كتَّاب إيلاف

الإسكندرية .. وثقافة استعمال الخارج

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من كان يتجول في مدينة الإسكندرية قبل "جمعة الآلام" التي تعرض فيها المصلون المسيحيون المسالمون لاعتداء وحشي على يد مهووس دينياً لم يشاهد أمراً غير مألوف، فقد بدت المدينة كعادتها، المقاهي تعج بروادها، والبحر يدغدغ شواطئها بأمواجه، قاطرات الترام تكتظ بالركاب، لكن هناك ما هو أبعد من كل هذه المشاهد، يمكن للمرء أن يستشفه ببعض التأمل في وجوه أبناء المدينة التي كانت حتى سنوات قليلة خلت "أيقونة للتسامح"، قلما وجدت مدينة مصرية أو شرق أوسطية تنافسها في هذه الصفة وشأن كافة الموانئ، كانت الإسكندرية مرفأ إنسانياً طالما احتفى بالآخر، فخلافاً لحواضر الوادي والبوادي المتوجسة دائماً من الغرباء، كانت الإسكندرية مدينة "كوزموبوليتانية" نموذجية، تعيش فيها أكبر الجاليات الأجنبية في حوض المتوسط، فخلف كل حجر بها كان هناك "جريجي" أو يوناني، وأمام كل ماكينة كان هناك "طلياني" أو إيطالي، ووراء كل قاعة من قاعات عرض التحف التي اشتهرت بها المدينة كان هناك فرنسي، فضلاً عن الأرمن والألبان والتشيك والأسبان وغيرهم من أجناس الأرض.
الآن صارت الإسكندرية عاصمة "الخلافة الإخوانية" المنتظرة، فأبناؤها الذين طالما شكلوا قاطرة للتقدمية، انحازوا إلى السلفية بوضوح، إذ انتخبوا ثمانية من جماعة "الإخوان المسلمين" نواباً في البرلمان، لتصبح بهذا أكبر تمثيل لها في مصر، وربما ما شهدته المدينة من خلل ديموغرافي بسبب موجات الهجرة من الريف التي كرست "ترييف المدينة"، وبدلاً من أن تحتوي القادمين من الريف حضارياً، فرضوا قيمهم عليها، لدرجة أن الإسكندرية التي كانت عاصمة الاستجمام والترفيه في مصر صارت مسرحاً للمصادمات الطائفية الدامية، وحاصرتها العشوائيات القبيحة، وتفشت فيها ثقافة التعصب على نحو ينذر بمخاطر يعلم الله مداها.
وما حدث في كنائس المدينة ليس إلامحصلة لسلسلة من التراكمات المتقيحة لعشرات العلل، فالحكاية أبعد من مجرد اختزالها في ممارسات شخص وصف بأنه "مختل"، فالخلل الحقيقي ليس في رأس هذا الشخص، بل في اتساع مساحة "المسكوت عنه" من هموم الوطن والمواطنة، ولعلي ـ خلافاً لكثيرين ـ ممن يتلمسون جوانب إيجابية في مأساة "جمعة الآلام"، إذ أن ما حدث ربما يكون كفيلاً بفتح كل الجراح وتنظيفها بعمق، وتسمية الأشياء بمسياتها، وإثارة القضايا التي طالما آثر الأقباط السلامة بعدم الاقتراب منها كحقوقهم السياسية المهدرة، وتفشي الهوس الديني على نحو جعل من المصادمات الطائفية خبزاًً يومياً، وفي المقابل ذلك الانسحاب القبطي الذي يجعل حتى المتعاطفين معهم من غير المسيحيين يستشعرون الحرج ، وهم يسمعون صوتهم أعلى من صوت قطاعات عريضة من الأقباط أحياناً، لدرجة بات معها المتطرفون يصفون أي صوت متعاطف مع هموم الأقباط بنعبير "المتأقبطين"، على غرار "المتأسلمين"، ويكيلون لهم كل صنوف التهم من العمالة إلى الخيانة إلى الارتزاق وإثارة الفتن.

