاجئ وغير المتوقَّع من الرئيس حسني مبارك الذي كان حتَّى أوَّل أمس يجسِّد الحكمة المصريَّة في توجيه السياسة الخارجيَّة وإبقائها على صراطها الذي حاز إعجاب العدوِّ قبل الصديق، كان الهزَّة العنيفة والصدمة العاتية ليس لنا نحن العرب وغير العرب من أهل بلادنا في سورية ولبنان والعراق وفلسطين على وجه التخصيص، وغيرها حيث ينتمي لها أهلنا الذين يعتنقون المذهب الجعفري وغيره من المذاهب الشيعيَّة، ولكن للمصريِّين أنفسهم الذين هالهم تصريح الرئيس عن "الشيعة العرب" وولائهم لإيران. أقول هالهم، ولست مبالغًا، فالألم الذي لمسته في نفوس الإخوة المصريِّين المغتربين مسلمين وأقباطًا، والامتعاض الذي يشوب أحاديثهم من تصريح رئيسهم يكاد يذهلهم، ويتوجَّسون خيفة من مغبَّته، وهم بكل تأكيد في غنًّى عنه. وربَّما لخَّصت مجمل أحاديثهم وألمهم وخيبة أملهم في رئيسهم في كلمات موجزة: مَن المستفيد من تصريح مرتجل وانفعاليٍّ يصبُّ الزيت على النار؟ وبأيِّ حقٍّ يُجمل الرئيس مبارك أبناء الطائفة الشيعة العرب كلَّهم، ويتَّهمهم في ولائهم؟ مَن الذي طلب من الرئيس مبارك أو شجَّعه على أن يخرج علينا بتصريحٍ يُعرِّض سمعة مصر ومكانتها ويمسُّ كرامتها من ملايين العرب الشيعة وغير الشيعة، ويبعث على الفرقة والعصبيَّة، ويؤجِّج نارها في العراق ؟ فكيف للأقلِّيات العرقيَّة والمذهبيَّة في البلدان العربيَّة أن تطمئنَّ على مستقبلها بين أغلبيَّة تشكِّك في ولاء أبناء تلك الطوائف؟
نحن نعلم افتقار بعض الحكَّام العرب للحكمة والحنكة عندما يتعلَّق الأمر بخطبهم وتصريحاتهم، ولا سيَّما إذا كانت مرتجلة. وكثيرًا ما صرفنا النظر عَّما يصدر عنهم لمعرفتنا بأنَّهم هم أنفسهم غير جادِّين فيما يقولون، ولن يترجموا أقوالهم حتَّى إلى شبه أفعال، وينتهي الأمر وكأنَّ الرئيس لم يخطب، وربَّما ينسى الحاكم نفسه ما قاله قبل أن تنساه الشعوب. ولكن أن يصدر ذلك عن الرئيس حسني مبارك، فالعتب كبير، والألم والخيبة أكبر. وقبل أن أتوجَّه بكلامي للرئيس محمَّد حسني مبارك الذي أجل وأحترم وأقدِّر، وأرى فيما قاله زلَّة لسان، وليس عثار رأي. وكونه رئيسًا، ولم تعتد الشعوب العربيَّة أن تسمع من حكَّامها كلمة اعتذار، أستبعد أن يصدر عن رئاسة الجمهوريَّة اعتذار لأهلنا أبناء الطائفة الشيعيَّة.
