لماذا قالوا بالاجتهاد وحاربوا المجتهدين؟

يمثل الاجتهاد في المسائل الفقية نقلة نوعية فتحتها المدرسة الشيعية في القرن السابع الهجري على طريق أغناء فقه مذهبها الذي بنيت عقائده على أسس تعارضت مع أصول المدرسة السنية التي كانت السباقة في فتحت باب الاجتهاد في هذا لمجال. حيث يعتقد العلما ان الاجتهاد عند السنة ابتدأ مع الصحابي الجليل معاذ بن الجبل الذي (رض) حينما أراد النبي (صلعم) أن يبعثه إلى اليمن قاضيا، فسأله: بماذا تقضي؟ فقال: بكتاب الله ، فقال النبي: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول اللّه، فقال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي. وهذا الحديث كالنص على أن الاجتهاد عند معاذ كان مصدرا من مصادر القضاء بعد فقدان الحكم في الكتاب والسنة. أما الشيعة فكان الاجتهاد عندهم بمنزلة القياس. و قد ذكر الطوسي المسمى بشيخ الطائفة (385 - 460هـ) في كتابه "عُـدّة الأصول" ما نصه: وأما القياس والاجتهاد فعندنا أنهما ليسا بدليلين، بل محظور استعمالها.".
غير أن الشيخ نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي (م 676هـ) المعروف بالمحقق الأول- كان هو أول من أطلق استعمل كلمة "الاجتهاد" وعمل به وذلك حسب ما جاء في كتابه "معارج الوصول في علم الأصول". وقد زادت حركة الاجتهاد في المدرسة الشيعية مع ظهور التيار الأصولي الذي ساد فيما بعد في الحوزة العلمية، والمعني بالأصولية ليس المفهوم الحالي له والذي بات يرمز للسلفية المتشددة وإنما هو ما اصطلح على تسميته (بالعقلانية) التي نشأت في الحوزة العلمية مقابل الإخبارية التي كانت سائدة آنذاك والتي يمكن تسميتها بالسلفية الشيعية المتحجرة في المسائل العقائدية والفقهية.

والتيار الأصولي هو الذي التزم واعتمد أصول الفقه العقلي في الاستنباط. وأصول الفقه العقلي هي الأصول المستقى من مبادئ العقل ومعطياته أما التيار الإخباري والذي قاده في بادئ الأمر الشيخ محمد أمين الاسترآبادي (توفي سنة 1036) ومن بعده الشيخ يوسف البحراني (1186 هـ، -1107هـ،) فأنه يعتمد أصول الفقه ألنقلي في الاستنباط وهذا التيار يرفض عملية (الاجتهاد) و (المجتهدين) ويعتبر ذلك بدعة في الدين، ويرفض تقسيم الشيعة إلى مجتهدين ومقلدين وهو بالتالي يرفض الاعتراف بأية ولاية (للفقهاء) الذين يعتبرهم منحرفين عن خط أخبار أهل البيت كما يرفض عملية (التقليد) ولا يجيزه إلا للأئمة (المعصومين). هذا التيار كان ولعدة قرون هو السائد في الحوزة العلمية حتى جاء الملا محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني (1205 هـ - 1118 هـ)، وتبنى إعادة فتح باب المدرسة الأصولية.

يذكر إن الصراع الذي دارت رحاه بين الأصولية والإخبارية قام على اثر تطوير نظرية النيابة العامة للفقهاء إلى نظرية سياسية وذلك بهدف منح المولوك الصفويين شرعية الحكم بالوكالة عن (نائب الإمام المهدي: الفقيه العادل) وهو ما أدى إلى حدوث انشقاق عميق وعنيف في الحوزة العلمية عرف بالصراع الإخباري - الأصولي وقد امتد هذا الصراع إلى وقتنا الراهن ولكن بدرجة اخف مما حدة مما كان عليه في القرون السابقة وقد افرز هذا الصراع انشقاقات عديدة في جسم الطائفة الشيعية الأثني عشرية أدى إلى ظهور تيارات متصارعة عملت على تخطئة بعضها البعض. ومن أبرز هذه التيار (الشيخية ) التي ظهرت في أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري وقد سميت بذلك نسبة إلى عميد مدرستها الشيخ احمد زين الدين الأحسائي ـ1243 هـ 1166هـ الذي كان يرفض (الاجتهاد) وكان يدعي العلم عن طريق المكاشفة والشهود وقد ظهر تياره مع قيام الدولة القاجارية في بلاد فارس وتسلم فتح علي شاه القاجاري زمام الملك وكان القاجاري تبنى نظرية الشيخية كغطاء شرعي لحكمه كما فعل الصفويون عندما اتخذوا من فتوى الكركي غطاءا شرعيا لهم. وقد انبثق من تيار الشيخية حركة عرفت باسم الكشفية التي قالت (بالركن الرابع ) والركن الرابع هو زعيم الحركة الحاج محمد كريم خان القاجاري احد أفراد الأسرة القاجارية الحاكمة، و قد تطورت الحركة الشيخية الإخبارية وتشعبت إلى فرقة جديدة أخرى هي (البابية) التي قادها تلميذ للملا كاظم الرشتي هو , الميرزا علي محمد الشيرازي، حيث اخذ يدعي انه نائب الإمام المهدي المنتظر (محمد بن الحسن العسكري) الخاص وانه (باب إمام الزمان)، و هي الحركة التي تفرعت منها الفرقة البهائية المعروفة.

ومن الملاحظ إن المدرسة الأصولية ورغم النقلة النوعية التي أحدثتها في الاجتهاد الفقهي إلا إنها بقيت مقلدة للمدرسة الإخبارية في باب العقائد وقد تعرض الكثير من المجتهدين الأصوليين الذين سعوا إلى مجرد تهذيب بعض الروايات المتعلقة بالمسائل العقائدية إلى الطعن و التسقيط من قبل زملائهم. ومن ابرز المجتهدين الذين تعرضوا لعملية التسقيط في عصرنا الراهن السيد محسن الأمين ألعاملي(1371-1284هـ) الذي أبدى رأيه الاجتهادي بخلاف الرأي السائد في مسائلة عاطفية وهي مسألة التطيير (شق الرؤوس في يوم عاشوراء) حيث أفتى بحرمة ممارسة شق الرؤوس ولكنه تعرض اثر ذلك لحملة عدائية من مراجع الحوزة إلى حد اتهامه (بالزندقة) وقد هجاه الخطيب العراقي الشهير السيد صالح الحلي بقصيدة طويل قال فيها: (وإذا مررت بجلق فبزق بوجه امينها المتزندق).

وقد تعرض كبير المجتهدين السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 هـ،) لحملة بلغت حد فصل مقلديه من الدوائر الحكومية في إيران وحرق مكتب ممثله في قم منتصف الثمانينيات وذلك على اثر مخالفته لنظرية ولاية الفقيه. كما شنت الحوزة والحكومة الإيرانية حملة تشهير واسعة ضد المجتهد السيد محمد الشيرازي (ت 1422هـ ) وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله لمدة أكثر من عشرين عاما وسجنت عدد من أبنائه وأنصاره وذلك كله بسبب رأيه القائل بنظرية شورى الفقهاء بدلا من نظرية ولاية الفقيه.
وهناك مجموعة أخرى من المجتهدين الشيعة تعرضوا للمحاربة وحملات التشهير بسبب أرائهم الجريئة ومنهم السيد محمد حسين فضل الله، الذي أدى اجتهاده في مسألة تاريخية لم تثبت صحتها لديه كما قال ( أكذوبة كسر ضلع الزهراء على يد الخليفة الثاني ) كان رأيه في ذلك سببا لكي يتعرض لحملة تشهير قادها بعض كبار ملالي الحوزة قم وعلى رأسهم الشيخ جواد التبريزي الذي أفتى (بضلال) العلامة فضل الله.

ولكن لماذا كل هذا التناقض بين القول بجواز الاجتهاد ومحاربة المجتهدين؟ ومن هو المحرض وما هي الداوفع التي وقفت وما تزال وراء هذه الصراعات والمتناقضات ؟.
خلال متابعة سير الأحدث يجد الباحث أن نتائج الاجتهاد الفقهي عند المدرسة الشيعية أصبحت مرهونة بالمصالح السلطوية والمنافع القومية للأنظمة الفارسية المتعاقبة (الصفوية القاجارية والبهلوية وأخيرا نظام ولاية الفقيه ) و أي اجتهاد يتعارض مع سياسة السلطة الإيرانية يتعرض صاحبه إلى اشد العقوبات وهذا ما جرى مع مراجع كبار من أمثال الشيخ محمد طاهر الخاقاني الزعيم الوطني والديني لشعب الأحوازي و الكلبايكاني والمنتظري والروحاني و الشيرازي و غيرهم من مراجع الشيعة.
ولكن مما يؤسف له ان الذين تحركهم الأحاسيس العنصرية و النعرات الطائفية يحاولون القفز على هذه الحقايق ويندفعون من دون حكمة أو مسؤولية إنسانية للدفاع عن الأنظمة الإيرانية الظالمة وحوزتها المتشبعة بأفكار الحركة الشعوبية ويجهلون مرتكبته هذه الحوزة من مظالم بحق أهل البيت (ع) الذين هم ابعد مما ينسب لهم من هرطقة مزدكية ومانوية وكسروية مجوسية.