..........
تعالوا ننبش قليلاً في جذور المسألة، ودعونا من القصة الخبرية التي بات يعرفها الجميع، فقد شاعت في مصر خلال العقدين الماضيين ما يمكن وصفها بثقافة "استعمال الخارج"، وكالعادة كان الاقتصاد متقدماً على السياسة خطوة أو بضع خطوات، فمثلاً لم يعد هناك من يفكر بشراء قطع غيار جديدة لسيارته إلا مضطراً، لعدم توافر المستعمل منها، التي يستوردها التجار في حاويات ضخمة، ويبيعونها تحت لافتة مغرية باعتبارها قطع غيار "استعمال الخارج"، ثم يتولى البائع بقية مهمة التدليس على المستهلك لترويج هذه السلعة الفاسدة بزعم أنها أفضل من القطع الجديدة، التي يمكن أن تكون مغشوشة، بينما هذه المستعملة أصلية ولم يستغن عنها الناس في "الخارج" لأنها تالفة، بل لأنهم استغنوا عن كل السيارة، وبالتالي استوردها صاحبنا، وقام بتقطيعها إلى أجزاء، ليصل مجمل ثمن السيارة إلى أضعاف ثمنها أحياناً، وصدق البسطاء هذه الخدعة، وتفشت محال "استعمال الخارج" لدرجة جعلت المئات من تجار قطع الغيار الجديدة يشهرون إفلاسهم، أو يتحولون بدورهم إلى تجارة "استعمال الخارج"/
ويبدو أن هذه الثقافة لم تتوقف عند حدود السيارات فحسب، بل امتدت إلى كافة المعدات والأجهزة من البواخر إلى الهواتف النقالة، فمثلاً عرفنا بعد كارثة غرق الباخرة "السلام 98" أنها اشتراها بطريقة "استعمال الخارج" بعد أن جرى تكهينها والاستغناء عن خدماتها في إيطاليا، وقام مالكها النائب البرلماني الذي عينه رئيس الجمهورية شخصياً في البرلمان، بتجديدها وإعادة إصلاح محركاتها وأجهزتها التالفة بفعل الاستعمال الطويل عقوداً ومن ثم أضاف إليها بالمرة طابقين لتتسع لمزيد من الركاب، وحصل على شهادات من هنا وهناك، وبطريقة أو أخرى لتدخل الخدمة، وتنقل آلاف المسافرين من الفقراء، ووفقاً لنظرية "الستر" ظلت الباخرة تمخر عباب البحر الأحمر جيئة وذهاباً إلى السعودية، حتى وقعت الواقعة .
ولأن الأمر لم يعد مجرد سلوك استثنائي بل تفشى لحد إقراره على صعيد المجتمع وسياسات الدولة، وانتقلت ثقافة "استعمال الخارج" من اللجوء للمعدات والأشياء المادية إلى صعيد الأفكار والسياسات والمعتقدات، ففي الوقت الذي تستغني فيه دول المنشأ عن تجارب فكرية وسياسية مثل "الوهابية" و"البعثية" لقيت هذه التجارب سوقاً رائجة في مصر، بل وامتدت ثقافة "استعمال الخارج" إلى الآداب والفنون أيضاً، فهناك من يبشرنا الآن بما يسمى "الأدب الإسلامي"، وعشرات المغنيات والمغنين الفاشلين في بلادهم، صاروا نجوم الساحة في مصر، وهكذا تحولت مصر المبدعة إلى "مفرمة" لتدوير النفايات الصناعية والفكرية والثقافية وحتى الفنية بينما الإعلام الرسمي يزايد على وطنية من يقرع أجراس الخطر، وينبه إلى أن التطرف يؤدي حتماً إلى الإرهاب، وأن من يربي الذئب في بيته لابد أن يلتهم أكباد أطفاله يوماً .
..........
أمام عدد لا حصر له من المساجد في مصر الآن، يمكن للمرء أن يرى مشهداً أزعم بضمير مطمئن أنه دخيل على المجتمع المصري، شباب يطلقون لحاهم دون تهذيب ويرتدون زياً غريباً يتألف من جلباب قصير أسفله بنطلون وفوق الجلباب "جاكيت"، بينما يمسك الشاب بمسواك وينظر شذراً لعامة الناس ممن ليسوا على شاكلته، وفي الجهة الأخرى من تلك المساجد التي يهيمن عليها أئمة سلفيون، هناك حشود من المنتقبات ارتدين ملابس سوداء فضفاضة، غير أنهن لسن كغيرهن من المنتقبات، إذ تأتي كل واحدة منهن بسيارتها الخاصة الحديثة، وربما سائقها الخاص، فهن لسن من الشريحة الاجتماعية المتواضعة التي اعتدنا أن تفرز هذا النموذج إبان عهد انتشار الجماعات الإسلامية الراديكالية، بل ينتمين إلى فئة جديدة تتنامى على نحو واسع وسريع خلال السنوات الماضية، هي "السلفية المدرسية" المنتشرة في السعودية ودول الخليج، وهي مدرسة لها جذورها هناك، لكنها لم تكن يوماً جزءاً من التراث المصري، سواء على صعيد الممارسات والطقوس الشعبية، أو حتى على الصعيد الاجتماعي .
وهكذا انتشر المد السلفي في مصر في الوقت الذي يتراجع فيه حضوره في "بلدان المنشأ"، لكن يتم استحضاره ونشره في مصر بطريقة غير مفهومة، وبذات منطق "استعمال الخارج"، حتى أن هؤلاء السلفيين صنعوا مجتمعات شبه مغلقة، وصار لهم نشاط واسع عبر عنه مؤخراً كيان يسمى "الحركة السلفية من أجل الإصلاح"، ويشار إليه باسم "حفص"، كأول إطار حركي للسلفية في مصر، وعرفت نفسها بأنها تمثل "مجموعة ممن يمثلون كافة شرائح الأمة ممن ينهجون المنهج السلفي في الإصلاح" لكن بعض مشايخهم اعترضوا على الإعلان عن الحركة مؤكدين "أن ظهور كيان حركي مُسيّس يمكن أن يدفع التيار السلفي إلى مواجهة مبكرة مع السلطة، في وقت لم تزل فيه الحركة تتحسس خطاها في مصر، ولم ترسخ قواعدها بعد في المجتمع"، ولأن الخوض في تفاصيل وخلفيات هذا المدّ السلفي المنهجي قد يقودنا بعيداً، سأترك تفسير دلالات ذلك الأمر لفطنة القارئ .

