حُكّ لي، فأحكّ لك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مثلما أنّ السّلطة السّياسيّة العربيّة تهزأ بالمواطن العربي، ومثلما أنّ السّلطة الدّينيّة تهزأ بعامّة النّاس، كذلك فإنّ السّلطة الثّقافيّة العربيّة تهزأ هي الأخرى بالقارئ العربي على ضآلته أصلاً. نعم علينا أن نُصارح أنفسنا بأن نُشهر على الملأ بأنّ هنالك سلطة ثقافيّة عربية هي أشبه بالجمعيّات السرّيّة الّتي لا همّ لها سوى إعلاء شأن المنتمين إليها، أكان هؤلاء من زُمر السّلطة السّياسيّة أو المنتمين إليها أو من زمر الصّحافة ووسائل الإعلام العربية.
لذلك فإنّ الحديث عن النّقد في العالم العربي، مثله في الواقع مثل الحديث في كلّ شيء، ليس بالأمر السّهل. فعندما تعرض تقارير التّنمية البشريّة الصّادرة عن الأمم المتّحدة وضعًا يفضح مأساة انعدام القراءة تقريبًا ومحدوديّة النّشر والتّوزيع في العالم العربي، كيف يمكن الحديث عن نقد الأعمال والنّتاجات الأدبيّة والفكريّة. وعندما نضيف إلى كلّ هذا انعدام الحريّة الفكريّة في جميع المجالات الحياتيّة، فكيف يمكننا أن نتحدّث عن نقد وعن حركة نقديّة حقيقيّة تتّسم بالصّراحة، ناهيك عن المحظورات والممنوعات على جميع أشكالها.
العالم العربي المعاصر يعيش ومنذ عقود طويلة داخل حلقات متداخلة من سلطات الكبت، سلطة سياسيّة مؤبّدة، أكانت تلك ملكيّة أو ما يشبهها من بدع العربان، وهنالك سلطة دينيّة تُكفّر كلّ بصيص من عقل، ثمّ سلطّة ثقافيّة رسميّة وشعبيّة متّسمة بالعمالة لكلّ هؤلاء إضافة إلى عمالتها لثلّة من أسماء متكرّرة ذات طابع مافيوزي. ومثلما لا يوجد على العموم نقد للسّلطة السّياسيّة والدّينيّة، فلا يوجد نقد للسّلطة الثّقافيّة، لأنّ الثّقافة العربيّة هي في نهاية المطاف ثقافة سلطويّة. بمعنى أنّ ثمّة من وضعوا أنفسهم قيّمين على السّلطة الثّقافيّة في وسائل الإعلام العربية، وهو وضع لا مثيل له في سائر بلاد العالم المتحضّر. ففي وسائل الإعلام العربيّة هنالك محرّرون ثقافيّون قد نصّبوا أنفسهم سلطة ثقافيّة يقيمون العلاقات الشّخصيّة مع بعض الوجوه الّتي تتكرّر دائمًا على الصّفحات ذاتها بنفس الكلمات والتّعابير دون أيّ نظر إلى أهميّة هذا العمل الأدبي أو ذاك، وكلّ عمل أدبي يأتي من هؤلاء يتمّ وصفه بأنّه فتح أدبي جديد وما إلى ذلك من بلاغة العرب البلهاء والبليدة.
فهذا محرّر أدبي في صحيفة هنا يكتب أو يستكتب مقالات أو مقابلات مع محرّر أدبي في صحيفة أخرى، وينتظر منه أن يكافئه هذا الأخير باستكتاب مقالة أو مقابلة عنه في صحيفته هو. وهكذا تتكرّر الكتابات عن هؤلاء الشّخوص أو عن المحرّرين الثّقافيّين الّذين يكتبون في النّهاية عن أنفسهم بطريقة مواربة، على طول العالم العربي وعرضه، سيرًا على مبدأ "حُكّ لي، فأحكّ لك".
المحرّرون الثّقافيّون في صحافات العالم الآخر ليسوا كُتّابًا وليسوا شعراء، أو أنّهم علي الأقلّ لا يُعرّفون أنفسهم بهذه التّسمية، وإنّما ينصبّ جلّ اهتمامهم على الحال الثّقافيّة في بلادهم والعالم على العموم. ولهذا السّبب فإنّنا نرى أنّ النّقد في العالم المتحضّر، يأتي من مكان آخر، من مكان حرّ، لا سُلطةَ فيه تقريبًا للكتّاب ومن تبعهم من المحرّرين الغاوين. لذلك أيضًا، نرى أنّ العالم المتحضّر يفسح المجال لأصوات جديدة لم يسمع بها أحد من قبل، بينما الوضع في صحافة العربان بخلاف ذلك تمامًا، فلا جديد تحت شمسهم. لأنّ أسماء المحرّرين الثّقافيّين الّذين يستكتبون بعضهم بعضًا هي شموس بينما الآخرون كواكب، إذا طلع هؤلاء المحرّرون لم يبد من الآخرين كوكب. إذن، يمكننا أن نقول إنّها حالة ثقافيّة حداثيّة لسلطة العربان الثقافية القبليّة المتوارثة أبًا عن جد. أليس كذلك؟