هل يمكن لتصريح واحد مرتجلٍ من رئيس أن يلغي تاريخ شعب ذي أرومة عريقة في أرض آبائه وأجداده، وأقصد تاريخ الطائفة الشيعيَّة في أقطارنا؟ هل ننسى أنَّ الجامع الأزهر، أوَّل جامعة ربَّما في العالم أسَّسه أجداد مَن يتَّهمون الآن بالولاء لإيران؟ ومَن بنى قاهرة المعزِّ. أبجرَّة قلم نمحي التاريخ ونلغي ناسه! ومن مصر نأتي إلى العراق وسورية ولبنان، فنمرَّ على تاريخ شيعيٍّ ناصع ومضرب المثل في الانتماء للوطن والولاء له أرضًا وشعبًا؟ علماء الشيعة العرب وأدباؤهم أثروا التراث العربي ودافعوا عن التراب بالنفيس والأنفس، فكيف يمكن أن نشكِّك في ولاء أبنائهم وأحفادهم، وهم ما يزالون حصن الوطن ومادَّته. ألم يكن معظم الجنود العراقييِّين الذين جعلهم صدَّام وقود حرب الخليج ضدَّ إيران من أبناء الطائفة الشيعيَّة؟ لمن كان ولاؤهم آنذاك؟ وماذا عن غالبيَّة قيادة بعث صدَّام في العراق، ألم يكونوا من أبناء هذه الطائفة الذين آمنوا بعروبتهم عرقًا وبمذهبهم الشيعي انتماءًا، وعاثوا في العراق تنكيلاً؟ ما الذي جعلهم، في اعتبار سيادة الرئيس حسني مبارك بين ليلة وضحاها بدون انتماء لأوطانهم، واستعاضوا عنه بولاء لإيران؟ إليس الولاء لإيران أفضل من عدم الولاء، أو على الأقل من الولاء لمَن يخطِّط للقضاء علينا كوجود وحضارة وتراث؟
لا بأس، فقد صدر تصريح إيضاحي عن رئاسة الجمهوريَّة، فجاء حييًّا بلا جوهر، وتبريرًا فاقد المعنى ومتفقرًا إلى الكياسة، وكأنَّه يرشُّ الملح على الجرح. هل الحفاظ على وحدة العراق أرضًا وشعبًا بحاجة لتصريح يزيد الفرقة ويساعد على العصبيَّة البغيضة التي يدَّعي توضيح الرئاسة أنَّها كانت القصد من تصريح الرئيس مبارك. توضيح الرئاسة لم يصِّحح خطأ، ولا أزال لبسًا. على العكس أكَّد أن الرئيس لا يخطئ وبالتالي لن يعتذر. إذا كان ولاء أبناء الطائفة الشيعيَّة العرب لإيران، فلمن يكون ولاء أبناء الطائفة السنيَّة، والدروز وأبناء الطوائف المسيحيَّة المتعدِّدة؟ شرذمة أبناء الشعب الواحد وتصنيف أبنائه حسب انتماءاتهم المذهبيَّة الخطوة الأولى في ضياع الوطن وخسران الذات. ومتى كان التعميم في إدانة أو عقاب القولَ الفصل في السياسة أم الحكم! "ما هكذا تورد الإبل" يا سيادة الرئيس. وما هكذا عهدنا مصر، ولا هكذا عرفنا رئيسها.
أمَّا أهلنا وأبناء قومنا الذين ساءهم ما سمعوا من الرئيس مبارك، وامتعضوا ممَّا أوضحه البيان الرئاسي، فهم مدركون سواء أكان زلَّة لسانٍ أم عثار رأي، أنَّه لن يزعزع إيمانهم بانتمائهم ولا ولاءهم لأوطانهم، ولسان حالهم يقول: "فواعجبًا كم يظهر النقصَ فاضلُ!"
أمران خطران يفتكان بجسد الأمَّة العربيَّة العصبيَّة القوميَّة الجاهلة، والتطرُّف المذهبي المقيت. الأوِّل لا علاقة له بالأرض والآخر لا علاقة له بالسماء. عصبيَّة صدَّام العربيَّة أوردتنا موارد الهلاك، ويدفع أبناء العراق شيعة وسنَّة ثمن وبائها الباهظ. وعصبيَّة بن لادن المذهبيَّة كانت وبالاً عن المسلمين، ويدفع أبناء الشعب الأفغاني ثمنًا باهظًا كذلك، وتشوَّه صورة المسلمين حيثما كانوا خارج بلدانهم.
أرجو مخلصًا أن تكون زلَّة لسان من الرئيس مبارك، لا عثار رأي.
كاتب المقالرئيس المركز العربي الكندي للثقافة والإعلام - أوتاوا
عضو مجلس إدارة نادي الصحافة الوطني الكندي.
editormurad@rogers.com