..........
ثمة نفايات أخرى جرى استيرادها من العراق هذه المرة، فبعد سقوط نظام البعث البائد هناك، حمل عدد غير محدد من بقايا البعثيين أرصدتهم المصرفية ، ودخلوا مصر بإذن الله آمنين، ولا مشكلة في هذا حتى الآن، لكن اللافت للانتباه أن صحفاً كبرى ووسائل إعلام حكومية صارت تستضيف هؤلاء "الطلقاء" باعتبارهم الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي، وخصصت لهم مساحات في الصحف والتلفزة وعقدوا الندوات، وفتحوا القنوات مع الأجنحة السياسية للتيارات المتطرفة في العراق، وهكذا انتشرت بضاعة "استعمال الخارج" التي استغنى عنها العراق إلى الأبد، لتجد سوقاً رائجة لها في مصر التي يبدو أن القائمين على أمورها أدمنوا الرهان على المهزومين والمأزومين، وحتى بمنطق البراجماتية السياسية، كان حرياً بالقاهرة أن تعزز صلاتها بالقوى الجديدة في العراق صوناً للمصالح المصرية هناك، لكن بدلاً من ذلك نرى ونسمع الرئيس حسني مبارك يهاجم الشيعة، بينما تفتح القاهرة أبوابها لحارث الضاري وغيره من فلول البعث، بزعم التواصل مع كافة ألوان الطيف العراقي، وهي كلمة حق يراد به باطل، فلا ينبغي أن نزايد على خيارات الشعوب والأمم، بل يجب أن نحترمها، كما يجب أيضاً أن نعرف قدر بلدنا الكبير مصر، فلا نتورط في حروب التصريحات بالوكالة عن الآخرين المتوجسين من العراق الجديد .
من هذه الروافد السابقة وغيرها تشكلت ملامح المأساة التي صنعت مهووسين من طراز ذلك المجرم الذي اعتدى على المصلين المسالمين في كنائس الإسكندرية، ولأننا لا نملك سوى الكلمات فهذه صرخة في وادٍ .. صرخة في برية .. نطلقها لعل هناك من يسمع ويقرأ ويعي ويعنيه أمر هذا البلد، نقولها : الإرهابيون اقتحمونا، سكنوا عقولنا، وعششوا في أفئدة أطفالنا .. يجبرون الجميع على بضاعتهم الفاسدة التي لفظتها الأمم الأخرى، بما في ذلك البلدان التي نشأت بها وترعرعت تلك "النفايات الفكرية"، وأننا لم نعد نمتلك رفاهية التستر والمكابرة واللغو الفارغ، بل ينبغي أن نبدأ من الآن حرباً ضروساً لمواجهة تجار الكراهية، وسماسرة التطرف وأصحاب توكيلات التطرف الفكري والديني، فليس هناك ثمة مفر من الانحياز للمستقبل والكف عن الرهان على المهزومين والمأزومين، والتوقف عن تعاطي المسكنات في مواجهة أمراض قاتلة/

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف